عوالم غالب هلسا

‏ د. سلوى العمد

أكاديمية وباحثة أردنية

 

 

ما عرفناه من سيرة غالب هلسا قد يصلح لقراءة في عوالمه الداخليّة؛ فمن وقائع حياته ‏يمكن استخلاص الهواجس الأساسيّة التي سيطرت عليه زمانًا ومكانًا في مجمل أعماله ‏الأدبيّة. وإذا جاز لنا أن نقول شيئا عنه، فهو إنَّ زمانه ومكانه شكَّلا الدراما الحقيقيّة ‏التي لم يكتب منها إلّا شذرات في ثنايا رواياته. ‏

وُلِدَ غالب هلسا لأبوين كهلين، كان هو أقرب إلى حفيد لهما منه إلى ابن،‎ ‎وعندما ‏صار صبيًّا في عمر المدرسة تمَّ إرساله إلى مدرسة داخليّة هي مدرسة المطران في ‏عمّان. ما يجعلني أفتتح مقالتي هذه في وقائع أوليّة عنه، هو عدم توفُّر بيئة أسريّة في ‏حياته منذ الطفولة، ممّا جعله هو ذاته شخصيّة دراميّة ربّما أكثر دراميّة من بعض ‏أبطال رواياته العديدة. ويفسِّر هذا الأمر أنَّ غالب نفسه كان دائمًا حاضرًا بطريقة أو ‏بأُخرى في رواياته. لكن ما لم يحضر في رواياته بشكل مباشر هو ذلك الفراغ ‏العاطفي الكبير والصامت الذي سيطر على حياته من حيث أنه -وإن بقي يرضع من ‏أُمِّه لسنوات عديدة كما قال يومًا- إلا أنَّ الفرصة لم تُتَح له لمعايشة أُم شابّة تكبر أمامه ‏وهو يكبر أيضًا، فيتعرَّف عليها بكلّ أوضاع المرأة الفتيّة من خصب وحيويّة. ‏

هو إذن، لم يتذكَّر أُمًّا شابّة كبرت أمامه حتى وصلت سنّ الكهولة، بل وجد أُمًّا كهلة ‏تُرضع صبيًّا هو أقرب إلى الحفيد منه إلى الابن. كذلك الحال مع والده الذي عاش ‏طويلًا، وظنَّ غالب أنه سيعيش كوالده عمرًا مديدًا، وأنَّ هذا ما سيمكِّنه -كما قال ‏يومًا- من كتابة كل ما يريد كتابته قبل أن يرحل بعد عمر ظنّه يكون وراثيًّا. وقد ‏يكون هذا الإرث الوهمي لعمر مديد هو الذي جعله يعتدّ بوالد عاش لقرن من الزمان؛ ‏ففي ذلك وعدٌ خفيٌّ لغالب يعوِّضه عن حقيقة أنه وُلد لجدَّين لا لوالدين، وأنَّ في هذا ‏العمر الموعود تعويضًا عمّا فاته من حياة طبيعيّة مع والدين وأسرة. لكن هذه الدراما ‏الدَّفينة في طفولة غالب وحياته لم تتوقف عند هذا الحد، فقد شاءت الظروف كذلك، ‏أن يشبّ غالب ويتعرَّف على الحياة السياسيّة في الخمسينات من القرن العشرين، ‏فينضمّ ناشطًا إلى صفوف الحزب الشيوعي الأردني، ويملأ بعضًا ممّا كان يحسُّه ‏كصبيّ من وحدة وعزلة في زخم الحياة السياسيّة إبان أوْجِها في خمسينات وستينات ‏القرن الماضي، وكأنَّما وجد غالب في ذلك معادلًا موضوعيًّا -لما فاته- فتح له أبواب ‏التعرُّف على الكثيرين والكثيرات، وجعله أكثر رحابة وخصبًا في تناول موضوعاته ‏الروائيّة التي إن تلخّصت في شيء فإنَّها تتلخَّص في موضوعين أساسيّين: المرأة ‏والسياسة بشقّها الشعبي المتصارع مع الحكومة أو الحكومات المتعاقبة. ‏

لكن أيّ امرأة تلك التي افتقدها غالب، وظلَّ يبحث عنها في هاجسه الدرامي أكثر ممّا ‏يبحث عنها في الواقع الحياتي؟ إنَّها النساء اللواتي طمح غالب إلى جمعهنّ في واحدة، ‏وهنّ: المرأة الأُم (التي ترمز إلى القداسة وتعادل الوطن)؛ وامرأة القاع الاجتماعي ‏‏(الخادمة مثلًا) وهي المهمّشة التي تقاوم التهميش وتختطّ طريقها بقوّة وصلابة، وقد ‏تكون عاشقة ومعشوقة. لكن امرأة كهذه تنتمي إلى شريحة اجتماعيّة مهمّشة ترمز في ‏ذهن عامة الناس إلى الدّنس (عكس القداسة التي ترمز لها الأُم). ثمّة شريحة ثالثة ‏بهرت غالب وهي المرأة المثقفة التي تجاوزت الواقع التقليدي، فحملت في شخصها ‏معاني القداسة (في الفكر والإبداع) ولكن أيضًا معاني الدّنس الماثل في عزلها ‏وتهميشها في مجتمع يعتدّ بسياقه التقليدي؛ وهذا ما جعل غالب يجد فيها خصبًا دراميًّا ‏واعدًا. بمعنى أنَّ غالب هلسا وجد ثراء الدراما في النساء المهمَّشات الخارجات عن ‏السياق الاعتيادي للمجتمع. ولهذا نجد هذه الشرائح من النساء متداخلة في العديد من ‏رواياته في شخص بطلة واحدة في أغلب الأحيان. ‏

في إحدى زيارات أُمي لي في بيروت في العام 1982، طلب غالب وثلَّة من ‏الأصدقاء أنْ تُعدَّ لنا أُمي وجبة لا يجدها المغترب أو المنفي في منفاه، تلك هي ورق ‏الدوالي مع الكوسى والباذنجان المحشي إلى جانب الفوارغ وفتَّة المقادم. وقد انشغلت ‏أُمي وشقيقتي الكبرى، أُم علي، في إعداد الوجبة لساعات، وبعد أن وُضع الطعام على ‏النار للطّهي، وعندما عدتُ من عملي إلى شقَّتي كانت أُمي وشقيقتي قد أنجزتا تلك ‏المهمَّة الشاقّة والمملَّة ووضعتا الطناجر على الغاز للطهي، وفيما هما في انتظار أن ‏يُطهى الطعام، فنجتمع في المساء مع الأصدقاء "المحرومين" حميميّة اجتماع الأسرة، ‏تناوَلَتْ أُمي إحدى روايات غالب (الضحك) وأخذت تتصفَّحها قارئة صفحات منها. ‏قلتُ لها: "ما رأيك في ما يكتب؟"، قالت: "إنه بوهيمي وعدمي". وعندما جاء غالب، ‏قلتُ له ما قالته أُمي، فقال: "لقد فهمَتْني أُمك أكثر ممّا فهمني النقّاد". ولمّا سألتُ أُمي ‏في ماذا وَجَدَتْ "بوهيميّة" غالب و"عدميّته"، أجابت: "في شخصيّة المرأة فيما يكتب". ‏وأظنّها كانت محقّة في ذلك، فغالب كتب عن المرأة المستحيلة، وإنْ استقى شخصيّتها ‏متعدِّدة الأبعاد من الواقع الإنساني الخصب. ‏

الاغتراب الآخر الذي أودُّ الإشارة إليه في حياة غالب، هو اغترابه منذ الطفولة عن ‏المكان الحميم. فبعد انفصاله باكرًا عن بيت الطفولة لم يعُد غالب إلى البيت الحميم ‏حتى وفاته. فعندما أصبح غالب في عمر المدرسة أُرسل إلى مدرسة المطران في ‏سكن داخلي -كما أسلفت- وهكذا، بدأ حياته نزيل مدرسة داخليّة، ثم أكملها نزيل فندق ‏أو شقة مفروشة، وفي بعض الأحيان نزيل سجن، وكان نزيل المستشفى قبل أن يعود ‏إلى وطنه مسجّى في كفن. وهكذا جمَعَتْ حياته بين أهمّ اغترابين يفقد الإنسان فيهما ‏الحميميّة في الحياة، هما الاغتراب الزَّمني الذي يفصله من حيث العمر عن أبوين ‏كهلين، والعيش في الغربة التي لا تَعِدُ بالحميميّة.‏

من الناحية الإبداعيّة، استَنَدَتْ عوالم غالب على ثلاثة مرتكزات هي: الكتابة الروائيّة ‏والكتابة الفكريّة والترجمة الإبداعيّة. لكنَّ أمرًا رابعًا أودُّ الإشارة إليه وهو تجربة ‏غالب في الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في العام 1982، عندما قرَّر أن يكتب نهارًا ‏ويلتحق بخطوط التَّماس ليلًا ليتعَّرف على الناس العاديين المقاومين في أحيائهم ‏وبيوتهم. وكانت هذه تجربة فريدة كذلك.‏

يقول غالب في شهادته عن الحرب والتي نُشرت في مجلة "الطريق" اللبنانية: "كنتُ ‏أبحثُ عن دوْرٍ لي في هذه الحرب، إذْ لا يُعقل أن يموت الناس العاديّون ونحن ‏كمثقفين نتفرَّج عليهم. فعندما وصل الغزاة الصهاينة للزهراني، شعرتُ أنَّ على ‏المثقفين أن يبحثوا عن دَوْرِهِم في هذه الحرب الشاملة". ‏

كان غالب أوَّل مَن أشاد بفكرة جمع الشهادات عن الحرب لتسجيل وقائع بطولة الناس ‏العاديين فيها. غالب نفسه قام بجولات يوميّة على مواقع المقاتلين في خطوط التَّماس، ‏وكان لاهتمامه هذا بُعدان لهما الأهميّة نفسها: التزام المثقف الثوري بقضايا الناس ‏وتوحُّده معهم؛ والتعرُّف على البُعد الدرامي لوقائع الحرب كما هو موجود في حياة ‏الناس. وفي هذا السياق، اتَّسمت شهادته بالشفافية في سردها للوقائع وفي رصدها ‏وتحليلها للتغيُّر الحاصل في المعايير والقيم، وأيضًا تحليلها لمفهوم فكرتي الصمود ‏والبطولة كما وردتا في سلوك الناس.‏

في البحث عن دَوْر، قال غالب في شهادته: "لم أعتقد أنَّ للمثقف دورًا في الحرب، ‏لكن بعد أن وصل الغزاة منطقة الزهراني، شعرتُ أنَّ هذه حرب شاملة وأنه يمكن لكلٍّ ‏منّا أن يكون له دورٌ فيها، مطلوب منّا نحن أن نبحث عن دورنا فيها".‏

وتابع: "في اليوم الرابع أو الخامس للحرب "استهديتُ" على إذاعة فلسطين. وشعرتُ ‏أنَّ بإمكاني المشاركة في الكتابة في الإذاعة وصحف المقاومة (صحيفتا "العودة" ‏و"المعركة") لأبثَّ آرائي عبرها في ما يجري، على اعتبار أنَّ حرب الشعب طويلة ‏الأمد هي فرصتنا لإحداث تغيير جذري في عموم المنطقة العربيّة وليس في لبنان ‏فقط. كان هذا كله يتم في "جو نصف جدّي ونصف توقُّع ونصف حلم".‏

لكن قبل وصول الإسرائيليين إلى بعبدا، حدث شيء لم نفهم دلالته إلا في ما بعد، كان ‏ذلك هو "أسطورة الصُّمود في خلدا". لم يوجد في خلدا ما يعدُ بالصُّمود؛ فلا قوّات ‏عسكريّة ولا مقوّمات للصُّمود. ومع ذلك كان صمود خلدا نقطة تحوُّل. إذ أنَّ ذلك ‏جعل المقاتلين يحسّون بإمكانيّة صدّ جيش يبدو وكأنه لا يُقهر. ومع وصول تباشير ‏صمود خلدا إلى بيروت، استفاق الناس بعد أسبوعين من الحرب، على ضرورة ‏تحصين بيروت التي كانت حتى ذلك الوقت لم تستعدّ بعد لاجتياحها كعاصمة. ‏

في بداية الحرب أمضيتُ الكثير من وقتي في الإذاعة، لكن في ما بعد أصبحتُ أشعر ‏بضرورة أن أفهم ما يجري على أرض الواقع. ومع بداية رمضان، قمتُ بإعداد ‏برنامج ترفيهي للناس وللمقاتلين بعنوان "سلّي صيامك". كنتُ أقومُ بإعداد هذا ‏البرنامج ليلًا، وفي الصباح أتوجَّه للضاحية الجنوبيّة حيث محاور القتال في خطوط ‏التَّماس مع العدو. ‏

كان بعض الأصدقاء يقولون إنّي في خطوط التماس إنَّما أفتِّش عن المواقع الخطرة، ‏لكن مع مكوثي هناك اكتشفتُ أنَّ خطوط التَّماس ربما تكون أكثر أمنًا من غيرها بسبب ‏تداخل المواقع فيها. قال لي الصديق ميشيل النمري إنَّ الطيران الإسرائيلي يشنُّ ‏غارات يوميًّا على حارة حريك قبيل موعد الإفطار. في ذلك اليوم حصلت غارة وقد ‏كنّا هناك، لكن من غير المعقول أن نغادر وكأنَّنا نقول لسكان المنطقة: موتوا وحدكم.‏

في خطوط التَّماس، لاحظتُ أنَّ المقاتلين كانوا قد اكتشفوا حقيقة تخصّهم وحدهم، ‏وهي شعورهم بالقدرة على مواجهة الدبّابة الإسرائيليّة والمشاة الإسرائيليين. فالجيش ‏الإسرائيلي كان يتبع تكتيك عدم تحريك قطاعاته العسكريّة إفراديًّا، حيث تتحرك ‏الدبّابة والطيران الحربي والبحريّة والمدفعيّة الثقيلة، لكن تداخُل المواقع على خطوط ‏التَّماس أفشَلَ كل هذه المعدّات ولم يبقَ سوى الدبّابة والمشاة.‏

بيروت الداخلية وبيروت التماس: كان الناس في بيروت يتحدَّثون عن الصُّمود فيما ‏سكان خطوط التماس كانوا يتحدَّثون عن النَّصر. "تجربة المقاتلين في خطوط التماس ‏تبرِّر التفاؤل لديهم، فقد كانت حفنة صغيرة من المقاتلين تدحر قوّات العدو ومعدّاته، ‏والمسألة الوحيدة التي هزّت المقاتلين هي قرار الخروج من بيروت. وهو ما أدّى إلى ‏انهيارات من نتائجها تقدُّم العدو في حيّ السلم والأوزاعي. وأمّا معركة المتحف فكانت ‏هي الاستثناء. وجهاء بيروت والقوى الرجعيّة العربيّة والأمريكان سعوا لئلّا يكرَّس ‏هذا الصمود كنموذج للمنطقة والعالم. فما حدث في بيروت لا يمكن مقارنته بما حدث ‏في فيتنام. في بيروت: الإنسان مقابل الآلة وينتصر الإنسان... إذّاك، صار واضحًا أنَّ ‏نوعًا من التآمر الشرس يحصل لمنع نموذج بيروت من أن يأخذ مداه. ‏

صور من المعارك في خطوط التماس سكنت ذاكرتي، منها الرَّسائل التي بعث بها ‏جنود العدو للمقاتلين يتعهّدون بعدم الرَّمي عليهم مقابل أن يتعهَّد المقاتلون بعدم الرَّمي ‏على الغزاة. هذه الرَّسائل وصلت أخبارها كل بيت على خطوط التَّماس. وكان لذلك ‏دلالته، فهذا العدو المتغطرس يستجدي المقاتلين ويبحث عن النَّجاة. القاعدة التي كنتُ ‏أذهب إليها تتألف من عائلة واحدة الزوجة والأولاد والأخوة والأخوات جميعهم معًا في ‏القاعدة. من بينهم صبيّ في الثالثة عشرة اسمه "وفيق". كان "وفيق" هذا يقصف ‏الغزاة بقذائف الهاون، ويكتب على كل قذيفة من "وفيق" إلى "شارون". لم يفكِّر ‏‏"وفيق" بانفجار المقذوفة وبالتالي تلاشي رسائله لـِ"شارون"، بل كان يعتقد بأنَّ ‏‏"شارون" يتابع هذه الرسائل‎.‎‏ ‏

تجربة الحرب فتحت عيوني على الجانب البطولي الخفي في كل إنسان... في الحقيقة ‏أنَّ بطولة الإنسان وعظمته تتجلّيان في حصار تلّ الزعتر وبيروت. ‏

جانب آخر تكشَّف لي من المعارك هو تغيُّر القيم إبان الحصار: أي أنَّ الإنسان أصبح ‏يقيَّم بمقدار ما يصمد ويبدي بطولات وتضحيات‎.‎

في مكان ما من الضاحية الجنوبيّة قمتُ بزيارة عائلة لبنانيّة. ربّ العائلة صاحب ‏فرن، وله سبعة أولاد. لاحظتُ أنَّ هذا الرجل يجاهد بكل قوّته ليستمرّ الفرن في ‏العطاء. ينتقل من منطقة لأخرى لتأمين الطحين والوقود ويقول: "هذا واجبي..."، كان ‏يقول: "أولادي أحدهم في الشعبيّة والثاني في الديمقراطيّة والثالث في فتح والرابع في ‏الحزب الشيوعي أو أمل، ليس مهم لمن ينتمون، المهم أنهم جميعًا في المحاور ‏يقاتلون". كان لديه ما يقارب العشرين عاملًا في الفرن، بعضهم مصري أو لبناني أو ‏فلسطيني، وكلهم في الصباح يعملون في الفرن وفي المساء يعودون إلى مواقعهم ‏القتاليّة. ‏

لمستُ في بيروت بطولات تحتاج لتفسير؛ لماذا هي بطولات: هي بطولات رغم أنها ‏مع الوقت أصبحت البرنامج الاعتيادي في حياة الناس، ولم تعُد استثناءً. لاحظتُ ‏بمرور الوقت أنَّ الناس صاروا يناقشون وعيهم الديني، أذكرُ أنني سمعتُ في منطقة ‏البرج رجلًا يقول لنفسه: "والله لأكلّمه أكثر ممّا كلّمه موسى"، قلت: "ومن هو الذي ‏تريد أن تكلِّمه؟"، قال: "ربنا فوق، أريد أن أسأله، هل قتل الأطفال حلال أم حرام...؟ ‏هل السبعة آلاف ليرة التي احترقت في منزلي حرْقها حلال أم حرام؟"، وأشار الرجل ‏إلى أنه ذهب إلى طبيب، قال له: "وأنت مالك؟ ما تتحمَّل مثل ما صبر أيوب". قال ‏الرجل للطبيب: "أيوب اشتهر يا دكتور، ليس لأنه صبر، بل لأنه اشتكى". ‏

جانب آخر من وقائع التجربة الشعبيّة أودُّ الإشارة إليه؛ وهو أنَّنا وزَّعنا ألفي ورقة ‏على الأطفال وطلبنا منهم الرَّسم عليها، عادت لنا حوالي خمسين ورقة وكانت ‏الرُّسومات لها دلالة قيِّمة. تذكَّرتُ رسومات الأطفال البولنديين في الحرب العالميّة ‏الثانية والتي عبَّرت عن رُعب هؤلاء الأطفال من النازيّين، أطفالنا في خطوط التَّماس ‏رسموا خطوطًا مرحة. وتمحورت رسوماتهم حول صورة الطيّارالإسرائيلي والدبّابة ‏التي تقصف فيبادرها المُقاتل- الفدائيّ بضربة مفاجئة تكون القاضية. الفدائي في ‏رسومات الأطفال كان مقتحمًا باستمرار".‏

ويضيف غالب:‏

‏"المسألة الأخرى هي التحوُّل في طفولة الفلسطيني، فالشيء الذي يملأ خيال المُراهق ‏هو المرأة، وكذلك الفتاة يسيطر على خيالها الرجل، غير أنَّني رأيتُ الأشبال ‏والزَّهرات يركِّزون انفعالاتهم على الدبّابة". ‏