اللغة العربيّة وشبكات الاتِّصال الاجتماعي

 الزبير مهداد

كاتب مغربي- باحث في التربية والثقافة

mahdad.zober@gmail.com

 

‏ ‏

تسبَّب الإعلام الجديد بتأثيرات سلبيّة على اللغة العربيّة التي هي عماد هويّتنا ووعاء ثقافتنا، ‏ومن الطبيعي أن يؤدّي ذلك إلى إلحاق الضرر بالثقافة العربيّة والقيم المرتبطة بها. كما أنَّ ‏تبنّي الشباب العربي للغة الإنجليزيّة أو الفرنسيّة، يؤدّي إلى تعلُّقه وإعجابه بالثقافة المسيطرة، ‏ليغدو انتماؤه إلى القرية الكونيّة أقوى وأمتن من انتمائه إلى أمّته وثقافتها. ‏

‏ ‏

مُنذُ اختراع الكتابة ظَلَّ الكتاب مُهَيْمِنًا على الساحة الثقافيّة، متداوَلا على نطاق واسع، ‏مخطوطًا يتناقله الناسُ بالرِّواية والنَّسخِ. استمرَّ ذلك قرونًا، حتى ظهرت المطابع، فانتشرت ‏المطبوعات الورقيّة التي كان لها الدور الفعّال في التَّواصل، والأثر الثَّمين في الفكر ‏والحضارة واللُّغة.‏

ونتيجةً للتطوُّر الحضاري والتقدُّمِ التقني اختُرعت وسائلُ جديدةٌ للإعلام الجماهيري، كالراديو ‏بعد اختراع "ماركوني" للاسلكي، وواكبهُ اختراع السينما. وفي النصف الأول من القرن ‏العشرين اخْتُرِعَ التليفزيون، ثم تكلّل ذلك بالقنوات الفضائيّة التناظريّة، ثم الرقميّةِ التي غيَّرت ‏كثيرًا من مفاهيمِ وقواعدِ ووظائفِ البثّ التلفزيوني. وأخيرًا، ونتيجةَ اندماجِ التكنولوجيا ‏ومجتمع المعلومات ظهرَ الاتِّصالُ التفاعلِيُّ ليُعلِنَ بِقُوَّة أهميّةَ الطفرةِ التكنولوجيّة في مجال ‏الاتِّصال الإلكتروني من خلال شبكة الإنترنت. ‏

في الوقت الذي أصبح تداوُل المعلومات عبْر الأجهزة الحديثة ضرورة لا مناص منها، بل ‏أصبحت الشغل الشاغل لشباب اليوم، أخذت تؤثِّر فيه سلبًا وإيجابًا وفقًا لدرجات ودراية ‏التوظيف السليم(‏ ‏)، هذه الآثار شملت الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة والماليّة وغيرها. ‏ومن خلال هذا المقال، سنستعرض التأثيرات السلبيّة لهذا الإعلام على اللغة العربيّة، التي هي ‏عماد هويّتنا ووعاء ثقافتنا.‏

ويشكِّل تلاميذ المدارس ابتداء من سن السابعة، والمراهقون والشباب إلى غاية الثلاثين عامًا ‏أكبر شريحة عمريّة من مستعملي أدوات الإعلام الجديد، وهم منخرطون في شبكات التواصل ‏الاجتماعي مثل "تويتر" و"فيسبوك" و"يوتوب" وغيرها. ‏

 

•الشباب ولغة الإعلام

في الفترة السابقة لهيمنة الإعلام الجديد، كان الأطفال والمراهقون والشباب يتلقون المعرفة ‏والقِيَم من المؤسسات الاجتماعيّة، كالأسرة والمدرسة والمسجد والكنيسة، فتتشكّل ذاكرتهم ‏ومنظومة قيمهم، فالقِيَم والثقافة كانت تنتقل من جيل إلى جيل بطريقة ثابتة منتظمة ومُراقَبَة، ‏والذاكرة هي الرّابط بين الماضي والحاضر والمستقبل، أمّا اليوم، فلم تعُد المؤسسات ‏الاجتماعيّة سالفة الذكر المصادر الأساسيّة أو الوحيدة لإنتاج المعرفة والقِيَم. ففي ظلّ هيمنة ‏الإعلام الجديد، اكتسَحَت الصورة عالمنا، "الصورة تسجيل للحقيقة وليست الحقيقَةَ ذاتَها، ‏وهي تختلف عن الكلمة المكتوبة أو المسموعة، لأنّ الكلمة رمز لا يحتوي شيئًا من عناصر ‏هذه الحقيقة، أمّا الصورة فهي رمز يحتوي على خطوط ومساحات تشبه الواقع في شكلها ‏الظاهريّ، فهي لذلك وبوجه عام، أسهل فهمًا من اللفظ المكتوب"(‏ ‏).‏

إنَّ انخراط الأجيال الشابّة الكبير في شبكة الإنترنت في ظلّ ذاكرة لم تتشكّل بعد لهم، وهويّة ‏لم تكتمل ملامحها، يُخضعهم لتأثير قويّ مدمِّر للصورة، التي تنشر وترسِّخ ثقافة صانعي هذه ‏الوسائل(‏ ‏).‏

لقد أثبتت الدراسات الخاصة (بالتأثير) أنّ الحركة الفيلميّة التي تبثّ جزئيّات متناثرة لبيئة ‏واحدة، لها قدرة على التأثير تفوق تلك الأعمال الفنيّة التي تتعامل والإمكانات الأدائيّة التقليديّة، ‏مثل الكلمة المنطوقة والأداء التمثيلي. إنَّ حركة الصورة الفيلميّة وتتابع اللّقطات، تؤدّي إلى ‏الإحساس بالواقع بطريقة حسيّة وليس بطريقة المنطق والفكر. فإدراك الحقيقة عن طريق ‏الحسّ يزيد من إمكانيّات الإقناع والتأثير السريع، كما أنّ الحركة تعطي إحساسًا بحرفيّة الفنّ ‏الفيلمي وتوظيف الإمكانات المتاحة من تصوير ومونتاج وحركة كاميرا(‏ ‏). والأخطر من ذلك ‏أنَّ المشهد المصوَّر يثير في نفس الشاب المُشاهِد كثيرًا من الخيالات والاستيهامات، التي تُعدُّ ‏ضروريّة لقراءة المشهد وفهمه وبناء الصور الذهنيّة المرتبطة به.‏

وإنَّ أخطر ما يصيب الذاكرة ليس التَّشويه والتَّشويش، إنَّما ما لا يستثيرها ويملؤها بما هو ‏سطحي واستهلاكي. ‏

إنَّ وسائل التواصل الاجتماعي تتابع تفاصيل الحدث اليومي؛ الأمر الذي خلق ما يسمى "ثقافة ‏التَّفاصيل" دون أن تكون في سياق اجتماعي أو سياسي أو ثقافي. وبالنَّظر إلى المجتمعات ‏العربيّة التي يستهلك أفرادها وسائل التواصل الاجتماعي من أجل إشباع الحاجات النفسيّة(‏ ‏)، ‏وهذا الضعف في الثقافة يخلق بدوره تحدِّيات عدّة أمام إبهار الهويّة الشموليّة ذات المنشأ ‏الغربي، وتنحو باتِّجاه حرب على الهويّة الحضاريّة الإسلاميّة. ‏

 

•الثقافة المكتوبة وثقافة الصورة

خَلَّفَ ظهور هذه الوسائل الأَثَرَ الواضحَ على مكانة أوعية المعلومات الورقيّة، حيث سُجِّلَ ‏تراجُعُ استعمال الصُّحف والمجلات في السنوات الأخيرة، وهكذا، فالمراهق عمومًا لا يهتم ‏بهذه الأوعية الورقيّة، والتي لم تعُد مُشَوِّقَة ومثيرة لاهتماماته، ولم تَعُد مصدرًا وحيدًا للمعرفة، ‏التي أصبح ينهلها من وسائل الإعلام في جوّ من الحريّة وبطرق تفاعليّة. ‏

والحديث عن الثقافة المكتوبة لا يُقصد به المطبوعات الورقيّة فقط، بل يعني أيضًا النصوص ‏المكتوبة المبثوثة في الإعلام الجديد، كنصوص الــ"بي دي إف" والـ"وورد" وما في شاكلتهما. ‏وللتذكير، فالمنتجات الورقيّة في طريقها إلى الزّوال، لتحلّ محلّها المنتجات الإلكترونيّة، وقد ‏أمْلَت الأسباب البيئيّة والاقتصاديّة والتقنيّة هذا التطوُّر، فالصحافة الورقيّة حلّت محلّها ‏الصحافة الإلكترونيّة، والكتاب الإلكتروني ينتشر اليوم أكثر من انتشار الكتاب الورقي(‏ ‏).‏

إنَّ البنية الإدراكيّة التي تميِّز جيل الإعلام الجديد تختلف عن التفكير الخطي المنهجي المرتبطة ‏بالثقافة المكتوبة، فبخلاف الأجيال السابقة، فإنَّ شباب اليوم عرف الصورة المتحرِّكة وتعلَّم ‏منها قبل أنْ يعرف عالم الكتاب، لذلك فهو ينفر من النص المطبوع، ولا يشعر نحوه بأيّ ‏جاذبية، وهذا يؤشِّر لقطيعة تكنولوجيّة وفكريّة بين جيل الثقافة المطبوعة وجيل الثقافة ‏الإلكترونيّة، بدأت تلوح معالمها بقوّة في العالم(‏ ‏).‏

 

•تدمير اللغة

هذا التدمير يتمّ على مستويين اثنين:‏

‏-‏مستوى القدرات الذهنيّة اللفظيّة ‏

أدّى استعمال وسائل الاتِّصال الحديثة إلى بروز ظواهر لغويّة جديدة، تختلف مع تلك الناتجة ‏عن البنية الفكريّة القائمة على القراءة والكتابة، منها ظاهرة التعبير اللغوي التقريبي، الذي يهتمّ ‏بدرجة أولى بتوصيل الصور المتراكمة في الذهن، مهما كان تشتُّتها التعبيري، دون عناية ‏بمنهجيّة توصيل الرسالة، كما كانت الحال عليه في الجيل السابق المتأثر بالثقافة المكتوبة ‏والمطبوعة، الأمر الذي أضْحى يطرح إشكالات في الصفوف المدرسيّة، في ظلِّ قطيعة كبرى ‏بين المدرِّس والتلميذ ناتجة عن اكتساح الإعلام الجديد للحياة المعاصرة. هذه الظاهرة الجديدة ‏من مؤشِّراتها ضمور القدرة على النطق الفصيح، والعجز عن تركيب الجُمَل، والافتقار إلى ‏الرَّصيد المعجمي، وغيره.‏

أضحى التلاميذ "عاجزون عن النطق، عن تركيب الجمل، عن إدراك المقاطع الناقصة، عن ‏فهم كيف أنَّ العلاقة بين الأحداث هي التي تخلق المعاني، إنَّ الطفل أصبح يتحدّث عن حياته ‏على طريقة الفيديو كليب، حيث تتداخل كل الأشياء مع بعضها وتتموضع الأحداث وتتشابك ‏مع بعضها بفضاضة، دون أن يكون هناك شيء ما يربط بينها، وبالتالي دون أن يكون هناك ‏معنى لشيء ما"(‏ ‏).‏

وقد أجرى الباحث الأميريكي "جيمس روبرت فلين" على مدى أربعين عامًا دراسة حلَّل فيها ‏نتائج اختبارات قياس الذكاء، فاستنتج تراجُع القدرات الذهنيّة اللفظيّة للشباب الأميركي، مقابل ‏تقدُّم مذهل للقدرات الذهنيّة الصُّوَرِيّة غير اللفظيّة، نتيجة اعتماد الشباب على بنية فكريّة تُغَلِّب ‏الصور المحسوسة على الألفاظ المجرّدة(‏ ‏).‏

ولغة العالم الافتراضي تطوَّرت لتمرّ من الأحرف والرُّموز المطبوعة إلى الأيقونات التعبيريّة، ‏التي تصمِّمها مواقع التعريف المختلفة ليستعملها الشباب للتخفيف من حدّة بعض التعابير أو ‏الزيادة في حدّتها. واستعمال الشباب لتلك الأيقونات يعبِّر عن الرّغبة في خلق لغة تواصل ‏بصريّة تكرِّس عزوفهم عن الكتابة المطبوعة، نتيجة خضوعهم لتأثير الإعلام الجديد(‏ ‏).‏

 

‏-‏مستوى قواعد اللغة

إنَّ اللغة العربيّة التي تمثل روح الأمّة وأهمّ مكوِّن هويّتها وشخصيّتها ووحدتها، والوعاء ‏الحافظ لثقافتها وتراثها، والوسيلة الناقلة للأفكار والتقاليد والخبرات عبْر الأجيال المتعاقبة، تُعدُّ ‏المدخل الرئيس لتقويض ثقافة الأمّة وهويَّتها. وقد أصبحت تعيش مأزقًا في الإعلام الجديد ‏الذي هو الواجهة التي تعكس مختلف التفاعلات الثقافيّة والقيميّة في مجتمعنا، فهذا الإعلام ‏بقوّة تأثيره، أسهم في الإضرار باللغة العربيّة، من خلال:‏

‏1.‏ ركاكة اللغة المستعملة مع شيوع الأخطاء النحويّة والصرفيّة والإملائيّة.‏

‏2.‏ إحلال الحروف اللاتينيّة محل الحروف العربيّة‎.‎

‏3.‏ إحلال العاميّة أو العاميّات محل العربيّة الفصحى‎.‎

‏4.‏ اعتماد "العربيزي" كلغة تواصل، بل والأدهى من ذلك أنَّ محرِّك البحث "غوغل" ‏اعتمدها كلغة بحث في الشبكة.‏

إنَّ الإعلام الجديد عمومًا تسبَّب في تأثيرات ضارّة باللغة العربيّة، ومن الطبيعي أن يؤدّي ذلك ‏إلى إلحاق الضَّرر بالثقافة العربيّة والقيم المرتبطة بها. كما أنَّ تبنّي الشباب العربي للغة ‏الإنجليزيّة أو الفرنسيّة، يؤدّي إلى تعلُّقه وإعجابه بالثقافة المسيطرة، ويغدو بالتالي انتماؤه إلى ‏القرية الكونيّة أقوى وأمتن من انتمائه إلى أمّته وثقافتها.‏

انتشار استعمال هذه اللغة الهجينة، يسهم في تفشّي ضعف المحتوى العربي في شبكة الإنترنت ‏بكل قنواتها، وهذا الاستعمال يدلّ على إحساس جيل الشباب بوجود قطيعة بينه وبين جيل ‏الكبار، وخلل في أحد أهم مكوّنات الهويّة، ما يجعل جيل الشباب ينجذب إلى ثقافة دخيلة ‏تفرضها قنوات الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي التي لا تخضع لإشراف ‏المؤسسات الاجتماعيّة التقليديّة ولا المؤسسات الوطنيّة.‏

إنَّ اللغة أحد أهمّ مكوّنات الهويّة وأركانها، فقيمتها لا تكمن فقط في بنيتها أو في إيصالها ‏المعلومة أو بسطها الفكرة، بل في حمولتها التاريخيّة وسياقها الحضاري وامتدادها ‏التاريخي(‏ ‏).‏