عقول المستقبل

د. سعيد عبيدي

كاتب مغربي

saidabidi33@gmail.com

 

نحن على أعتاب عصر رقمي جديد حيث يكثر الاتِّصال ويقلّ الاحتكاك، وتتزايد العبوديّة الرقميّة ‏ويموت التفكير الابتكاري، لأنّنا بدأنا نطلب من التكنولوجيا الرقميّة أكثر ممّا يجب، وكما يرى عالِم ‏المستقبليّات "ريتشارد واطسون" من خلال كتابه "عقول المستقبل.." سيترتَّب على ذلك حدوث ‏تحوُّلات جوهريّة في السلوك، وفي طريقة التفكير والنَّظر إلى الأشياء.‏

 

لقد أصبَحَت الأجهزة الرقميّة من هاتف وكمبيوتر وألواح إلكترونيّة وغيرها جزءًا لا يتجزَّأ من حياتنا ‏اليوميّة، إذ نجدها في المنازل والمكاتب والمدارس وفي كل المرافق، وقد أثبتت مجموعة من الدراسات ‏أنَّ الأطفال الصغار في سن الخامسة يقضون في المتوسط ست ساعات يوميًّا أمام أحد أنواع الشاشات؛ ‏سواء شاشة التلفزيون أو الحاسوب أو الهاتف المحمول أو ألعاب الفيديو، وربَّما يقضي المراهقون ‏والكبار ساعات أطول ممّا يقضيه هؤلاء، ويترتَّب على هذا الانتشار التكنولوجي الواسع والطوفان ‏الإلكتروني الغامر حدوث تحوُّلات جوهريّة في المواقف والسلوك، وفي طريقة التفكير والنَّظر إلى ‏الأشياء. إذن كيف تغيِّر الحقبة الرقميّة عقولنا؟ وكيف تؤثر عليها؟ هذا ما سنتعرَّف عليه مع عالِم ‏المستقبليّات الإنجليزي "ريتشارد واطسون" (‏Richard Watson‏) من خلال كتابه: عقول المستقبل.. ‏كيف يغيِّر العصر الرقمي عقولنا؟‎ ‎‏(‏FUTURE MINDS:How the DIGITAL Age is changing ‎our Minds ?‎‏) ‏

لقد جعَلَت الأجهزة الرقميّة الناس يفكِّرون بطريقة مختلفة عمّا كانوا عليه في الماضي، كما غيَّرت ‏سلوكهم وطريقة تصرُّفهم، وقد أدّى هذا إلى نشوء جيل فضَّل التَّعامل مع الآلة على التَّعامل مع البشر؛ ‏جيل أسماه الكاتب "جيل الشاشة"، من خصائصه أنه يتوقَّع حدوث الأشياء بسرعة كبيرة؛ فالمحتوى ‏الرقمي عادة ما يكون متاحًا على نحو فوري، وبالتالي تنتقل هذه العقليّة أو طريقة التفكير المرتبطة ‏بالرِّضا أو الإشباع الرقمي الفوري إلى العالم غير الرَّقمي أو الحقيقي؛ فانتظار بضع ثوانٍ مثلًا ‏للحصول على وثيقة أو الوقوف في طوابير البنك والتَّفاعل المادي مع الأشخاص أمر غير مقبول ‏بالنِّسبة لِمَن ينتمي إلى جيل الشاشة.‏

فالأجهزة الرقميّة بصدد تكوين جيل جديد تنقصه المرونة وسهولة التكيُّف، يظنّ أنه لو حدث خطأ ما أو ‏أنَّ الأمور صارت على نحو غير سليم فكلّ ما عليه فعله هو الضَّغط على زرّ معيَّن ومن ثم تعود ‏الأمور إلى نقطة البداية من أجل محاولة أخرى، وقد لا تبدو هذه الأمور على أنَّها تغيُّرات هائلة ‏وضخمة في الوقت الراهن، إلّا أنَّ ما يبدأ كمجرَّد تغيُّر في السلوك يصبح مع مرور الوقت تغيُّرًا في ‏المواقف، ومن ثم ينتقل ليصبح تغيُّرًا اجتماعيًّا. ‏

إنَّ الحقبة الرقميّة التي نعيشها اليوم تعمل على تقليص قدرتنا على التركيز وتؤثِّر سلبًا على أسلوب ‏تفكيرنا، وبالتالي نعاني عند اتِّخاذ قراراتنا، فالأجهزة الرقميّة -كما ذكر الكاتب- تحوِّلنا إلى مجتمع من ‏الأذهان المشتَّتة؛ فإذا كان من الممكن مثلًا إيجاد أيّ معلومة فقط بالنَّقر على فأرة الحاسوب، فلماذا إذن ‏نحفل بتعلُّم شيء جديد؟ بل أكثر من ذلك فإنَّ المداومة على الأجهزة الرقميّة قد تؤدي إلى تضاؤل ‏احتمالات وفرص تنمية العقل المبدع، ففي الوقت الذي تقدِّم لنا فيه هذه الأجهزة فرصًا عديدة، فإنها ‏تشجِّع التفكير الخالي من المحتوى ومن التأمُّل.‏

ومن الناحية العلميّة أثبتت الدراسات أنَّ الاستخدام المفرط للأجهزة الرقميّة يجعل الإنسان مشتَّت ‏التفكير بشكل مستمر، بل أكثر من ذلك يؤدّي هذا الاستخدام إلى تدمير بعض من الوظائف العُليا للمخ، ‏خاصة تلك الوظائف التي تتعلَّق بالذاكرة والتعلُّم، كما أنَّ إنجاز مهمّتين أو القيام بشيئين أو أكثر في آن ‏واحد -كمتابعة التلفاز والتَّواصل عبْر الهاتف النقّال مثلًا- يزيد من إفراز الهرمونات ذات الصلة ‏بالإجهاد مثل الأدرنالين والكورتزون، ممّا يتسبَّب في الشيخوخة المبكرة من خلال ما يطلق عليه ‏الاحتكاك البيوكيميائي. ‏

لقد خلقنا مجتمعًا يعوَّل فيه على الأجهزة الرقميّة بشكل كبير، حتى إنَّ قدرتنا على التفكير -أقصد ‏التفكير العميق- لم يعُد لها أي مسوِّغ، ممّا يجعل فهمنا للأشياء سطحيًّا، ويجعل وقوعنا في الأخطاء ‏أكثر شيوعًا، لذلك علينا أنْ نفكِّر بجديّة إلى أين ستأخذنا هذه الآلات، وأنْ نضع في الحسبان أنَّ الأجهزة ‏الرقميّة تعيد صياغة تفكيرنا وتشكيله من جديد، فاستخدامها يجعلنا نقفز من مصدر أو نشاط معيَّن إلى ‏آخر، مستخدمين -كما أكّد الكاتب- شقًّا واحدًا من المخ هو الشق الأيسر سريع التفكير، ومبتعدين ‏افتراضيًّا عن الشق الآخر، وإذا ما استمرّ هذا الأمر فإنَّ نسبة تراجُع عمليّات الإبداع والتفكير ستكون ‏كبيرة. ‏

وهذا يعني أنَّنا بحاجة لأنْ ندرك أنَّ التفكير العميق لا يمكن أن يتمّ على عجل كما هو الشأن عند ‏استخدام الأجهزة الرقميّة، وأنْ ندرك أيضًا أنَّ هناك أنواعًا من التعلُّم لا يمكن أنْ تحدث في بيئات ‏سريعة الإيقاع أو بمساعدة الأدوات الرقميّة، فالهواتف الخلويّة والحواسيب وغيرها يمكنها أنْ تُحدِث ‏تأثيرًا عكسيًّا على جودة تفكيرنا، وعلى سلوكنا، فهي تأمرنا بأنْ نستخدمها باستمرار شبيهةً في ذلك ‏بزجاجات الدَّواء التي تسعى إلى تغيير عقولنا، وتُعاقبنا عندما نحاول أن ننسحب بعيدًا عنها، فهذه ‏الأجهزة نظنُّ أنَّها تصلنا بالآخرين، لكنَّها في الواقع تحوِّلنا إلى مجتمع مشتَّت يتكوّن من أفراد يتَّسمون ‏بنفاد الصَّبر وضيق الأفق والتشدُّد والعدوانيّة والانعزاليّة، وتسمح بردّ الفعل بدلًا من التفكير المتأنّي، ‏فهي -بحسب قول ريتشارد واطسون- تصرخ بداخلنا وتحوِّلنا إلى كسالى، والأكثر أهميّة من كل ذلك ‏هو أنَّ هذه الأجهزة تقطع المودّة والألفة الفعليّة المحسوسة التي تتطلّبها الأفكار ويحتاجها الأفراد. ‏

نحن إذن على أعتاب عصر جديد تُبتكر فيه الأفكار الجديدة وتُناقش وتنتشر بصورة عشوائيّة، أو ‏بصيغة أخرى نحن في بداية عصر رقمي جديد حيث يكثر الاتِّصال ويقلّ الاحتكاك، وتتزايد العبوديّة ‏الرقميّة ويموت التفكير الابتكاري، نحن نخلق عالمًا يجد فيه الأفراد بشكل متزايد صعوبة في التعامل ‏مع الأشياء الغامضة، وفيه تنحدر قوّة المرء على حل المشكلات، لأنّنا بدأنا نطلب من التكنولوجيا ‏الرقميّة أكثر ممّا يجب، فلو أنَّ كل شيء أصبح سهلًا للغاية، فإنَّ عقولنا وأجسامنا ستفقد في النهاية ‏القوة العضليّة والمرونة والإبداع، حينئذ سنحتاج إلى أنواع من التوازن؛ توازن بين السريع والبطيء، ‏توازن بين التماثلي والرَّقمي، توازن بين المادّي والافتراضي، وأيضًا سنحتاج إلى توازن بين القديم ‏والحديث، لكن قبل أن نتمكَّن من فعل أيّ من هذا كله سنحتاج إلى أن نغيِّر الطريقة التي نفكِّر بها ‏اليوم.‏

لقد أكد ريتشارد واطسون على مدار صفحات هذا الكتاب أنَّ العصر الذي نعيشه اليوم -والذي تسيطر ‏فيه الأجهزة الرقميّة على عقولنا- هو عصر يمكن وصفه بعصر الانتقال والانفصال؛ الانتقال من ‏عصر المنتديات العلميّة إلى سوق التّجارة الإلكترونيّة، ومن تبادل البحوث التي تهدف إلى المعرفة ‏كغاية في ذاتها، إلى توظيف المعرفة وتسليع الثقافة، الانتقال من الباحث البشري إلى الوكيل الآلي، ‏الانتقال من عصر القلق الفكري إلى عصر القلق الوجودي، وهو أيضًا عصر الانفصال؛ الانفصال بين ‏الفكر والسّلوك، بين النّظرية والتّطبيق، بين التّعليم والتّربية، بين التّنمية والمحافظة على البيئة، وبين ‏التقدُّم الاقتصادي والرّفاهية والسّعادة الحقّة، الانفصال بين غايات وأهداف التّكنولوجيا الأصليّة والحقّة ‏وتوظيفاتها واستخداماتها، والخوف أن يؤدّي تيّار الانفصال هذا إلى انفصال الإنسان عن واقعه وعن ‏بيئته والذي يفضي في النّهاية إلى انفصال الإنسان عن الإنسان ويغرقه في فرديّته المفرطة، فينهي ‏نفسه، أو ينتهي وحيدًا.‏