التَّواصل الإلكتروني ومحنة الإنسان الجديد!‏

سامح المحاريق ‏

كاتب أردني

سيتوزَّع العالم بين أقليّة تستطيع أن تستغني عن التكنولوجيا، أو لا تستطيع الوصول لها، وأقليّة ‏أخرى تستطيع أنْ تعتلي التكنولوجيا، وفي الوسط سيكون القطاع الأكبر من العالم الذي بدأ يشهد ‏تحوُّلات جارفة على المستوى الاجتماعي والنَّفسي نتيجة الاستخدام المفرط للتكنولوجيا في حياتنا ‏اليوميّة، وهو ما يمكن أنْ يعني نهاية مقولاتٍ مثل الحريّة والخصوصيّة.‏

استَدْعى كثيرون أحداث الرِّواية العظيمة "1984" للروائي الإنجليزي "جورج أورويل" عند ‏حديثهم عن التغيُّرات المتسارعة في مجال تكنولوجيا الاتِّصال والمعلومات، وخلافًا لِما تستدعيه ‏الحصافة والرّغبة في التميُّز تكون البداية من هذا العمل الهائل؛ لأنَّ الانتقال إلى الأعمال الأخرى ‏التي تحمل نبوءات المتشائمين الكبار في النِّصف الأوَّل من القرن العشرين مثل "ألدوس هسكلي" ‏و"كورت فونيجت" ستحصل على حقِّها بالكامل في الحضور باقتبساتها واستشهاداتها، والأهمّ ‏ثيماتها، بعد مرحلة تمكُّن الأخ الأكبر من استكمال سيطرته على العالم، الذي في الغالب لن يحمل ‏المواصفات نفسها التي نعرفها اليوم. ‏

في الشقق الصغيرة، الاشتراكيّة المظهر، كان السكان يعيشون أمام شاشات تَعرض عليهم ‏منجزات حكومتهم، وفي الوقت نفسه تراقبهم وترصد جميع تحرُّكاتهم، وتكاد هذه الوضعيّة تعبِّر ‏عمّا نعايشه حاليًّا من عمليّة إحاطة ومتابعة لحياتنا من خلال الأجهزة الذكيّة سواء الهاتف الذي ‏يمكن من خلاله تحديد موقعكَ، إلى شاشات مواقع التَّواصل التي تسجِّل كل شيء يهمّك، ‏ومحادثاتك، ويمكنها التنبؤ أيضًا بميولكَ التي تعتبرها سريّة أو حتى لم تتعرَّف عليها حتى ‏اللحظة، ولن تحصل على فرصة موقف يُظهرها، بطريقة ما، يقرأون أفكارك! هذه الميزة لم ‏تكُن متوفِّرة حتى للأخ الأكبر؛ الشخصيّة المجهولة والمُرعبة في رواية "1984". ‏

في عالم لم يعُد ممكنًا فيه إخفاء الأسرار طويلًا، إلّا إذا جرى تسييجها بكثير من التَّمويه ‏والتَّضليل، أتت المواجهة مبكرًا عندما توجَّه مؤسِّس ومدير موقع (فيسبوك) "مارك زوكربيرغ" ‏للكونغرس في جلسة استماع تتعلَّق بتسريب معلومات عشرات الملايين من مستخدمي الموقع، ‏وتوظيف إمكانيّات (فيسبوك) للتأثير على الناخبين قبيل الانتخابات الأميركيّة التي أتت في مفاجأة ‏مدوية بالرئيس الحالي "دونالد ترامب"، وانصياعًا للنظام السائد خضع "زوكربيرغ" لاستجواب ‏مطوَّل وهو يرتدي -خلافًا لعادته- سترة رسميّة وربطة عنق زرقاء ليسمع ما يشبه التَّقريع حول ‏ممارسات موقعه/ شركته تجاه بيانات المستخدمين، ومع ذلك لم يخرج "زوكربيرغ" مهزومًا، ‏حتى بعد الغرامات القاسية التي فُرضت على الموقع، ففي غضون بضعة أشهر كان يطوِّر العملة ‏الرقميّة الجديدة التي من شأنها أن تغيِّر طرائق وعادات الشِّراء والتَّبادل على شبكة الإنترنت، ‏التي بدأت أصلًا تستحوذ على جزء كبير من حجم التجارة المحليّة والدوليّة، وهو ما يهدِّد النظام ‏العالمي الراهن في أقدس مقدّساته؛ الاقتصاد والمال! ‏

في نهاية السبعينات من القرن الماضي كان عالم الرياضيات المضطرب عقليًّا "ثيودور ‏كازينسكي" يرسل قنابله الصغيرة إلى الجامعات الأميركيّة، معتمدًا على تخفّيه خارج الرّقابة من ‏خلال سكنه في كوخ بعيد وتجنُّبه لوسائل الاتِّصال الحديثة، وهي الاستراتيجية نفسها التي كان ‏يطبِّقها الإرهابيّون الذين يحرصون على استخدام الهواتف غير الممكن اتِّصالها بشبكة الإنترنت، ‏فبحسب رؤية "كازينسكي" لا يمكن مواجهة التكنولوجيا إلّا بالحفر تحتها، أو ما يعني تجُّنب ‏استخدامها واللُّجوء لوسائل اتِّصال منخفضة التقنية، أو القفز فوقها، من خلال امتلاك تكنولوجيا ‏فائقة، لذلك تزدهر مقابل إمبراطوريّات التكنولوجيا مجموعات من القراصنة الذين يحملون ‏أهدافًا شرّيرة أو غايات سامية. ‏

سيتوزَّع العالم بين أقليّة تستطيع أن تستغني عن التكنولوجيا، أو لا تستطيع الوصول لها في البقاع ‏الأشدّ فقرًا وعزلة من العالم، وأقليّة أخرى تستطيع أنْ تعتلي التكنولوجيا وتهدِّدها من خلال اتقانها ‏لمعطيات التكنولوجيا، وفي الوسط سيكون القطاع الأكبر من العالم الذي بدأ يشهد تحوُّلات جارفة ‏على المستوى الاجتماعي والنَّفسي نتيجة الاستخدام المفرط للتكنولوجيا في حياتنا اليوميّة وما يبدو ‏أنه مسار تصاعدي لسيطرتها، وهو ما يمكن أنْ يجعل مقولاتٍ مثل الحريّة والخصوصيّة ‏موضوعًا لكثير من المُراجعة تجاه الحدود الدُّنيا في عالم الأخ الأكبر! ‏

على كلّ حال، نتمنّى ألّا ننتقل إلى المرحلة التي نحتاج خلالها إلى قراءة رائعة "ألدوس هسكلي" ‏‏(عالم جديد شجاع) للوقوف على مصير الكائن البشريّ.