حداثة الكتابة عند محمد آدم: بين الشعري والنثري

 

د. محمد الديهاجي

شاعر وناقد أكاديمي من المغرب

 

 

لأنَّ محمد آدم، رائد الحداثة الشعريّة في مصر، خلال مرحلة السبعينات، وما يزال إلى يومنا ‏هذا، اخترنا الإقامة في "حداثة الكتابة" عنده. حداثة الكتابة، ها هنا، بوصفها تجاوزًا لما سماه ‏الشاعر صلاح بوسريف "حداثة القصيدة". وليس من شك أنَّ "حداثة الكتابة"، عند هذا الشاعر، ‏قد جعلته يعبُر "قصيدة الطلل"، المتهندمة بلبوس جديد؛ ليُقيم في الشعر، في بعده الكوني ‏والإنساني.‏

في مصر، شاءت الظروف السياسيّة، خلال مرحلة السبعينات، المتمثلة في موت المشروع ‏القومي، واعتراف أنور السادات بالكيان الصهيوني، أن تغيِّر مجرى النهر الشعري، بالتمرُّد على ‏قيم ونظم القصيدتين، العموديّة والتفعيليّة. ولعلَّ من أهم شعراء هذه المرحلة، نذكر حسن طلب، ‏وأمجد ريان، وحلمي سالم، ورفعت سلام، وجمال القصاص، وعبدالمنعم رمضان، وعريس هذا ‏الاقتراب، البهيّ محمد آدم. ‏

وجدير بالذكر أنَّ هذا الجيل، قد أبدى إصرارًا كبيرًا، على الذهاب بالشعر العربي، إلى أقصى ‏تخومه، ومضايقه، دون هوادة أو مساومة. هو جيل قد يبدو مغاليًا في تجريبيّته أحيانًا، لكنه كان ‏شغوفًا بتحرير الشعر إلّا من شعريّته. ‏

محمد آدم والإقامة في الشعر ‏

لأنَّ محمد آدم، رائد الحداثة الشعريّة في مصر، خلال مرحلة السبعينات، وما يزال إلى يومنا ‏هذا، اخترنا الإقامة في "حداثة الكتابة" عنده. حداثة الكتابة، ها هنا، بوصفها تجاوزًا لما سماه ‏الشاعر صلاح بوسريف "حداثة القصيدة"(1). ‏

وليس من شك أنَّ "حداثة الكتابة"، عند هذا الشاعر، قد جعلته يعبر "قصيدة الطلل"، المتهندمة ‏بلبوس جديد؛ ليُقيم في الشعر، في بعده الكوني والإنساني. محمد آدم شاعر مشاء، لا بالمعنى ‏الفلسفي، وإنما بالمعنى الدياكروني/ الزمني؛ أو لنقل إنه شاعر جانوسي، بكل معاني العبارة ‏‏(نسبة إلى جانوس إله الأبواب والنوافذ في الأسطورة الإغريقيّة). أبوابه دائمة المواربة، وأفقه ‏الكتابي مخاتل، ويتَّسع لكل التوالجات الفنيّة، ومشترطاتها من خطوط الطول والعرض على ‏بياض الانشراح. ‏

ليست مسألة سالكة، أو يسيرة الشأن، أن تُتقن السير فوق حبل الزمن الشعري، متحسِّسًا تصادي ‏وتداني الحساسيات، ومنصتًا، في الوقت نفسه، لهسيس صوتك الخاص، في زمن تتصاعد فيه ‏جلبة المتشاعرين، وتتكاثر إلى الحد الذي يصعب معه التمييز بين الغثّ والسمين. ‏

وليست مسألة يسيرة، أن تكون شاعرًا، لا بانتمائك الأجيالي، وإنَّما بوجودك المختلف، وصوتك ‏المائز. وحده الشاعر الجدير بهذه الصفة، يستطيع ذلك. ومحمد آدم، واحدٌ من هؤلاء؛ وهم ‏بالمناسبة يشكلون، في مصر، قلة لا تتجاوز أصابع اليدين على أكثر تقدير. محمد آدم ظلَّ ينظر، ‏دائمًا، إلى الشعر باعتباره نطًّا، وتوثُّبًا، وتدفُّقًا أبديًّا نحو الشمس، كأقيانوس، ذلك النهر العظيم ‏الحاوي لسر المكنونات. ‏

والحق أنَّ هذا الشاعر، لا يعبأ في رؤياه، سوى بما تُطوّح به اليدُ الكاتبة، في تخوم شعريّة ‏مصابة بالتّكوْثر (العبارة للفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن). شعريّة لا تنتصر سوى للشعري، ‏مبنىً ومعنىً. لذلك، وأنت تعبر أرخبيلات الكتابة لديه، ينتابك إحساس بمدى قدرة هذا الرجل ‏الفائقة على شعرنة الأحداث، بكثير من الشيطنة الفنيّة، تلك التي تحافظ على المسافة بين الكائن ‏والممكن، بين الحدث والنص. ‏

وغير خافٍ أنَّ شاعرًا من هذا الصنف، يُصبح "رسولًا سبّاقًا رائيًا... هو الخالق للسنن والنظم ‏والمفاهيم... ويغدو الالتزام كهرباء الهوس الروحي الذي يكوكب طريقة الحرية، لمدِّ طريق فوق ‏الطريقة، ولبناء عالم فوق العالم، بالمتخطي الأبدي الذي بهرته رؤيا الفردوس المنتظر"(2). ‏

إنَّ وعي الشاعر محمد آدم بالشرط الجمالي للنص الشعري، جعله ينفك، مبكرًا، من شرنقة ‏الشرط الأيديولوجي. هو وعي يسّر له، ما تيسّر من الكتابة خارج العرف والنمط، ومن خارج ‏الرؤيا المعطاة مسبقًا، في علاقتها بالأشياء والعالم والوجود ككل. لقد بدا لي، محمد آدم، في ما ‏قرأته له، شاعرًا تجريبيًّا حتى النخاع، كما سنوضح بعد قليل. وإنَّ تجريبيّته لتمتدّ إلى آخر ‏أشواطها. وهي بذلك صيرورة لَبَّتْ نداء التحولات المطروحة في الطريق، بفرح شديد. حفاوة ‏النداء، هذا، كرَّس شرطًا كتابيًّا، عند هذا الرجل، يضع الكلام في مواجهة نفسه، على مستوى ‏خبرة النص، ما جعل الدال الشعري ينشرح، أو لنقل "لا يتكلم أثناء الكتابة"(3)، لأنَّ الكتابة تنشط ‏ضدّ الكلام. ‏

‏ إنَّ الكتابة، بحسب المفكر المغربي عبدالكبير الخطيبي " تنبني في الاختلاف مع الكلام، وذلك ‏بالقدر الذي يحتّم عليها ألّا تقلّده مطلقًا، ولا أن تستنسخه طبق الأصل، بل بالأحرى، الكتابة تغيّر ‏الكلام. وبتغيّره وتحويره، تُجمِّل اللغة. إنها، وبالأخص الكتابة الشعريّة، تتوفر على أعلى طموح، ‏أي تحقيق التماهي التام بين الكلمة والشيء، بين الشيء وإيقاع الجسد. حينئذ تنبثق أنشودة ‏الفكر"(4). وستكون لنا عودة إلى هذا الموضوع، فيما سيأتي من التحليل. ‏

وقمين بالإشارة، إلى أنَّ مقاربتنا لتجربة هذا الشاعر، انطلاقًا من أعماله الكاملة، بأجزائها ‏الخمسة، ستكون مقاربة تأويليّة- نسقيّة، تستنطق بعض الأنساق المضادة لسلطة المركزي، على ‏مستوى الخطاب، فنيًّا وقيميًّا. ويكفي أن أشير هنا، إلى أنَّ محمد آدم، ما فتئ، طيلة مساره ‏الشعري، يُقوّض سُمك الخطابات المركزيّة وسلطتها، لفائدة كل ما هو هامشي ومنحرف. وهي ‏تجربة، تبدو مشبعة بأفكار فلسفة الاختلاف. تجربة ديدنها التفكيك، والعماء، والكارثيّة (روني ‏طوم)، والانتصار للفوضى ضدّ النظام (الكاوس)، والصدفويّة، والعبث الكافكاوي. وإنَّ ‏الفوضى، في مقام شاعرنا، ما هي إلا فوضى خلّاقة. ‏

حداثةٌ أم حفر في أرض المآزق؟ ‏

‏-‏ خبرة النص: ‏

حين تبنّى محمد آدم، قصيدة النثر، كخيار جمالي، في الكتابة، فلأنه كان قد اقتنع بها أوَّلًا، ‏كضرورة وجوديّة. لهذا السبب كان الفيلسوف الألماني "هايدغر"، يُلحُّ دائمًا، في فهمه وتأويله ‏لهرمينوطيقا النص الشعري، على ضرورة النظر إليه، لا باعتباره خبرة جماليّة، وإنَّما بوصفه ‏خبرة أوليّة، قبل أن يكون جماليّة؛ ذلك أنَّ هذه الأخيرة، في نظره، "هي العنصر الذي يموت فيه ‏الفن"(5). ‏

هذا الكلام، لا يلغي البتّة، مباحث الخبرة الجماليّة، بالنسبة لـِ"هايدغر"، بل إنه أراد فقط "أن يُعدّل ‏من فهمنا لها: بمعنى أنه لا يريدنا أن نفهم العمل الفني ابتداءً من الخبرة الذاتيّة القبليّة ‏والإحساسات الجماليّة، سواء كانت خبرة متذوِّق أو مبدع، وإنَّما يريدنا أن نفهم الخبرة ابتداءً من ‏العمل الفني"(6). والعمل الفني "إنما يمثل نفسه في وجوده الخاص"(7)، بحسب "هايدغر" دائمًا. ‏

خبرة النص، عند محمد آدم، تطرحُ نفسها، بما هي نصٌّ بلوري، متعدد الأضلاع، وحدسٌ بما ‏هي مقبلة عليه، من برنامج نصي، مختلف تمامًا، عمّا درجت عليه عادة القصيدة. لنتقدَّم قليلًا. ‏

‏1 - من حداثة الشفاهة إلى حداثة الكتابة: ‏

نُخمِّنُ أنَّ فعل الكتابة، في تجربة محمد آدم الشعريّة، يزاول الرسم، بتعبير أدونيس، بارتعاش ‏كبير، ولا يعبأ سوى بالصفحة، بوصفها منشفة تخفّف من غلواء وهذر الصوت، ذاك "النسم ‏الحيّ"(8)، وتُرفد المكتوب بالصمت الناطق. وعلينا، في هذه الدراسة، أن نقرأ هذا الصمت، ‏الملبّد في خيمياء المكتوب، بوصفه "استراتيجيّة نصيّة"، تقترح علينا أشكالًا كتابيّة جديدة، لعلَّ ‏من أهمّها، "النص القُبّرة" أو الومضة، تلك التي تُرغم اليد الكاتبة، على أن تنحاز للمهبّ، وأن ‏تخوض صفحتها بارتياب وشك كبيرين. اليد التي ترافق حركة القلم وتراقبها، في فتوق المعنى، ‏رتْقا تارة، وفتْقا تارة أخرى. فيما اللغة، في مثل هذا الوضع، فإنها تلج "ليل المعنى"(9)، منصتة ‏لنداء الوجود؛ أليست اللغة نعمة "من أخطر النعم"؟(10) ‏

ويمكن القول إنَّ إضمامات الجزء الثاني، من الأعمال الكاملة لمحمد آدم، تندرج جلّها، في عمليّة ‏المراهنة على الاقتصاد اللغوي، بما يضمن انشراح الصفحة، وارتقاء البياض إلى مصاف الدوال ‏الرئيسة، ليقول ما لا ينقال. وسنعطي مثالًا لذلك، من خلال نص (مزامير بالية)، إذ يستغرق ‏المكتوب حيِّزًا صغيرًا، في أعلى الصفحة، تاركًا للبياض إمكانيّة أن يلج "ليل المعنى"، بكل ‏جلاله. يقول الشاعر: ‏

هل كان يتعيَّن عليّ أنْ أقطَعَ اللّيل بالغناء بينما مزاميري بالية؟ ‏

حنجرتي لا تعرف كيف تخيط اللغة بحقيقة اللغة ‏

يا لصباحاتك الغاوية ‏

ويا لفجرك الظميء

لوصمي؟(11) ‏

‏ المُلاحَظ، من خلال هذا النموذج، أنَّ الشاعر اكتفى بخمسة أسطر شعريّة، وضعها في أعلى ‏الصفحة، تاركًا للبياض والصَّمت، فرصة قول ما لديهما. فحنجرة الشاعر لم تعُد تعرف كيف ‏تخيط اللغة بحقيقتها. لذا كان عليها أن تستعين، بالانزياح، والخرق، والعدول، والإيحاء، ما جعل ‏المعنى يلج الليل، والليل يلج المعنى. ‏

هيئةُ النص، هذه، تكرَّرت بشكل لافت، في جلّ إضمامات الجزء الثاني من الأعمال الكاملة ‏للشاعر؛ حتى إنَّها أصبحت تشكِّل جماليّة خاصة، في البرنامج النصي، لدى محمد آدم. ‏

وفي نص "الإشارات"، من الجزء الثاني، من الأعمال الكاملة، دائمًا، يعطي الشاعر تعريفاته ‏الخاصة، لمجموعة من الأشياء الكبيرة والصغيرة، في الحياة والوجود، وذلك بنوع من التفلسف ‏بالمطرقة (التعبير لنيتشه) أحيانًا، وبنوع من الحدس العرفاني الصوفي أحيانًا أخرى. ‏

والمتأمِّل لهذا النص، سيجد فيه، تقاطعًا بديعًا مع رسالة الشيخ الأكبر ابن عربي الموسومة بـِ"لا ‏يعوّل عليه". يقول الشاعر مثلًا: ‏

‏- الوجد: همّ بالليل ‏

و.... ‏

ذلّ النهار ‏

الفيض: بوح العين والخروج من كل عين ‏

القلب: آفة التحوُّل ‏

ومرآة العاشق إذ يرى ‏

الصمت: استمرار الوهم ‏

والتشبُّث بأرض التحوُّلات ‏

العشق: أوار لا يخمد ‏

ونار لا تنطفئ ‏

وصمت.. ‏

دائم التحوُّلات(12). ‏

من خلال ما سلف، يتبيَّن أنَّ فعل الكتابة، عند هذا الشاعر، محكوم بما لا ينتهي. فعل منفتح ‏باستمرار، على كينونته/ وضعه غير المكرور. وهو بذلك لا يمتثل لأيّ نموذج ثابت أو قار، ‏متفاديًا، ما أمكن، أن يقع في فخ النص- النسخة، لأنه -فعل الكتابة- فعلًا "نص- أصل"(13)، ‏بتعبير أدونيس. ‏

‏ ‏

‏2- الشِّعر ضدّ الشِّعر بالسَّرد: ‏

نتصوَّر أنَّ الحديث، اليوم، عن فكرة نقاء النوع الأدبي وطهرانيّته، في ظلِّ الهُجنة التي أصابت، ‏ليس مجرَّد الظواهر الأدبيّة حسب، وإنَّما شتى مناحي الحياة، قد أصبح ضربًا من الماضي. ‏فالأكيد أنَّنا نسير اليوم، أدبيًّا، على غرار الإنسان، نحو أحاديّة النوع؛ ذلك أن التداخل الأجناسي، ‏في مجال الأدب، على عكس ما كان مذاعًا في نظريّة الأنواع الأدبيّة سابقًا، أضحى يشوِّش، ‏بقدر غير يسير من التعتيم، على الحدود المنتصبة بين الشعر والنثر. ‏

لقد أصبح الشعر والنثر (السرد)، يتوالجان بشكل لافت، بحيث لم يعُد المبدع ولا القارئ، يعبأ ‏بالتصنيفات القديمة، بقدر ما صار ينشغل بانفراط شديد، بخبرة النص أو العمل، لدرجة أنه، بهذه ‏الآثام التصنيفيّة، أخذ يشوش على العلاقة المفترضة، في الميثاق الذي يجمع بينه والقارئ، وذلك ‏بزرعه لعبارات تجنيسيّة جديدة، من مثيل، "نص" أو "نصوص"، بحيث أنها تحوّلت بسرعة ‏فائقة، إلى علامة ملازمة لجلّ العناوين المثبتة على أغلفة الكتب الإبداعيّة. وبذلك تحوّلت معظم ‏الأعمال الإبداعيّة، إلى أعمال يلج، فيها، النثر الشعر، والشعر النثر، كما يلج الليل النهار، والنهار ‏الليل. ‏

وغير خافٍ أنَّ السَّرد، كما يُقرُّ بذلك معظم الدارسين، فعلٌ ينسل إلى كل الخطابات البشرية، ‏عالمةً كانتْ أم شفهيّة، يقول "رولان بارث": "فالسرد يمكن أن تحتمله اللغة المنطوقة -شفوية ‏كانت أم مكتوبة- والصورة ثابتة كانت أم متحركة، والإيماء، مثلما يمكن أن يحتمله خليط منظم ‏من هذه المواد. والسرد حاضر في الأسطورة وفي الحكاية الخرافيّة، وفي الحكاية على لسان ‏الحيوانات، وفي الخرافة وفي الأقصوصة والملحمة والتاريخ والمأساة والدراما والملهاة ‏والبانتوميم، واللوحة المرسومة، وفي النقش على الزجاج وفي السينما الكومكس، والخبر ‏الصحافي التافه، وفي المحادثة، وفضلًا عن ذلك فإنَّ السرد بأشكاله اللانهائيّة تقريبًا حاضر في ‏كل الأزمنة وفي كل المجتمعات. فهو يبدأ مع تاريخ البشرية ذاته، ولا يوجد أي شعب بدون ‏سرد"(14)؛ بل عطفًا على ما جاء في كلام "بارث"، يمكن أن نردِّد ما قاله "بول ريكور"(15)، ‏بأنَّ السرد هو الوسيط الفعلي بين الذات ووجودها. ‏

‏ وبذلك نخلص، مع "دينيس فارسي" إلى "أنه نادرًا ما وضع مصطلح في كل الصلصات كما هو ‏الحال بالنسبة إلى مصطلح سردي"(16). ‏

‏ وبالعودة إلى الشعر، في الحالة التي يكون فيها مستقبلًا لا وافدًا، يرى د.جمال بوطيب، أنَّ ‏الحوار الذي قد ينشأ بين الشعر (المستقبل)، والسرد (الوافد)، قد تأجّج بشكل لافت، مع صعود ‏مؤشر "قصيدة النثر"، وارتفاعه، في العقود الثلاثة الأخيرة، ذلك أنّ هذه القصيدة، يمكنها "أن ‏تحكي وبطول نفس"(17). ‏

طيِّب. هنا نتساءل، ارتباطًا بموضوعنا الأساس، ما هي آليّات اشتغال الكفاءة السرديّة عند ‏الشاعر محمد آدم؟ ‏

وجبت الإشارة أوّلًا، إلى أنَّ أولى تمظهرات المكوّن السردي، في أعمال محمد آدم، هو الوضع ‏الطباعي لجلّ نصوصه. وهو وضع يُحفز، ما سميناه في مناسبة سابقة "شعريّة الامتلاء"، أي ‏ذاك الشكل الممتد، الذي يوهم القارئ (وقد يغلطه ويخدعه)، ليعتقد بأنه أمام نص سردي بامتياز؛ ‏لأنّ الجمل المستعملة، هي جمل مسترخية، وذات تراكيب بسيطة، تُيسِّر عملية سرد الأحداث ‏ووصف المشاهد، بفرحٍ نادر. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نقرأ في إحدى قصائده: ‏

وداعًا للكلمات التي أحبُّها بعمق ‏

للموسيقى التي تمشي على قدمين حافيتين وتنام على العشب في ساعة الظهيرة ‏

للزمن الذي يركض على قارعة الطريق ولا يتوقف إلا أمام بوّابة مقبرة

للحياة التي تقف على بوّابة فجر ولا تستنشق إلا رائحة المستشفيات ‏

وغرف العناية المركّزة(18).‏

ومن العلامات السرديّة البارزة، كذلك، في منجز هذا الشاعر، خصوصًا في الجزء الثاني من ‏أعماله الكاملة، بالإضافة إلى شعريّة "الامتلاء"، المشار إليها منذ حين، كونه ظلَّ حريصًا على ‏تثبيت، عند رأس كل نص/ مقطع، عبارة (فصل...)، على غرار عادة الرواية، بوصفها خطابًا ‏سرديًّا، تنتظم بنيته الحدثيّة، في فصول. ولعلَّ هذا الإثم (الإثم في الإبداع فضيلة)، يشكل خدعة ‏سرديّة ضافية، تفضح نيّة الشاعر، في حرصه على أن ينكتب سردًا؛ وكذا وعده الواثق، بكسر ‏الحدود الفاصلة بين الشعر والنثر. ‏

إنَّ القائم بالسرد، في هذه التجربة الشعريّة المائزة والماتعة معًا، تجربة محمد آدم أقصد، يلفي ‏نفسه، عند كل مرَّة، أمام اختيارات وإمكانات عديدة في السَّرد. ومن جملة هذه الاختيارات، مثلا، ‏اختياره الموت ومرفقاته، باعتباره ظاهرة فنيّة وأنطولوجيّة، مادةً حكائيّة ثرّة؛ منها يستقي أفعاله ‏السرديّة، التي ستنتظم في إطار سلاسل، يشُدّها رباط زمني خفي. أليس الموت نفسه سردًا، على ‏حدّ قول د.جمال بوطيب(19)؛ فالجثة، تارة "تحكي [صامتة] حياة جسدها"(20)، والجسد ‏‏"مخرسًا يروي قصة حياته"(21)، تارة أخرى. ‏

باللغة، إذن، يحكي القائم بالسرد، في مجموعة من نصوص هذا الشاعر، موته؛ لأنَّ اللغة "ليست ‏جزءًا من الإنسان، بل هي أفق استطاعته (وعجزه كذلك) في أن يعيش حياته وموته وذلك بالتكلم ‏عنهما وبكتابتهما مع أكثر ما يمكن من الدقة"(22). ‏

على سبيل الختم

في نهاية هذا المطاف، أختم هذا البحث بالقول، إنَّ نص محمد آدم، في ماهيّته الرؤياويّة، هو ‏شبيه إلى حد كبير بالنص النواسي (نسبة إلى أبي نواس). لأنه نصٌّ فيه "لهب يلتهم كل ‏العوائق"(23).‏

نص محمد آدم، هو حفر في أرض المآزق والمضايق؛ وتوسيع للمعابر، تفاديًا لأيّ انحباس ‏شعري ممكن؛ وهو بذلك ترسيخ لعادات وممارسات جديدة في الشعر، وهو أيضًا وعطفًا، توكيدٌ ‏لجماليّة الكتابي. ‏

ليس من شك أنَّ نصًّا بهذه الهيئة، هو نص مستفز، لأنه يحرِّض نفسه باستمرار، بعيدًا عن أي ‏مساومة مع الماضي وتوابعه، وقريبًا من كل ما من شأنه أن يحفّز أديم المغايرة الحداثيّة، ويحفر ‏لها أخاديد، في أراضي الشعر المجهولة. إنه نص، كما يبدو، حارِقٌ، تمامًا كاللّهب، يلتهم كل ‏عائق أو حاجز أو مانع. وتلكم عادة النصوص المُمانعة. النصوص المضادة. ‏

‏ ‏

‏* الهوامش ‏

‏1– صلاح بوسريف: الكتابي والشفاهي في الشعر العربي المعاصر، دار الحرف للنشر والتوزيع، ‏القيطرة، 2007، ص15.‏

‏2- انظر أنطون غطاس كرم: ملامح الأدب العربي الحديث- الندوة الأدبية1، دار النهار للنشر، بيروت، ‏‏1980، ص140-141.‏

‏3- عبدالكبير الخطيبي: من تقديم كتاب "الأدب والغرابة" لعبدالفتاح كليطو، دار الطليعة للطباعة والنشر، ‏بيروت، لبنان، ط2، 1983، ص7.‏

‏4- نفسه، ص7.‏

‏5- انظر سعيد توفيق "الخبرة الجمالية- دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية"، المؤسسة الجامعية للدراسات ‏والنشر والتوزيع، 1992، ص78.‏

‏6- انظر سعيد توفيق، مرجع سالف، ص89.‏

‏7- انظر نصر حامد أبوزيد: "إشكالية القراءة وآليات التأويل"، المركز الثقافي العربي، ط2، 1992، ‏ص34.‏

‏8- انظر أدونيس: "الشعريّة العربية"، دار الآداب وشركة النشر والتوزيع المدارس، ط4، 2006، ص9.‏

‏9- صلاح بوسريف: "الكتابي والشفاهي في الشعر العربي المعاصر"، مرجع سالف، ص170.‏

‏10- انظر مارتن هايدغر: "هلدرلين وماهية الشعر"، ترجمة فؤاد كامل ومحمود رجب، ص144.‏

‏11- محمد آدم: الأعمال الكاملة، ج2، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ص350.‏

‏12- نفسه، ص16-17.‏

‏13- أدونيس: الشعريّة العربية، مرجع سالف، ص70.‏

‏14- رولان بارث: "التحليل البنيوي للسرد"، ترجمة حسن بحراوي، بشير القمري، عبدالحميد عقار، ‏ضمن كتاب "طرائق تحليل السرد الأدبي(دراسات). منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، 1992، ‏ص9.‏

‏15‏‎- vue P.ricoeur: Temps et recit.ed ;seuil.1983.‎

‏16- نقلًا عن جمال بوطيب "الجسد السردي-أحادية الدال وتعدد المرجع"، ط2، 2011، منشورات ‏مقاربات، ص7.‏

‏17- جمال بوطيب: "السردي والشعري: مساءلات نصية"، منشورات مقاربات، فاس، ط2، 2009، ‏ص41.‏

‏18- محمد آدم: الأعمال الكاملة، ج5، دار بدائل للطبع والنشر والتوزيع، ص30.‏

‏19- انظر جمال بوطيب: "الجسد السردي"، مرجع سالف، ص8.‏

‏20- نفسه، ص8.‏

‏21- نفسه، ص8.‏

‏22- عبدالكبير الخطيبي، مقدمة "الأدب والغرابة" لعبدالفتاح كليطو، مرجع سالف، ص8. ‏

‏23- أدونيس: " الشعريّة العربية"، مرجع سالف، ص67.‏