هبه عمران محمود طوالبه
كاتبة أردنية
فازت "ذكريات لاجئ" بالمركز الأول في مسابقة
الإبداع الشبابي- وزارة الثقافة الأردنية للعام 2018 عن حقل القصة القصيرة
hebatawalbeh97@gmail.com
السّاعةُ الخامسة أسمعُ صوت تكبير الفجر، وأسمعُ هديل نسمات الياسمين في ليالي الصيفِ الجافّة، وأنهضُ وكلّي أملٌ بأنْ يكون يومي أفضل. تشرق الشمسُ وتنهض الطيورُ تغرِّدُ لحنَ النّهارِ، وأنا أنهضُ ليومٍ جديدٍ أتناول خيرات تراب الوطن من أناملِ أمي، وأستعدُّ للخروجِ إلى جامعتي وكلّي أملٌ بأنَّ أحلامي وطموحي أصبَحَت تصطفُّ كي تنهَضَ للنضوجِ، أتجوَّلُ في أروقةِ جامعتي برفقةِ أصدقائي تحت ظلِّ شجرة تقينا شمس الصيف الحائرة، وكلّ نهاية يومٍ أعودُ وأدوّنُ مذكّراتي أملًا ليومٍ ما.
كلّ ليلةٍ وليلةٍ لم نُدرك ولن نشعُرَ ولم نتمنَّ بأنْ يكون ذلك هو الّذي حصل في عام 2011؛ بدأ غليان خسارة الوطن تحت مسمّيات الحرية والديمقراطية، وانتقلَ ذلك إلى الوطن كلّه، وكانت الأعراضُ لذلك الدّاء، لم نكُن نحسبُ أنْ تكونَ هي الخرابُ والدَّمارُ والقتلُ والتَّنكيلُ تحت مسمّى الحريّة، الدين، الوطن، أصبحنا عناوينَ في تلفازٍ عريض، ولا يزال ذلك الداء ينتقل؛ فأصبح وطنًا برسم البيع وتحت حكم منظمة إرهابيّة، وتلك تدَّعي الديمقراطية، وتلك تريد الإنسانيّة... لم نُدرك بأنّ الوطن أصبح يغرقُ في بحارِ رماد الحريّة والديمقراطيّة التي أشعَلَت النّار في قلبِ كلّ مريضٍ وكلّ عدوٍّ.
نقف الآن عند ماذا؟ أقفُ على نافذة شرفتي كي أشرَبَ فنجان القهوة الذي أصبحتُ أُعدِّهُ بنفسي، لأنّ نور قلبي قد اختفى، لا أرى شيئًا سوى صوت الخوف، حتى أشجار الياسمين أصبحت تعود إلى عشِّها، لا أرى الطيور تغرِّد سوى لحن ضبابية وداع الوطن، وحتى صوت الأطفال اختفى، لأنّه أصبح عناوين الصحف، لم يبقَ شيء.
أتناوَلُ القهوة وكلّي خوفٌ وليس أملًا، لأنّ ذلك الأمل قد أعلن الوداع، أغلقتُ على نفسي وأصبحتُ في خيالِ أنَّ الوطن قد عاد، وأمّي توقظني في الصباحِ، وصوتُ نسمات الياسمين يغرِّد في غرفتي، لا...! إنّه الحلمُ لَطالَما حلمنا بهِ.
استيقظتُ على صوت هاتف صديقي يقول لي: "إنّ أوراق الهروب قد نجحت"، لم أتحدَّث، ولم يسمَعْ منّي كلمةً واحدةً، فنهضتُ ومشيتُ في أعماق حارتي، طفولتي هُنا قد مُحيَت، وصوت أمي وأبي... أصدقائي... نجاحي... كلُّ شيءٍ اختفى. أمشي أملًا أنْ أموتَ في الوطن، ولكن ليس برصاصِ هاون أو قذيفة، تحرَّكَت فيِّ مشاعرٌ ما بين الغضب والحزن، أبكي لأنّي لا أرى سوى الخوف... أبكي وأبكي، ذهبتُ إلى جامعتي التي أصبَحَت حطامًا، ولم يكن فيها شيءٌ، صوتُ نسماتِ عبيرِ شبابِنا تحت ظلّ تلك الشجرة اختفى... بكيتُ، لم أستطع تمالك نفسي عن التوّقفِ، اهتزّ جيبي برسالةٍ من صديقي يقول: "حان الموعد للذهابِ"... يا إلهي! لم أتخيَّل ذلك، ولم أفكِّر، ولم أشعُر يومًا ما بأنَّ صوتَ عقارب الساعة سوف يكون نهاية الوداع، عدتُ إلى المنزلِ ورأيتُ أمي تنادي إلى الغداء، وصوت الوطن قد عاد. كلّا كلّ شيء كان حُلُمًا، توجَّهتُ إلى غرفتي، وحزمتُ حقائبي، كنتُ أريدُ أن أحزمَ سماء الوطن ورحيق تراب الوطن وصوت نسمات الياسمين، لم أستطع سوى أن أحملَ ذكرياتي. توجَّهنا إلى الموعد المنشود وتركتُ هناك قلبي في تلك الزاوية، قبّلتُ جدران البيت، وجمعتُ ترابَ الوطن وقبّلتها قبلةَ وداعٍ لم تكد تصل إليها. وصعدنا لكي نغادر إلى سماءٍ بلون الاستقرار وليس الوطن، كنتُ أرى نفسي والآخرين نلهث من أجل الوصول إلى سياج تلك الدولة، واستقبلنا الجيشُ وقال لنا الجنود: "أنتم بأمان الآن". أصبحنا نتوّزَّعُ وأصبح اسمي رقمًا، في الوطنِ مواطنٌ، والآن أصبحُت رقمًا تحت عنوان لاجئ أو نازح أو هارب، أقفُ الآن تحت خيمةٍ من فتاتِ الحريّة وصهيل صوت أحصنة الديمقراطيّة، أقفُ الآن بلا أيّ شيءٍ، لم أكد أرى ولا أسمع، كلّ الّذي أراه ليس الوطن، وكلّ الّذي أسمعه ليس الوطن. ماذا أفعلُ؟ أقفُ ولا أستطيع النوم تحت شمس اللُّجوء الأجنبيّة.
أكتُبُ الآن قصَّتي وأنا في خيمتي التي كانت في وطني بيتًا. بين كلّ حين وآخر أحاول العودة إلى تلك الذكريات أملًا بأنْ أرى أمي ولا أراها، كلُّ ليلةٍ وليلةٍ بمثابة مئويّة الابتعاد عن الوطنِ، نعم مئة يوم وأنا بعيدٌ عن الوطنِ، أكادُ لا أشعر بوخزاتِ الألم، ولا أشعر بهجساتِ مرضي؛ لأنّي فقدتُ قلبي. لم أستطِع العودة، أجلسُ على سرير الشفاء في بلد اللاجئين الأجنبيّ، كلّ ذاك وأنا لا أريد العلاج في سواد الليل الحزين، ألحَّ عليَّ خيالُ الموت بالعودة إلى الوطنِ، وكنتُ أحسبُ أنّي سوف أتنفَّس وأنا أعيش بهواءٍ ليس من هواء وطني، كلا لمْ أستطع، قرَّرتُ... وتوجَّهتُ وعدتُ. وعند سياج الوطن أطلِق عليّ الرَّصاص ظنًّا أنّي إرهابيٌّ يحاول الدُّخول، اخترق صوت الرصاصة صدري، اشتممتُ رائحة الوطن، أُعيدت إليَّ الحرية بالنُّهوض إلى موتٍ مريحٍ في وطني، وأنا ابتسمُ تحت الرَّحمة، كنتُ أشعُرُ بكلِّ ذلك وأنا أسمعُ صوتَ الأطباء ينادون: "إنّنا خسرنا المريض"، وكنتُ ما بين الوطن واللاوطن؛ أنْ أعودَ وأنْ لا أعود.
ودُفنتُ هناك في الوطنِ من رحمةِ الشفقة، لأنّي كتبتُ "أعيدوني إلى وطني"، الآن أشعُرُ بالرّاحة، لأنّي في رحمةِ ذاكرةِ وطن.