محفظتي الماليّة

قصة: ستيفن ليكوك*‏

ترجمة: حسام حسني بدار

كاتب ومترجم أردني

hb_6666@hotmail.com

 

دُخولي إلى المصرف يثير رهبتي، كَتَبَة الحسابات يثيرون رهبتي، شبابيك الصرّافين تثير ‏رهبتي، رؤية النقود تثير رهبتي... أيّ شيء وكلّ شيء يثير رهبتي. وفي اللحظة التي ‏أجتازُ فيها عتبة المصرف لإجراء أيّ معاملة ماليّة أتحولّ إلى أبله عديم المسؤوليّة. ‏

كنتُ أعلمُ هذا من قبْل، لكنّ راتبي ارتفع إلى ستة وخمسين دولارًا شهريًا؛ وشعرتُ بأنّ ‏المصرف المكان الوحيد لهذا الراتب. دخلتُ المكان بخطىً متثاقلة، ونظرتُ بوجل إلى ‏الموظفين من‎ ‎حولي. ‏

كانت لديّ فكرة مسبقة بأنّ مَن يريد فتْح حساب لدى المصرف عليه أنْ يطلب مشورة ‏المدير أوّلًا، فتوجَّهتُ إلى نافذة تعلوها كلمة "محاسب". راعني مظهر المحاسب، فقد كان ‏طويلًا ومهيبًا.‏

وتكلّمتُ إليه بصوت كأنه خارج من أعماقٍ سحيقة:‏

‏"هل لي برؤية المدير؟"، وأكملتُ برصانة: "على انفراد". ولا أدري لماذا قلتُ: "على ‏انفراد". ‏

‏"بالتأكيد"، قال المحاسب، وذهب ليستدعيه.‏

كان المدير شخصًا وقورًا وهادئًا. أدخلتُ يدي في جيبي وتحسّستُ صرّة دولاراتي الستة ‏والخمسين.‏

‏"هل أنتَ المدير؟" سألته، (ويعلم الله أنني لم أكن أشكّ في ذلك البتّة).‏

‏"نعم أنا هو"، جاء الرّد. ‏

‏"هل يمكنني أنْ أقابلكَ على انفراد؟". لم أكن أنوي تكرار تلك الكلمة مجدّدًا، لكنَّها بدت لي ‏ضروريّة لتكملة سؤالي. نظر إليّ المدير ببعض الوجَل، كمن راوده شعور بأنّ لديّ سرًّا ‏خطيرًا أنوي البوح به. ‏

‏"تفضَّل معي"، قال لي وهو يقودني إلى حجرة خاصّة.. أوصد بابها بالمفتاح بعد دخولنا.‏

‏"نحن هنا في مأمن من أيّ مقاطعة"، ثم أردف: "تفضّل بالجلوس".‏

جلسنا كلانا وأخذنا نتبادل النَّظرات، ولم أجد قدرة على الكلام. ويبدو أنّ تصرُّفاتي ‏الغامضة جعلته يعتقد بأنني محقّقٌ من نوع ما، إذْ سألني: ‏

‏-‏ هل تعمل لدى (بنكرتون)؟

‏ "لا، ليس (بنكرتون)"، وكان جوابي يوحي وكأنَّني أعمل لدى شركة منافسة أخرى. ‏وأردفتُ: ‏

‏-‏ في الواقع أنني لستُ محقّقًا على الإطلاق، وإنَّما جئتُ لفتح حساب، وأريد ‏الاحتفاظ بكامل نقودي في هذا المصرف. ‏

بَدَت على المدير علامات الارتياح، وظهر لي أنه استشفّ من كلامي بأنَّني ابن للبارون ‏روتشيلد أو شخص فاحش الثراء. ‏

‏-‏ مبلغ كبير، على ما أظنّ.‏

‏"نوعًا ما"، قلتُ هامسًا، وتابعتُ: "أنوي أنْ أودع ستة وخمسين دولارًا الآن، وخمسين ‏دولارًا شهريًّا بصفة منتظمة". ‏

عندئذٍ وقف المدير على قدميه وفتح الباب. ثم استدعى المحاسب، وقال له بصوت مرتفع ‏وغير ودّي: "سيّد مونتغمري، هذا السيّد ينوي أنْ يفتح حسابًا لديْنا، وأنْ يودع فيه ستة ‏وخمسين دولارًا".‏

نهضتُ وتوجَّهتُ إلى باب حديديّ كبير مفتوح يقع إلى جانب الغرفة.‏

‏"عمتَ صباحًا"، قلتُ وأنا أخطو إلى غرفة الخزنة. ‏

‏"اخرُج من هنا"، قال المدير ببرود وهو يشير إلى باب آخر.‏

ذهبتُ إلى شبّاك المحاسب، ودفعتُ إليه بصرّة النقود بصورة حاسمة، وكأنَّني أقوم ‏بخدعة سحريّة.‏

اكتسى وجهي بشحوب شديد، وقلتُ: "تفضَّل، وأودع هذا المبلغ في حسابي". بَدَت نغمة ‏صوتي وكأنَّها تعني: "فلننتهِ من هذه العمليّة المؤلمة، ما دمنا راغبين بذلك".‏

أخذ المحاسب النقود وسلّمها لكاتب آخر، جعلني أكتب قيمة النقود على ورقة صغيرة، ‏وأنْ أوقِّع اسمي في دفتر. ولم أعُد أعرف ما كنتُ أفعله. وبدا المصرف وكأنَّه يموج أمام ‏عينيّ.‏

‏"هل أودعَ المبلغ في حسابي؟"، سألتُ بصوت أجوف مرتعش.‏

‏"نعم"، قال المحاسب.‏

‏-‏ في هذه الحال أريد أنْ أحرِّر شيكًا.‏

فكرتي كانت أنْ أسحب ستة دولارات لمصروفاتي الآنيّة. أحدهم سلّمني دفتر شيكات من ‏نافذته، وآخر شرح لي كيفيّة تحرير شيك ما. وبدا لي أنّ الناس من حولي ظنّوا بأني ‏مليونير مضطرب.‏

كتبتُ شيئًا ما على الشيك ودفعتُ به إلى الموظف الذي تمعّن فيه، وصاح بدهشة:‏

‏-‏ ماذا؟! هل تنوي أنْ تسحب كامل المبلغ ثانية؟ ‏

عندها أدركتُ أنني كتبتُ ستة وخمسين بدلًا من ستة. وبلغ الضيق مني مبلغًا كبيرًا. ‏وتوقَّف جميع الموظفين عن الكتابة لينظروا إليّ. وشعرتُ بأنّ من المستحيل عليّ أنْ ‏أفسِّر الأمر.‏

وبتهوُّر مشوب بالتَّعاسة أجبتُ: "نعم، كامل المبلغ".‏

‏-‏ هل ستسحب نقودكَ من المصرف؟!‏

‏-‏ كلّ سنتٍ فيها. ‏

‏-‏ ألنْ تودع نقودًا بعد الآنْ؟

‏-‏ مطلقًا.‏

راودني أمل أبله بأنَّ الناس من حولي قد يظنّون بأنّ شيئًا ما ضايقني بينما كنتُ أحرّر ‏الشيك، وجعلني أعدِلُ عنْ رأيي. وقمتُ بمحاولة بائسة لأبدو حادّ المزاج للغاية.‏

تهيّأ الموظف لدفع النقود، وسألني: "من أيّ فئة تريدها؟".‏

‏-‏ ماذا؟

‏-‏ من أيّ فئة تريدها؟

‏"آه... من فئة الخمسين"، قلتُ دون تفكير، بعد أنْ فهمتُ سؤاله.‏

أعطاني ورقة من فئة الخمسين دولارًا ثم سألني بجفاف: "وماذا عن الستة دولارات؟".‏

‏-‏ من فئة الستة الدولارات.‏

أعطاني الدولارات الستة، واندفعتُ خارجًا لا ألوي على شيء.‏

وعندما أغلق الباب الكبير خلفي تردَّد صدى ضحكات مجلجلة من داخل المصرف، ومنذ ‏ذلك الحين لم أعُد أتعامل مع المصارف، وأحتفظ بمبالغي النقديّة في جيب بنطالي، ‏وبمدّخراتي من الدولارات الفضيّة في جورب من جواربي. ‏

‏- - - - - - - - - ‏

‏(*)ستيفن ليكوك: قاصّ كنديّ توفي عام 1944.‏