‏"الوِزر المالح" وفرضيّة تعدُّد الرُّواة

‏د.نضال الشمالي

‏ ناقد وأكاديمي أردني

 

فازَتْ رواية "الوز المالح" لمجدي دعيبس بجائزة كتارا للرواية العربيّة لعام 2019، ‏أي بعد عام واحد على صدورها، وقد كان هذا التقدير للرِّواية في محلّه لأسباب تتعلق ‏بما طرحته فكرًا، وما شكَّلته بناءً. هي رواية واقعيّة ذات ظلال تاريخيّة وسياسيّة، لا ‏يكتمل وعي القارئ تجاهها إلا في سطورها الأخيرة، والسبب نظام الحبكة المخاتل ‏الذي سيخرق أفق توقُّع المتلقي لا محالة.‏

 

لا يَعْزُبُ عن متخصّص في فن الرواية ما يُحدثه خطاب الرواية، بوصفه منظِّم السَّرد ‏وسادنه، من قدرة على استدراك ما يفوق مقصد المؤلف إلى مستويات تلبّي مقاصد ‏الكتابة الروائيّة بوصفها بنية تلفظيّة؛ إذ طالما قدَّمت البنية السرديَّة المتقنة لصاحب ‏العمل مرونة وعلوًّا في تجسيد رؤية تتجاوز فعل الإخبار إلى فعل الإضمار. ‏فـ"الرواية ظاهرة أدبيّة متصلة بالعالم عبر التمثيل السردي، ومنفصله عنه بالتعبير ‏الذاتي عن المؤلف كمنتج للنص وخالق للعوالم المتخيَّلة، بعبارة أخرى تربض المغامرة ‏الروائيّة على التخوم الفاصلة بين الفرد والعالم، وتتحرَّك ذهابًا وإيابًا".‏

تتَّخذُ رواية "الوز المالح" من الأيام الأخيرة للدولة العثمانيّة في بلاد الشام موضوعًا ‏لها من خلال تمثّل مجريات عاناها سكان قرية تقع شمالي الأردن دفعت ما دفعه ‏الكثيرون من تضحيات وصبر وجوع حيال هبّات التجنيد الإجباري التي تقوم بها ‏الدولة العثمانيّة في حق أبناء القرى العربيّة، هذا الجيش العثماني الذي يجابه أعداءه ‏بأبناء أقاليم عانت ما عانته جراء سياسة الأتراك آنذاك. ‏

يترك المؤلف إطارًا واسعًا من الحرية السرديَّة لشخوص العمل ليقدموا مرئياتهم ‏وشهاداتهم حيال ما جرى وما كان، فيمتزج السياسي بالتاريخي، والواقعي ‏بالاجتماعي، وقد سمح ذلك للعمل بأن يكون رواية واقعيّة ذات ظلال تاريخيّة ‏وسياسيّة، لا يكتمل وعي القارئ تجاهها إلا في سطورها الأخيرة، والسبب نظام ‏الحبكة المخاتل الذي سيخرق أفق توقُّع المتلقي لا محالة. ‏

نذرت رواية "الوزر المالح" مجموعة من العتبات النصيّة شكَّلت إعلانًا مسبقًا على نيّة ‏كاتب العمل، وقد كان في طليعة هذه العتبات العنوان والتصدير والهوامش. فعنوان ‏العمل لفظتان في وزن المبتدأ ونعته مع حذف الخبر. إنّ لفظة "الوزر" لفظة مستعارة ‏من الخطاب الديني بمعنى الخطيئة، لكن توظيف "الوزر" في العنوان لا "الخطيئة" ‏يُكسب العمل أهميّة ترقى لأهميّة الخطاب الأيديولوجي، فهناك تجاوز لحدّ من الحدود ‏يقتضي العقوبة والكفّارة. أمّا لفظة "المالح" فتوحي بدلالة الألم المضاعف ذي البعد ‏المستمر، إذن ترهص عتبة العنوان بإقرارٍ مسبق بوقوع الخطيئة. ‏

‏ أمّا التصدير بوصفه عتبة تؤطر العمل فقد صاغها دعيبس بقوله: "هذه رواية عن ‏الحب والحرب... عاشت شخصياتها وجرت أحداثها في عالم يشبه عالمنا إلى حدّ بعيد ‏حتّى يكاد يكون هو ذاته..."(ص5). وهذا التصدير الذي يمثل الصوت الصريح ‏للمؤلف في العمل يثبت فكرة إسقاط ما مضى على ما سيكون وما تشكّل فيما سيُشكّل ‏غدًا، وهذا توجُّه يحمل التنبيه ويقرع جرس الإنذار لأمر جلل قد يُلمّ بنا بحسب منظور ‏المؤلف. أمّا عتبة الهوامش فماثلة في جنبات العمل ذات غايات متعددة، وقد غلبت ‏عليها الهوامش التاريخيّة والهوامش التعريفيّة والهوامش اللهجيّة، أمّا التاريخيّة فمثّلت ‏الحضور الأبرز، إذ ما فتئت الرواية توضّح كثيرًا من الأحداث التاريخيّة التي وقعت ‏ضمن العصر الذي ينتمي إليه فضاء العمل من باب المحافظة على مستوى من ‏الإدراك المعرفي بين الرواية وقارئها، فهذا النوع من الموضوعات المطروحة لا ‏يراهن كثيرًا على معرفة القارئ التاريخيّة، وفقدان ذلك الانسجام المعرفي بينهما قد ‏يقلّص أطر التفاعل المطلوبة. ‏

على صعيد البناء المرحلي للعمل، تبنّت الرواية فكرة المشاهد المنفصلة براويها ‏ومكانها وموضوعها. وقد وظّفت الرواية ثلاثين مشهدًا تقاسمتها شخصيات العمل ‏الرئيسة، تناوبت خمس عشرة شخصية على روايتها وتنظيم أحداثها، شرط أن يُعنون ‏اسم المشهد باسم راويه. وقد استهلَّ المَشاهد الجنرال الإنجليزي "أدموند ألن بي" ‏الشهير بـِ"اللنبي" والذي كان له دور محوريّ في إقصاء العثمانيين الأتراك عن بلاد ‏الشام، وقد كان لهذا الاستهلال دلالته أيضًا، فالمستعمر كان له الكلمة العليا في تغيير ‏الخارطة السياسية للمنطقة قبل مئة عام إبان الحرب العالميّة الأولى، والطريف أنَّ ‏العمل أتاح لـ"اللنبي" أن يروي ثلاثة مَشاهد متفرقة يراوح في حديثه بين السياسة ‏والتطلعات الشخصيّة. وقد سمح هذا النظام المشهدي لبعض الشخصيات أن تُبرَز على ‏حساب شخصيات أخرى لاعتبارات فنيّة، فالشخصية الواحدة يمكن أن تكون راويًا ‏يحكي شخصية تُحكى.‏

‏ إنّ هذا التنوُّع في بناء مَشاهد الرواية فتح الباب واسعًا أمام مبحث الرُّؤية أو المنظور ‏السردي، فالرُّؤية في أبسط صورها هي "الكيفيّة التي يُدرك بها الراوي قصته". ‏والكيفيّة التي أُدركت بها أحداث رواية "الوزر المالح" كفلت للرواية تفوُّقًا في الفكرة ‏والأداة عندما حقّقت مبدأ تعدُّد الأصوات أو ما يُسمّى "البولوفونيّة"، بما يحتّم على ‏كاتب العمل أن يتعامل مع حشدٍ من الرواة بذهنيّات مختلفة وغايات متباينة وقدرات ‏متفاوتة، فالشخصيات الرئيسة من زاوية أخرى هم رواة أخذوا على عاتقهم تقديم ‏الأحداث من منظورها، وعلى المتلقي أن يربط أوصال الحبكة الروائيّة ويشدّها بفهمه. ‏

مارس الرّواة المتعدّدون صيغة سرديَّة قوامها المونولوجات الممزوجة بالتداعيات ‏المتعاقبة، وهذه المونولوجات تحرّك أحداث الرواية تسريعًا وتبطيئًا، إذ كانت أشبه ‏بـِ"تيار وعي جمعي" إن جاز المصطلح. توزَّعت مهمّة الرُّؤية على خمسة عشر راويًا ‏تناوبوا على رواية المشاهد الثلاثين كل من وجهة نظره، فعمّق ذلك من رؤى العمل ‏وحقق المبدأ الحواري الذي نادى به "ميخائيل باختين" على مستويين؛ مستوى تعدّد ‏الأصوات ومستوى تماسك بنيات العمل السردي. وعلى الرغم من أنَّ هذه ‏المونولوجات عالية المستوى فقد جاءت على حساب المشاهد الحواريّة الخارجيّة، ‏ومثل هذا النهج يراعى التباين في الآراء بين رؤية استعماريّة إنجليزيّة، ورؤية ‏عثمانيّة تركيّة، ورؤية عربيّة لسكان قرية من قرى الأردن. ‏

لقد اتَّخذ رواة العمل موقف الرُّؤية "مع" لتتناسب مع ضمير المتكلم في فعل السرد، ‏فهذا النمط من الرؤية استراتيجية تحتّم على صاحبها أنْ تُساوي معرفته معرفة ‏الشخصيات الأخرى، ومن ثم ما يعرفه القارئ فلا يتعالم طرف على طرف، والمهمة ‏تكمن في عرض وجهة النظر، فتشكّلت الرواية خارطة واسعة من فسيفساء الآراء ‏التي تؤوِّل مرحلة حسّاسة مرّت بها المنطقة إبان الحرب العالميّة الأولى وخسران ‏الدولة العثمانيّة للحجاز وبلاد الشام. ‏

‏ ومن جهة بنيويّة أخرى، جاء بناء العمل مرهونًا لحبكة مفكَّكة مقصودة لذاتها تستفيد ‏من انقسامها لتحاكي حالة الانقسام التي مرّت بها المنطقة مطلع القرن العشرين، وما ‏نمرُّ به اليوم من الانقسام والتشظّي في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. فتقنية ‏تعدُّد الرواة قادت إلى ذلك كما قادت إلى مضاعفة صيغة التمثيل "العرض" أكثر من ‏التقرير "الحكي"، فالمعنيون يمثلون الوقائع بجدارة وعفويّة، لأنّها جاءت رهنًا ‏للمونولوجات المتعاقبة التي لا يتوقَّع المتلقي إلى أين ستفضي وماذا ستقضي وكيف ‏سيكون مآلها وإلام سينقضي حالها. ‏

جاءت تقنية "القطع المكاني" مناسبة لفكرة تعدُّد الرواة والأصوات، فكل راوٍ له مطلق ‏الحرية بطرح الفكرة التي تقلقه، حُرًّا في تأويلها وتوجيهها وتوطينها المكاني، لذا كان ‏تطوُّر الأحداث عصيًّا على التوقُّع خارقًا لأفق التوقُّع، وهذا ما كان، فالأحداث التي ‏تبنّاها خمسة عشر روايًا جرى قصرها بدءًا من المشهد الثالث والعشرين على ‏شخصيتين أساسيتين هما الضابط التركي "سليم أكرات"، و"مريم" تلك الفتاة الشاميّة ‏التي تزوَّجها في ظروف من المقايضة، وقد استحقّتا فعل "التبئير" إلى نهاية العمل، إذ ‏أخذا على كاهلهما توجيه دفّة الرواية إلى مصيرهما المحتوم ضمن إطار رمزي قابل ‏للتأويل. وقد ماثل زمن القصة إلى حدّ كبير زمن السرد في تقدُّمه تقدُّمًا تصاعديًّا ‏معراجيًّا لا يحفل كثيرًا بالمفارقات الزمنية الكبرى كالاستباق والاسترجاع، وقد كان ‏لتركيز المؤلف على وجهات النَّظر والرُّؤى دورٌ في تحجيم فعل الزمن وضبطه ‏ضبطًا يتوافق مع التطوُّر التاريخي للأحداث. ‏

شكّلت شخصيات العمل بوصفها فواعل تنمُّ عن أفكار حالة من الصراع المتَّقد؛ لأنها ‏تمتلك حق الرَّوي والكلام، فجاءت جلّها شخصيات نامية شديدة التفاعل مع المجريات ‏وتطور الأحداث، فالضابط التركي "سليم آكرات" روى خمسة مَشاهد وزوجته "مريم" ‏روت خمسة مَشاهد، والجنرال "اللنبي" روى ثلاثة مَشاهد، ولم يتقاطع تقاطعًا مباشرًا ‏مع شخصيات العمل، ومختار القرية "أنور" روى ثلاثة مَشاهد، والشاب "عودة" ابن ‏القرية روى مشهدين، و"يحيى" أخو "مريم" الذي حرّره زواج أخته من الضابط ‏التركي "سليم" من التجنيد الإجباري روى مشهدين، والجاويش التركي "مصطفى" ‏معاون "سليم آكرات" روى مشهدين، أمّا "فضة" أم مريم و"سالم" و"عادل" و"أم ‏عودة" و"صفية" و"أم سليم" فقد روى كل واحد منهم مشهدًا واحدًا فقط. ‏

لقد فرض هذا التنوُّع في الشخصيات قصدًا في تنوُّع الرُّؤى والحيثيّات وقدّم بُعدًا ‏رمزيًا قابلًا للتأويل، فالجنرال "اللنبي" يرمز للاستعمار الإنجليزي الذي كان عاملًا ‏مهمًّا وخطيرًا في إعادة تشكيل خارطة بلاد الشام مطلع القرن العشرين. أمّا "سليم ‏آكرات" فيرمز للدولة العثمانيّة في وجهها الفتيّ، والجاويش التركي "مصطفى" يرمز ‏للدولة العثمانيّة في وجهها القاسي الظالم. أمّا المختار "أنور" مختار القرية و"سالم ‏البنجة"، فقد مثّلا دور العمالة للأتراك في إرشادهم لمن يصلحون للتجنيد القسري الذي ‏يُعادل فعل الموت والرَّحيل. وقد رمزت "مريم"، بوصفها شريكة "سليم آكرات" في ‏البناء الفني للعمل وفي الزواج، بلاد الشام الفتيّة الطاهرة المعطاءة التي ضحَّت بنفسها ‏من أجل تحرير أخيها "يحيى" من براثن التجنيد، الوفيّة لزوجها التركي، الذي صانها ‏وبقيت عذراء في بيته ومطيعة له حتى عند تنكُّره وهروبه جراء انهيار الحكم التركي ‏في بلاد الشام. أمّا بقيّة الشخصيات فترمز لأناس القرية البسطاء الذين لاقوا ما لاقوه ‏من التعنُّت التركي الذي سلبهم أبناءهم دون طائل، فكانوا يتلقون الصفعات دون أن ‏يحركوا ساكنًا، فبناتهم تُزَوَّج للضبّاط الأتراك، وأبناؤهم يضيعون في حروب الدولة ‏العثمانيّة التي لا طائل منها، وشبابهم يعانون قلة الحيلة، وشيوخهم ينتظرون مصيرهم ‏في مناخ من الفقر والعوز. ‏

وعلى مستوى الأداء اللغوي حافظ مجدي دعيبس على مستوى لغوي متوسط نأى ‏بنفسه عن اللهجة المحكيّة إلى فصحى مبسّطة يسيرة التواصل تتوزَّع بين التقريريّة ‏والإيحائيّة بحسب مقتضيات العمل، يقول "سليم" في مطلع المشهد السادس بلغة ‏تساؤلية إيحائية: "الأخطار التي تتقاذف الدولة (يقصد الدولة العثمانيّة) وتموج بها من ‏قمّة إلى قاع ومن مستنقع إلى منحدر. فقدنا أجزاءً من الإمبراطوريّة في أوروبا والآن ‏نحن في سوريا على المحكّ. ماذا سيحدث لو خسرنا هذه الحرب التي لم يخمد غبارها ‏منذ ثلاث سنوات؟ سؤال مخيف. لا أجرؤ على التفكير به بصوتٍ عالٍ. لكن العاقل ‏يتدبَّر"(ص47). هذا المستوى من التواصل اللغوي المبسّط مكّن من تناقل الأفكار ‏ضمن إطار مباشر لا يقبل تأويلًا متعدِّد الجوانب، وقد سارت لغة الرِّواية المسار ذاته ‏في بقيّة جنباتها. ‏

وختامًا، أفلحت الرواية في إثارة حيثيّات فترة حرجة -على الأقل ضمن رؤية الكاتب ‏التي يسعى لتجسيدها في مجمل الأحداث- أسهمت في تشكُّل ملامح مرحلة مهمّة من ‏تاريخ المنطقة كانت الكلمة فيها لشخصيّات اجتماعيّة واقعيّة عانت من غبار التاريخ ‏والسياسة ما عانت، لكنها كلمة ذات كشف لا تأثير، غابت عنها شخصيّة المثقف ‏العربي في مرحلة كانت أحوج ما تكون لقيادته وتأثيره في اتخاذ القرار بين أطراف ‏متصارعة دفعت فيها بلاد الشام الثمن الأصعب وعانت ملوحة وزر حاق بهم. ‏