عُرَيب يوسف أبو صليّح
كاتبة أردنية
Oraibajlan8@gmail.com
التطوُّر المستمرّ في وسائل التواصل الاجتماعي سيضع مزيدًا من القيود على حركة الحكومات، ومع توسُّع انتشار الإنترنت ووصوله إلى غالبية فئات المجتمع، يؤكد خبراء التقنية أنَّ السنوات القادمة ستشهد مزيدًا من الضَّغط على الحكومات في ظلِّ عدم مقدرة أيّ حكومة على التحكُّم المطلق بمواقع شبكات التواصل الاجتماعي.
بَعْدَ زيادة رقعة مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي وسيطرتها على التكوين الفكري والعقلي لملايين المستخدمين، إضافة إلى التأثير الهائل الذي حققته وما زالت تحققه في تشكيل وتوجيه دفّة الرأي العام حيال العديد من القضايا، لم يعُد ممكنًا تجاهل دَوْر شبكات التواصل الاجتماعي كأداة فاعلة ومؤثِّرة في صياغة الرأي العام في مختلف المجتمعات، إذ لم تعُد تلك الشبكات مجرَّد وسيلة ترفيه، بل باتت مصدرًا مهمًّا للأخبار التي يلجأ إليها الصحافيون والمحرِّرون لاستقاء المعلومة وإتمام موادهم، بل وأصبحت ضرورة فرضتها المتغيّرات المتسارعة في عالم الاتِّصال الجماهيري، الذي تسارعت وتيرة تطوُّره.
يتَّخذ حشد الرأي العام عبْر مواقع التواصل الاجتماعي، أشكالًا متعدِّدة. فالأفكار المحاصرة عبْر وسائل الإعلام التقليديّة الرسميّة، أصبحت تجد لها منفذًا مفتوحًا، كذلك الأقلام والشخصيّات المعارضة، أصبح متاحًا لها التعبير عن آرائها بكل حرية ودون حدود سوى ما تفرضه معايير النَّشر الفضفاضة في المواقع المختصّة، ويضمن صاحب الخبر أو الرأي انتشاره بصورة سريعة ودون جهد يُذكر، وبالطَّبع يتجنَّب أيّ تكاليف سوى بضعة قروش يتكلّفها اتِّصاله بشبكة الإنترنت.
لتحقيق تفاعل كبير مع القضايا الساخنة يلجأ الناشطون إلى استخدام بعض الآليّات الإلكترونيّة المعروفة، ومنها ميزة المنشورات المموَّلة والتي تروِّج الأفكار على أوسع نطاق، أيضًا مشاركة المشاهير والفنانين ومؤثري مواقع التواصل الاجتماعي للاستفادة من متابعيهم الذين تُقدَّر أعدادهم بالآلاف. إلى جانب استخدام آليّات رقميّة مثل الوسم "الهاشتاغ"، الذي تصبّ من خلاله جميع المشاركات الشخصيّة في قوالب جامدة، لتحتلّ مراتب متقدِّمة لأكثر الموضوعات أهميّة، وتصبح منتشرة على "فيسبوك" أو "ترند" على "تويتر".
وعلى مستوى التأثير في القرار الرَّسمي، لعبت مواقع التواصل الاجتماعي دورًا أساسيًّا في الثورات (الاحتجاجات) التي عمّت عددًا من البلدان العربية قبل سنوات، مثل تونس وليبيا ومصر وسورية ومن بعدها الجزائر والسودان والعراق. وباتت تشكِّل وسائل ضغط على الحكومات أدَّت إلى تغيير مفهوم الرَّقابة الموجَّهة في مختلف الدول العربيّة.
موقع "فيسبوك"، كان وما يزال الأكثر استخدامًا في عالمنا العربي، يليه "تويتر" و"يوتيوب"، إذْ تُعدُّ هذه المواقع مجتمعة الرّحم الذي تكوّنت فيه أجنّة أكثر الثورات شعبيّة في العالم، قبل أن تتحوّل في ما بعد إلى حالة شبيهة بغرفة العمليّات التي يتمّ فيها الترتيب للتجمُّع والخروج في مظاهرات واحتجاجات شعبيّة.
محليًّا، يدفعنا تفاعل الرأي العام الأردني أخيرًا مع حادثتي تصوير "فيلم جابر" في البتراء وإقامة عدد من اليهود طقوسًا تلموديّة في مقام النبي هارون، وما أتبع الحادثتين من تحرُّكات رسميّة، إلى البحث في مدى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي أو ما تسمّى "وسائل الإعلام البديل" على صياغة الرأي العام الأردني، إذْ سبقهما عدة حالات أثَّرت فيها وسائل التواصل الاجتماعي على الرأي العام الأردني بشكلٍ لا يمكن إخفاؤه ولا تجاوزه. فهل تصنع وسائل التواصل الاجتماعي الرأي العام الأردني، أم يقتصر دوْرها على التأثير به فقط؟
للإجابة عن سؤالنا سنستعرض عدة قضايا شغلت الرأي العام الأردني، حيث ساهم التفاعل الإلكتروني معها في اتِّخاذ قرارات حكوميّة وإلغاء قوانين والاعتذار عن قرارات نافذة.
•"فيلم جابر".. سخطٌ شعبيّ وموقف حكوميّ مُشرِّف!
حسنًا، لننطلق من الأحداث الأخيرة؛ ممثِّل أردني يكتب على حسابه في "فيسبوك" حول "فيلم جابر": "سيناريو يثبت حق اليهود بفلسطين، ويؤكد أنَّ لهم الحق التاريخيّ في البتراء وجنوب الأردن بحوار صريح ومباشر"، ويُعلن انسحابه من المشاركة في الفيلم، ليشعل بذلك شرارة التفاعل الأردني ضدّ تصوير "جابر". تبعها سلسلة اعتذارات شملت الفنّانين عبدالكريم القواسمي ومحمد سميرات وغيرهم. الأزمة بلغت ذروتها بإصدار نقابة الفنانين الأردنيين بيانًا صحفيًّا، أعلنت خلاله إدانتها للفيلم بصيغته الحاليّة، ورفَضَت محاولته تحريف التاريخ الأصيل للجغرافيا وللبلد، وطالبت المنتسبين إليها من المشاركين في الفيلم بالانسحاب إلى غاية توضيح الحقائق. كما ذكرت النقابة أنه ستتم مساءلة كل مَن يشارك في الفيلم، مع فرض عقوبات على مَن يقوم بذلك، قد تصل حدّ الفصل من النقابة.
الحكومة بدوْرها لم تقف متفرِّجة، رئيس الوزراء الأردني عمر الرزاز، وجَّه هيئة الإعلام والهيئة الملكيّة للأفلام لتقييم ودراسة محتوى "فيلم جابر"، مؤكدًا أنَّ أيّ عمل ثقافي، أو فنّي يتمّ إنتاجه وتصويره على الأرض الأردنيّة، يجب أن يكون متوافقًا مع ثوابت الأردن والهويّة الوطنيّة. ليأتي أيضًا تصريح وزيرة الدولة لشؤون الإعلام جمانة غنيمات منسجمًا مع موقف حكومتها حيث قالت: "إنَّ الحكومة ستتَّخذ إجراءات فوريّة للوقوف على محتوى فيلم (جابر)، في ضوء ما أثير في وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي من جدل حول الرواية التاريخيّة التي يقدِّمها الفيلم". وعلى المستوى الرسمي أيضًا صرَّحت وزيرة السياحة مجد شويكة أنَّ الحكومة تتابع ما يتمّ تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي حول "جابر" وأكّدت في لقاء مع لجنة السياحة والآثار النيابيّة أنَّ الحكومة لن تسمح بالمساس بتاريخ البتراء.
في المحصّلة ونتيجة الموقف الرَّسمي والضَّغط الشعبي عبْر مواقع التواصل الاجتماعي، صرَّح مخرج الفيلم يوم السبت 3 آب/ أغسطس 2019، أنَّ "فريق العمل ارتأى إلغاء تصوير الفيلم بعد حالة من اللّغط أثيرت بشأنه، ومنعًا لكل ما من شأنه المساس بالوحدة الوطنيّة، أو إثارة قضايا قد تؤثِّر على الأمن الوطني".
• طقوسُ تلموديّة في مقام النبي هارون..
كيف عالجت الحكومة الأمر؟
لم تكن غضبة الأردنيين لتهدأ بعد، حتى انتشرت مقاطع فيديو مصوَّرة تُظهر سيّاحًا "إسرائيليّين" خلال إقامتهم شعائر تلموديّة في مسجد يتبع مقام النبي هارون في منطقة وادي موسى قرب البتراء. وزير الأوقاف عبدالناصر أبوالبصل قرَّر على إثر ذلك إغلاق مقام النبي هارون في المنطقة بعد تفاعل كبير شهدته مواقع التواصل الاجتماعي.
من جانب آخر تهكَّم نشطاء عبْر منصّات التَّواصل على تصريحات سلطة إقليم البتراء، وتحميلها الحارس الذي سمح للسيّاح بالدخول مسؤوليّة ما حدث، فيما لم يغفر الأردنيّون الخطأ المرتكب على الرغم من التبريرات الرسميّة وإغلاق المقام، إذ طالبوا بمحاسبة المسؤولين عن دخول السيّاح اليهود إلى المقام.
•المادة 308 من قانون العقوبات
الـ"سوشال ميديا" تساند منظمات نسويّة للإطاحة بالقانون!
في 23 من نيسان/ إبريل 2017 وافق مجلس الوزراء على إلغاء المادة 308 من قانون العقوبات إلغاءً تامًّا ضمن مشروع معدَّل للقانون شمل 70 مادة منه، حيث أرسل المشروع إلى مجلس النواب للسَّير فيه حسب المراحل التشريعيّة، ليتم إقراره مطلع آب من العام نفسه. بذلك انضمَّ الأردن إلى قائمة دول أجنبيّة وعدد قليل من الدول العربيّة التي ألغت من تشريعاتها نصوصًا تعفي الجاني من العقاب في حال تزوَّج من المجني عليها. والمادة الملغاة كان يتمّ بمقتضاها إعفاء المغتصِب من العقوبة في حال زواجه من ضحيّته، كما تنص على أنّ "اغتصاب الذَّكَر لا يُعدُّ اغتصابًا بل هتك عرض، حتى وإن كان قاصرًا".
كان لنشاط القائمين على التحالف المدني لإلغاء المادة 308 دورًا مهمًّا وحاسمًا في إلغاء المادة، التحالف الذي يضمّ أكثر من 52 منظمة مجتمعيّة ضمن المشروع الذي تنفِّذه جمعيّة معهد تضامن النساء الأردني "معًا لملاحقة الجناة وحماية النساء الناجيات من جرائم العنف الجنسي". وأطلقت 245 منظمة نسويّة وحقوقيّة عاصفة إلكترونيّة عبْر مواقع التواصل الاجتماعي، حملت رسائل وُجِّهت للنوّاب وجهات أخرى تدعو فيها السلطة التشريعيّة إلى الانتصار للطفولة والعدالة، وتمّ فيها استخدام وسم "#الغاء_308".
وفي العاصفة الإلكترونيّة أوضحت المنظمات في الرسائل التي استخدمتها، ما هي المادة 308؟ إذْ قالت إنَّها "مادة في قانون العقوبات توقف ملاحقة أو تنفيذ العقوبة بحق مرتكب أحد الجرائم الواقعة في الفصل الأوَّل من الباب السابع من قانون العقوبات وهي جرائم الاغتصاب، وهتك العرض، ومواقعة القاصر والخطف والتهتُّك والإغواء وخرق حرمة النساء وإفساد الرابطة الزوجيّة إن هو تزوَّج بالضحيّة". وشدَّدت المنظّمات عبْر رسائل مواقع التواصل الاجتماعي على إلغاء المادة 308 موضِّحة موقفها لأنَّها تسمح بإفلات مرتكبي الاعتداءات الجنسيّة على الأطفال في جرائم المواقعة وهتك العرض من العقاب.
•تعيينات أشقّاء النوّاب واعتذار رئيس الحكومة..
صوّبت منصّات التواصل الاجتماعي مطلع شباط/ فبراير 2019، نيرانها نحو الحكومة احتجاجًا، عقب الإعلان عن تعيينات أشقّاء 4 نوّاب في مؤسّسات حكوميّة. وتساءل مواطنون ونشطاء عبْر المنصّات عن كيفيّة تعيين أشقّاء النوّاب في وقت واحد، لافتين النَّظر إلى أنَّ التَّعيينات تتناقض مع تصريحات رئيس الوزراء عمر الرزاز حول دولة القانون والمساواة والعدالة والمساواة في الفرص.
وهاجم المواطنون الحكومة على اعتبارهم أنَّ التَّعيينات جاءت كـ"صفقات" تبرمها الحكومة مع النوّاب لتمرير القرارات الحكوميّة مقابل الحصول على تنفيعات نيابيّة؛ وجاءت تغريدات المواطنين عبْر "تويتر" تحت وسوم عدّة من قبيل "#أشقاء_النواب" و"#تعيينات_أشقاء_النواب" و"#مؤسسة_الفساد".
وعلى الرّغم من صدور التصريح الرَّسمي على لسان الرزاز، حول القضيّة المثارة، وهو التصريح الذي ربطه هو وربطته وسائل إعلام عربيّة بالضجّة التي أثيرت عبْر مواقع التواصل الاجتماعي، فإنَّ هذه المنصّات لم تتوقَّف عن التَّشكيك والنَّقد الساخر.
وشكّلت هذه المعطيات، عبْر وسائل التواصل الاجتماعي، حالة "ضغط من تحت" أو "حالة ضغط من قِبل القواعد الشعبيّة" في مواجهة سلوك الاسترضاء السياسي الذي تمارسه الحكومات في علاقتها مع أعضاء مجلس النواب؛ إذْ طلب جلالة الملك عبدالله الثاني من الحكومة إعادة النَّظر في هذه التعيينات.
•خلاصة
يبدو أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي صنعت رأيًا عامًّا أردنيًّا شكّل ضغطًا على الحكومات المتعاقبة ودفَعَها إلى تعديل قوانين وإلغاء قرارات في بعض المواقف، وتقديم اعتذارات في مواقف أخرى. وفي قراءةٍ للظاهرة الجديدة يشير عدد من المراقبين إلى أنَّ التطوُّر المستمرّ في وسائل التواصل الاجتماعي سيضع مزيدًا من القيود على حركة الحكومات وتصرُّفها الأحادي تجاه شعوبها، إذْ إنه ومع توسُّع انتشار الإنترنت ووصوله إلى غالبية فئات المجتمع، يؤكد خبراء التقنية أنَّ السنوات القادمة ستشهد مزيدًا من الضَّغط على الحكومات في ظلِّ عدم مقدرة أيّ حكومة على التحكُّم المطلق بمواقع شبكات التواصل الاجتماعي.
في المقابل، يرافق التطوُّر المستمرّ في مواقع التواصل الاجتماعي، تطوُّر مستمر آخر في وسائل مراقبة تلك الشبكات، لتدخل مواقع التواصل الاجتماعي في سباق محموم بين مَن يريد أنْ يستغلّها في الحدّ من سيطرة الحكومات على الإعلام التقليدي، وبين الحكومات التي تنظر إليها على أنَّها باتت تشكِّل خطرًا حقيقيًّا عليها!