الصِّراع الطبقيّ في رواية ‏ ‏"زائرة منتصف الليل"‏

لـِ"عبد الكريم فرحان"‏

د. حسين منصور العمري

قاصّ وأكاديمي أردني‎ 

hussein.alomary@yahoo.com

 

تتمثل قيمة "زائرة منتصف الليل" في أنها تُعبِّر عن بدايات التجارب الأردنيّة في كتابة ‏الرواية، ولأنها تؤرِّخ لمرحلة مهمّة من تاريخ الأدب، ولمدينة عمّان بشكل خاص، ‏وهي تركِّز على الجوانب الاجتماعية، وتكاد تكون سيرة شخصيّة لولا أنَّ الكاتب نفى ‏عنها واقعيّة الشخصيات.‏

 

الكاتب عبدالكريم فرحان هو ابن الريف الأردني، ولد في منتصف القرن الماضي في ‏قرية كفريوبا بالقرب من مدينة إربد. عاش فيها طفولته وأطفأ شمعاته الشبابيّة في ‏القوات المسلحة الأردنيّة، متطلعًا إلى حياة غير تقليديّة، متنقلًا ما بين بيروت وعمّان ‏والإمارات، حيث حاز على شهادته الجامعيّة من جامعة بيروت العربية، وأقام في ‏عمّان بعضًا من الوقت. ‏

اطلع عبدالكريم فرحان خلال رحلاته على تجارب الكتاب والأدباء العرب، ومن ‏خلال دراسته للغة العربية امتلك أدوات الكتابة، فكتب المقالة في الصحف الأردنية ‏وبموضوعات مختلفة، أمّا كتابته لرواية "زائرة منتصف الليل"(*) فهي أمر آخر له ‏قيمتان:‏

تتمثل القيمة الأولى في أنها تُعبِّر عن بدايات التجارب الأردنيّة في كتابة الرواية. ‏

أما القيمة الثانية فلأنها تؤرخ لمرحلة مهمة من تاريخ الأدب، ولمدينة عمّان بشكل ‏خاص، فالرواية تكاد تكون سيرة شخصية لولا أنَّ الكاتب نفى عنها واقعية ‏الشخصيات، لكنَّ موضوعها وأحداثها تكاد تكون واقعيّة كما قال في مقدّمته: ‏

‏"أرجو أن تكون هذه الرواية جديرة بالاهتمام لما تنطوي عليه من واقعية صادقة ‏وفائدة جمة، إذ تجعلك تتلمَّس بوضوح الأخطاء الجسيمة التي نعاني منها وما يجرّه ‏الزواج الفاشل من عدم الاستقرار العائلي وتحكُّم الوالدين في هذا الموضوع الدقيق ‏الذي هو مصدر السعادة أو الشقاء في هذه الحياة...".‏

ومن هذه اللحظة انطلق الكاتب الذي كان يقوم بأدوار متداولة، فحينًا هو الراوي، ‏وحينا هو "خليل"، وحينًا هو البطل، ويبدأ الصراع في كل مراحل الرواية، ففي أزقة ‏عمّان وشوارعها وعالمها كان الأستاذ المعلم "خليل" بطل الرواية يتنقل برفقة صاحبه ‏‏"مصطفى"؛ تلك الشخصية المعاكسة لشخصية الكاتب، فمصطفى ابن عمّان وابن ‏التاجر الثري وساهر الليل وذو السلوك المتحلل من كل القيود الاجتماعيّة، بينما ‏شخصية "خليل" تقوم على المبادئ والأعراف الاجتماعيّة، فهو ابن القرية الأردنية، ‏وهو المعلم والمثقف الملتزم، ودخله محدود، فالصراع بين سلوك الشخصيتين صراع ‏يومي، فـ"خليل" يرفض السهر والشرب والتبذير، و"مصطفى" يغوى السهر والشرب ‏والنساء، يقول: "إنَّ مصطفى هو رجل سخر من الحياة وإنَّ الحياة سخرت منه ‏فخلقت منه رجل نكتة، كان شابًا في الرابعة والعشرين مفتول العضلات متناسق ‏التقاطيع فارع الطول.. وكنتُ على النقيض من صديقي مصطفى.. كان طائشًا لا ‏يهمّه أن يسقط...".‏

وأخذت رفقته لـِ"مصطفى" منحى لا يحبه ولا يرغبه، فهو رفيقه بالمقاهي والمعارض ‏والمحال والشوارع دون نقاشه أو معارضته، ويستمر هذا الصراع بين هاتين ‏الشخصيتين المتنافرتين إلى أن يلتقي بشخصية أنثوية صاحبة جمال خارق أخذت منه ‏كل اهتمام؛ إنها "نعيمه" وهنا يتحوَّل البطل الراوي "خليل" إلى تلك الفتاة:‏

‏"هي فتاة في العقد الثاني من عمرها ذات جمال نادر يستهويك بسرعة ولا تملك أن ‏تتجاهله ووجه ضاحك وشفاف.. في عينيها جرأة وقوة خفيّة". ‏

وهكذا بدأ بنسيان صديقه "مصطفى"، وأخذ يلاحق "نعيمه"، لكن هذه الفتاة هي ابنة ‏المدينة وهو ابن القرية، وهي عاملة في المعارض التجارية، فكيف سيتقبَّلها أهله في ‏تلك القرية في حال أصبحت زوجته! ‏

لكنه أصر على ملاحقتها والتقرب منها وقد طال الزمن وهو في حالة صراع نفسي ما ‏بين حاجته ورغباته والواقع الذي يعاني منه، وشاءت الأقدار أن يلتقيها ويعرف ‏سكناها، فيرحل ليجاورها، وتصبح لغة الحوار "صباح الخير" و"مساء الخير"، ‏فعرفها وعرفته، وأصبح قريبًا منها والأحلام تلاحقه في منامه، فلا يدري كيف ومتى ‏وأين يتواصل معها. ‏

وفي إحدى الليالي بينما هو عائد من سهرته الليلية سمع صوتًا يستغيث، فكانت ‏‏"نعيمه" بين يدي أمها الكهلة والمريضة، منكبّة عليها تنتحب وتبكيها، فجاء مغيثًا ‏وساعدها في تقديم العون لوالدتها، وبقي طوال الليل يقدم العون والمساعدة، هكذا بدأت ‏العلاقة بين "خليل" و"نعيمه" تتوثق أكثر فأكثر، إلّا أنَّ الصراع في داخل "خليل" ‏يستمر من جديد، فهو ابن القرية الفقير وهي الفتاة المدنيّة المنفتحة على المجتمع، ‏فكيف ستقبل أن تكون في تلك البيئة...! ‏

لكنَّ "نعيمة"، وعلى الرغم من ذلك، قبلت بالزواج من "خليل"، لتبدأ عمليّة الصراع ما ‏بين رغبة "خليل" وأهله، فكل العائلة تقبل هذا الزواج، وخاصة عبلة شقيقته وأقرب ‏الناس إليه، إلّا والده الذي كان معارضًا، ولم يقبل حتى زيارته في عمّان، لكنّه وافق ‏بعد عناء شديد. ‏

ويتزوج "خليل" و"نعيمه"، ويسكنان في عمّان، إلّا أنَّ الموت يلاحق "نعيمه"، فتموت ‏أمها، وتبقى تصارع الوحدة على الرغم من وجود زوجها الذي يملأ الحياة عليها، ‏ويملأ عليها بعض الفراغ ويهوِّن عليها شيئًا من آلامها...‏

‏"وحدث ذات ليلة أنْ رجعتُ إلى شقتي في ساعة متأخرة من الليل كعادتي، فصادف ‏ساعة وصولي إلى شارع خرفان أنْ كان النور خافتًا في منازل الحيّ، وكان الشارع ‏غارقًا في سكون الليل، لا قمر فيه، فتراءى لي حيّ المهاجرين... ثم انتقل بصري ‏إلى حيّ المصدار... ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات...".‏

إنَّما هي الأفكار التي تلاحق "خليل"، ومراقبة نوافذ الناس المطفأة ليلًا، ويفكر ‏بالمستويات المختلفة بين طبقات المجتمع، ثم يفكر بنفسه؛ الإنسان الفقير، ويعيش ‏لحظات الصراع المزدوجة؛ حالته وحالة "نعيمه" من جهة، وحالته وحالة المجتمع ‏العمّاني من جهة أخرى، إلّا أنَّ إحساسه بالسعادة مع "نعيمه" أنساه الكثير الكثير: ‏

‏"ولستُ أنكر عليك عزيزي القارئ أنَّ الغرور ركبني تلك الليلة حتى خيّل إليّ أنَّني ‏أحسن وأسعد الناس، بل وأفضل منهم جميعًا...".‏

‏ وتنقضي العطلة الصيفيّة، ويعود "خليل" إلى مدرسته وإلى طلابه، و"نعيمه" الزوجة ‏الجميلة في البيت دائمة الانتظار، حتى إنه لم يستطع زيارة أهله، فهو ما بين عمله ‏وزوجته، وبقي الأب معاندًا ولم يحاول حتى زيارته لأنه رفض ذلك الزواج من ‏‏"نعيمه"؛ فهي في نظره ليست من طبقته ولا يمكن أن تكون من مستواهم الأخلاقي:‏

‏"...نعم أمّا أبي فلم يحضر مع أمي وإخوتي، إنه ما زال عنيدًا كعادته.. كان من ‏الرجال المتزمتين القساة، اتخذوا من الغلظة والجمود سبيلهم إلى الشرف ‏والفضيلة، وكنتُ أسمعهم يقولون: ‏

عمرك لا تضحك بوجه ابنك علشان يحترمك عندما يكبر...".‏

ويبدأ الصراع ما بين وجود "نعيمه" ورأي الأهل وعشق "خليل" لـِ"نعيمه"، وأخذت ‏محاولات الأهل لطلاق "نعيمه" مرات ومرات، وقد شاءت الأقدار أن يزور الوالد ‏بيت "نعيمه" لمرة واحدة عندما ماتت أمها، ويبدأ الكاتب يهيئ القارئ للمفاجآت التي ‏ربما تأتي من خلال مبرّراته لوقوع الإنسان في الخطأ من خلال ثلاثة عوامل:‏

‏1-‏ ضحيّة الطبيعة.‏

‏2-‏ ضحيّة القدر.‏

‏3-‏ ضحيّة الجهل والشيطان.‏

‏"...فالمجرم اذن ضحيّة أحد هذه العوامل، والإنسان يولد وديعًا كالحمل ولا يمكن ‏أن يكسب صفة الجريمة عن طريق الوراثة...".‏

ويحاول الكاتب التركيز على الجوانب الاجتماعية كثيرًا؛ مثل ذلك الرجل الذي لم ‏يستطع دفع الأجرة من عمّان إلى إربد ليزور أولاده؛ إنَّما هي مواقف إنسانية تنسجم ‏مع طبيعته وأخلاقه الريفيّة...‏

أمّا زيارة والده إليه فكانت قد أحدثت خللًا بين "خليل" و"نعيمه" عندما أشار إليه والده ‏بطلاق "نعيمه"، وقد عرفت بهذا الأمر الذي جعلها تفكر من جديد ببقائها معه، فكانت ‏تلك اللحظات التي ودَّعها فيها عند ساعات الصباح، وكان وداعًا حميميًّا بينهما، ولم ‏يعرف أو يدرك ما تخبئ له "نعيمه" من مفاجآت، لكنه عندما عاد إلى البيت لم يجدها، ‏فقد هربت تاركة حبها وبيتها وأحلامها وراءها. ‏

يمضي "خليل" تلك الأيام هائمًا على وجهه بين النوادي الليليّة والنساء بائعات الهوى.. ‏إلّا أنَّ رأي أهله ورغبتهم كان بعودته إلى القرية وخطبته لقريبته "أمينه" التي لا ‏يحبها، لكنه ملزم بها بحسب الأعراف الريفيّة؛ وفي وقت دقيق -أي يوم زواجه- هرب ‏من القرية عائدًا إلى المدينة وقد مضى على رحيل "نعيمه" عنه سنتان بقي خلالهما ‏محبًّا باحثًا عن "نعيمه"، ولم يلتقِ بها إلا مرة واحدة، ثم تركها في شقته طيلة أيام ‏رحلته إلى القرية، وأثناء عودته من القرية طالعته إحدى الصُّحُف بالعثور على جثة ‏امرأة منتحرة في شقتها، كما حدث لـ"مصطفى سعيد" في رواية "موسم الهجرة إلى ‏الشمال" عندما عاد إلى قريته تاركًا كل مغريات الحضارة الأوروبيه في بريطانيا...‏

‏- - - -‏

‏* من أول الروايات التي كتبت في الأردن، صدرت عام 1963 عن دار الكاتب ‏العربي في بيروت.‏‎ ‎