خالد العجيري قصة:
روائي وقاص مصري
gad.ga60@gmail.com
فكرةٌ عبقريّةٌ أنْ أُصبحَ الوسيط بين زوجتي والصرّاف الآلي، أعطيها الرّاتب بعد اقتطاع مبلغ يكفيني لبقيّة الشهر، بينما تحاول هي جاهدة توزيع الدَّخل على متطلّبات أسرتنا؛ نأكل ونلبس ونخرج دون الحاجة لاقتراض أموال تصبح عبئًا على راتب الشهر القادم، وعلى الرَّغم من أنَّها متفرِّغة كربَّة منزل إلّا أنها أصبَحَت في قمّة الانشغال، أصبحتُ حرًّا طليقًا، فرحًا بالمبلغ الخاص بي على الرغم من أنه قليل، وتخلّصت من إغراءات فتارين الملابس لزوجتي وأولادي.
"فكرة رائعة"، هذا ما قلتُه عندما عرَضَت عليّ زوجتي فكرة تغيير ستائر المنزل، ففي صغري كان بيتنا القرويّ خاليًا من الأثاث، ننام على الأرض، يستقبل أبي ضيوفه خارج المنزل على حصير مصنوع من نبات الحلفاء، لا يوجد في بيتنا سوى سرير من الجريد، وخزانة ملابس أمي المهترئة، حتى أبوابها الزجاجيّة التي كانت مصنوعة من المرايا كسرها أخي الصغير، فأصبَحَت عارية لا تصلح لستر شيء.
عندما نلعب لعبة الاختباء، لا يوجد مكان للاختباء سوى تحت الأغطية، يفضح أمرك من خلال تفاصيل جسدك، لذا كم تمنّيتُ أنْ يكونَ بيتنا مليئًا بالأثاث، يموج بالستائر حتى أستطيع الاختباء جيدًا.
الآن حلمي الطفولي يتحقق للمرة الثانية، فوجب عليّ الاحتفال، لذا حصلتُ على أجازة من العمل هذا اليوم، وجلستُ في انتظار مَن ذهبت إلى السوق.
عادت وهي تذمُّ الأسعار، وتمدح ستائر بيتنا، تختلق العديد من المبرِّرات لكي لا تشتري، وهي التي كانت على عكس ذلك تمامًا عندما أعود دون طلبها في السابق، لا تقبل أي مبرِّرات، تتَّهمني بالتَّكاسل عن أداء واجبي نحو بيتي.
تبدَّلت الأدوار أصبحت هي البحيرة وكلماتي الحجر الذي يكدر صفوها، وحجر خلف حجر اتَّصَلَت بصديقة لها خبيرة بالأسواق، اتفقتا على الغد، على الفور أخرجتُ هاتفي متحججًا بمرضي الشديد ومدَّدت إجازتي للغد.
كلما رن جرس البيت تزداد نبضات قلبي وكأنه مركَّب على الجرس، بقيتُ على هذه الحال حتى عادت.
فرَدَت الستائر على المنضدة بنشوة المنتصر، جميعها مخيّطة، مجهّزة على التركيب، على الرغم من فخامة الستائر إلا أنَّ ألوانها باهتة، إلّا واحدة، سألتُ نفسي وأنا أنظر، باستغراب: "كيف استطاعَت أن تشتري القماش وتجهز بهذه السرعة؟! وهل تلك الفخامة فعلًا في متناول يدنا؟!".
نظرت نحوي: "لا تتعجَّب ذهبنا إلى سوق الروبابيكيا وأحضرنا أفضل ما فيه".
كيف استعدتُ أنا البحيرة على وجه السرعة؟! ولماذا تلقي بتلك الصخرة الثقيلة فيها؟! كم تمنَّيتُ لو تركت الأمر سرًّا، خصوصًا وأنّ إحدى الستائر أعجبتني جدًا فهي من قماش القطيفة، ولونها غير باهت.
"الستارة تصلح لأن تكون عباءة شتويّة"، قالت زوجتي، فضحكنا، ثم أحضرت المقص، ظننتها تمزح، شرعت في القص، اعترضتُ بشدة: "كل النقود تحت يدك، ماذا يحدث؟! كيف تقدمين على أمر مثل هذا؟ وهل تدرين أين كانت تلك الستارة؟ وأي بقع التَصَقت بها؟ وما الحالة الصحيّة لأصحابها؟ أهم موتى أم على قيد الحياة؟"، انهلتُ عليها بالكثير والكثير من تلك السلسة الطويلة من الأسئلة، ثم دار سؤال في رأسي.
هل تحمُّل الفرد المسئوليّة يكلِّفه كل هذا الكَمّ من التضحيات؟ وإنْ أرادت زوجتي الإقدام على هذا الأمر بالفعل، كيف تغاضت عن حَرْق النار الذي من الواضح أنه سبب بيعها لأنه بالمنتصف تمامًا.
انتهينا من تركيب الستائر، كانت آخر واحدة هي ستارة الصالة القطيفة، جلسنا أمامها تمامًا، نستريح، ننعش أنفسنا بتناول مشروبًا مثلجًا ونشاهد التليفزيون.
أثناء الفاصل الإعلاني تأملت الستارة ثمة حركة خلفها، نظرت ناحية زوجتي، التقت عينانا وساد الصمت لبرهة، تحرَّكتُ نحو الستارة ببطء وكأني أغوص في الوحل، بينما تراقب زوجتي المشهد بهلع، دخلتُ خلف الستارة، نظرتُ من خلال الثقب، لم أتمكن من رؤية زوجتي، إذ تبدَّل منزلنا إلى آخر، وجدتني خلف الستارة ذاتها أمام شباك صالة كبيرة في فيلا بأثاث ضخم، وسجاد أكثر من رائع، عديد من الصور على الجدران، عدد لا حصر له من الأنتيكات على مناضد صغيرة، اخترق المشهد شاب صغير، وأثناء دخوله أخرج سيجارة محشوّة من جيبه، جلس على إحدى الكراسي، أشعل سيجارته، أخذ نفسًا عميقًا، تلذَّذ به وهو يميل برأسه إلى الخلف، حتى جعل مخه أدنى من فمه، وكأنَّ الدخان مادة سائلة يساعدها على السريان.
أنفاس قليلة بقيت بالسيجارة، عندما هبَّ مسرعًا على وقع أقدام أبيه التي يحفظها جيدًا، قمتُ بسدّ خرم الستارة مخافة أن يكتشفني أحد، فوجدته ملتصقًا بي خلف الستارة.
ـ لا تخف هو يعرف رائحة الميرجوانا جيدًا، سوف ينصرف.
كدتُ أختنق من رائحة دخانه الغريب، قاربتُ أن أفقد وعيي، حتى شعرتُ بخروج الرجل من وقع أقدامه الذي يبتعد، مال الولد ضاحكًا بما تبقّى معه من سيجارة، فأحرقت يدي، أفقتُ وأنا أسحبها، فاصطدَمَت السيجارة بالستارة محدثةً ذلك الثقب الذي كنتُ أسدّه بيدي.
تعجَّبتُ لحياة القصور، إذْ خرَّ الولد مغشيًّا عليه، ودّعتُ خوفي، احتضنتُه، قال: "لا تحاول أنا مَن مات خلف هذه الستارة مستحيًا من والده الذي تركه للمخدرات كنوع من الترويح عن النفس"، ثم تمدّد عن آخره، فوجدتني وحيدًا خلف الستارة.
خرجتُ وأنا أتصبَّب عرقًا باردًا، بينما زوجتي ما زالت تجلس في مكانها ممسكةً بالمقص مفتوحًا وهي تحدِّق بالستارة.