"فرسان الفن"‏ قصص حياة الرسّامين الإيطاليين

‏أشرف سعد نخلة

كاتب مصري

 

السِّيَرُ الذاتيّة لحياة فرسان الفن الإيطالي هي صور نابضة بالحياة، وَصَفَتْ بجدارة كلّ ‏ما عاناه هؤلاء العظام في حياتهم، سجَّلتها "أيمى ستيدمان" في كتابها "فرسان الفن" ‏الذي ترجمه الحسين خضيري بلغة شفيفة كالبوح، وصوَّرَت تلك القصص أهم ‏المنعطفات التاريخيّة وأهم المؤثرات السياسيّة والاجتماعيّة التي أثَّرت فيهم.‏

 

صَدَرَ كتاب (فرسان الفن- قصص حياة الرسامين الإيطاليين) ضمن سلسلة فنون ‏بمكتبة الأسرة الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب في مصر. والكتاب غير مقسَّم ‏لفصول، ولكنه يحوى سِيَر حياة فرسان تألَّقوا وحلَّقوا في سماء الفن، كتبته الكاتبة ‏الإنجليزية "إيمى ستيدمان" معتمدةً على كتاب "حيوات الفنانين" للفنان "جورج ‏فرساي".‏

لقد شكَّلت المنعطفات التاريخيّة من إبداع هؤلاء الفنانين ثورة فنيّة، جَعَلَتْ للفنِّ لغة ‏عالميّة إنسانيّة تتشكَّل أبجديَّتها من الضمير المؤرّق للإنسان الذي يتوق إلى حياة ‏أفضل.‏

‏"جيوتو" ‏giotto‏ (1267- 1337م)‏

منذ أكثر من ستمائة عام وُلد الطفل "جيوتو" عام 1267م في قرية صغيرة في ‏‏(فيسبجنانو) بالقرب من فلورنسا الجميلة بإيطاليا، والده يسمّى (بوندون) وهو ريفي ‏فقير، فعاش ابنه حياة خشنة وصعبة، ولكنه نشأ قويًّا وصلبًا، عرف "جيوتو" مبكرًا ‏معنى الجوع والبرد، وكان في العاشرة حينما أرسله والده ليرعى الأغنام على التل، ‏وقضى أيامًا سعيدةً في الشمس المشرقة والمطر، وإلى جانب مراقبته للأغنام كان ‏يرسم صورًا لكلِّ ما حوله، والرّاعي الصغير لم يكن لديه أقلام رصاص أو أوراق، ‏وربّما لم يرَ طيلة حياته صورة، وقد استنَّ قطعة صخر وانتقى صخرة أنعم، ورسم ‏عليها كل الأشكال الرائعة، ويومًا ما أتى رسّام عظيم من فلورنسا عبْر القرية إلى ‏التلال اسمه (سيمابو ‏cimabuo‏) وكان الأشهر في العالم آنذاك، وفي طريقه بين ‏التلال وجد راعٍ صغير حيّاه مبتهجًا، ووقعت عيناه على الصخرة الملساء المسطّحة، ‏فدُهش الرجل من روعة رسومها، ورأى "سيمابو" أنَّ الطفل يملك قوّة رائعة في يديه ‏الخشنتين، وطلب من والده أن يأخذه معه إلى فلورنسا، فوافق. ‏

سافر السيد ومعه الولد ليبدأ تدريبه في المرسم، ولم يكن مسموحٌ للأطفال الذين ذهبوا ‏هناك ليتعلّموا الرَّسم أن يرسموا أو يلوِّنوا، بل يُعدّون الألوان، ثم يمزجونها، ولكن ‏عندما أتى دور "جيوتو" ليستخدم الفرشاة أدهشهم، فلم تكن صورة تشبه أيّ شيء ممّا ‏رُسم من قبل في الورشة. وبدلًا من نسخ وجوه جامدة غير حقيقيّة رسم أناسًا حقيقيّين ‏وحيوانات حقيقيّة، وازدانت في ما بعد شوارع فلورنسا مدينه الزهور بزهرتها الأجمل ‏‏(برج الجرس)، وصمَّم "جيوتو" بناء برج الجرس وهو في الستين من عمره، وهو ‏إحدى روائع الفن. ‏

 

بياترو بيروجينو ‏bietro berugino‏ (1446 -1524م) ‏

تحت أشعة الشمس الحارقة خرج مزارع فقير من أمبريان وقد أحنى الفقر والشقاء ‏كتفيه، ورسم خطوطهما العابسة على وجهه، ويمشي إلى جواره طفله غير الحافي ‏القدمين. بدا الطفل مُتعبًا فقد انطلقا مبكرين من بيتهما في (كاستيللوديل بييفو)، وقطعة ‏الخبز الأسود التي تناولاها في الصباح صغيرة ولا تسدّ الرّمق، وسأل الأب ابنه: "هل ‏أنت متعب يا "بياترو"؟ لماذا ولم نبلغ منتصف الطريق بعد؟ لا بدّ أن تخطو بشجاعة ‏وتكون رجلًا، فمن اليوم ستبدأ الحياة العمليّة".‏

فأجابه الطفل: "لستُ أنا المُتعَب يا والدي، إنَّها ساقاي".‏

ووصلا إلى المدينة، وسأل الوالد أحد المارّة عن متجر الرسّام "نيكول"، ودخلا إلى ‏المرسم، ودفع الوالد بالصبي أمام الشيخ الرسّام، وقال له الشيخ: "ستصبح أعظم رجل ‏في (بيروجيا) وتجلب الشهرة لهذه المدينة، وعندها سندعوك (بياترو فانوتشي)". لم ‏يكن الأستاذ يمزح، فالولد يتعلم بسرعة ويعمل من الصباح الباكر حتى غروب ‏الشمس، وبعد أن ينهي مهامه يقف ليشاهد أستاذه وهو يرسم ويصغي إلى حكاياته التي ‏أحبَّها، وكان أستاذه يقول: ‏

‏"ليس ثمة شيء أجمل من فن الرَّسم، إنه السُلّم الذي يقود إلى السماء، والنافذة التي ‏ينسلُّ منها الضوء إلى الروح". اشتاق "بياترو بيروجينو" لرؤية المدينة الأجمل ‏فلورنسا؛ مدينة الزهور، فودَّع أستاذه وبدأ رحلته الطويلة، وسافر عابرًا البحيرة ‏الكبيرة حتى أصبح على مرأى من مدينة الزهور وكانت لحظة رائعة لـِ"بيروجينو". ‏وكان كفاحه شاقًا، فلطالما ظلَّ جائعًا لأشهر عديدة، ولم يكُن له سرير يرقد عليه ليلًا، ‏ولكنه كان يكوِّر نفسه على سطح خشبي خشن. وبدأ الحظّ يبتسم له، وبدأ الفنانون ‏الفلورنسيون يلاحظون عمله الجادّ، وظهرت ملامح العبقريّة التي لا يخطئها أحد، ‏وكان يعمل طوال اليوم في مرسمه وتعلَّم الأعاجيب، والتقى بفنانين عظام مثل ‏‏"فرافيليبوليبي"، والتقى شابًّا في سنِّه يدعى "ليوناردو دافنشي" والذي كان يهمس ‏الجميع بأنه سيصبح ذات يوم أعظم فناني عصره. وجاءت لحظة تتويجه حين تسلَّم ‏دعوة من البابا للذهاب إلى روما ليرسم كنيسة "سيستين"، فهو الآن ضيف ملكي ‏ويشرِّف الرجال بصحبته، وأصبح لديه الكثير من الصور ليرسمها.‏

وفى يوم أحضروا له طفلًا صغيرًا في الثانية من عمره، وتوسَّلوا إليه ليقبله ويعلِّمه ‏فقد كان أبوه رسّامًا، وهنا عرف (رفائيل) الذي لم يكُ ذكيًّا حسب، فقد كان ماهرًا، ‏وكان يبهر "بيروجينو"، وقال عنه: "إنه تلميذي الآن ويومًا ما سيصبح أستاذي ‏وسأتعلّم منه"، وكانت سعادته بالغه في أن يعلِّمه. ‏

وفي سنوات عمل "بيروجينو" نما فنّ الرَّسم بسرعة وازدهر، وخرق كثير من الفنانين ‏الجُدُد قوانينه وأفكاره القديمة، فثمّة رجل يدعى "مايكل أنجلو" نهض كعملاق بأسلوب ‏جديد جرف أمامه كل شيء، وكان "بيروجينو" غيورًا من كل هذه الأفكار وتعلَّقَ ‏بنماذجه القديمة.‏

وفي أحد الأيّام تمَّ اجتماع للرسّامين في مرسم "بيروجينو" ضمّ "فيليبينو ليبي" ‏و"بوتشيللي" و"ليوناردو" وتلميذ صغير يدعى "رفائيل"، فقال "مايكل أنجلو" ‏لـِ"بيروجينو" متسائلًا: "لقد كنتَ مشغولًا كعادتكَ في البحث عن أخطاء في عملي، ‏تعال يا صديقي وأخبرني ماذا وجدت؟"، فقال "بيروجينو": "لا تعجبني أساليبك، فأنتَ ‏تجرُّ فنَّ الرَّسم من الأشياء السامية العالية إلى الذوق الأرضي؛ وذلك سيسلب الفنّ ‏كرامته وتقاليده العتيقة". ‏

تزوَّج "بيروجينو" من الجميلة "تشاير" في بيروجيا، وجلبت له كل السرور، وكان ‏فخورًا بجمالها... كانت عيناها البنيّتان في عمق بركة الماء الهادئة، ووجهها الجميل ‏وروحها الرائعة أشرقت في أكمل صورة عرفتها الدنيا، فقد رسمها وما تزال ‏صورتها حتى الآن موجودة. ‏

وانتهت الأيام الآمنة، وحلَّ الخراب والضجيج، وعصف داء الطاعون بالريف ومات ‏الآلاف من الناس، وحملوا "بيروجينو" إلى المشفى في فارتيجينانو بالقرب من ‏بيروجيا حين داهمه الطاعون، ومات هناك ولم يكن في تلك الأثناء وقتٌ للتفكير في ‏جنازة عظيمة، فقد دُفن بأسرع ما يمكن تحت شجرة سنديان.‏

 

ليوناردو دافنشي ‏Leonardo da vinci‏ 1452-1519م

في العام 1452م وُلد "ليوناردو" ابن السيد "بيييرو دافنشي" في مدينة فينشي، وكان ‏‏"ليوناردو" طفلًا غريبًا؛ كانت عيناه زرقاوان صافيتان لهما ضوء غامض وشَعْرُه ‏متموِّجًا كالحرير في لون الذَّهب، وكان والده محاميًا قضى معظم وقته في فلورنسا ‏وقامت بتربيته جدّته "موتا لينا" وأفسدتة كثيرًا. وحين عاد والده إلى قريته بدأ يعلِّم ‏‏"ليوناردو" وحاول أن يكتشف ما يناسب الطفل الذي كره الدُّروس، ولم يشأ أن يتعلّم. ‏وعندما بلغ السابعة أُرسل إلى المدرسة، ولم يستمِل للعب الأطفال، وانسلَّ ذات مرَّة ‏هاربًا إلى التلال حيث الهواء النقيّ المنعش والحيوانات البريّة، ومكث ساعات ساكنًا ‏تمامًا، وعشق مشاهدة الفراشات الملوَّنة والنحل والطيور، وعندما تميل الشمس إلى ‏الغروب يعود إلى البيت حزينًا جائعًا جدًا بملابس ممزَّقة وأقدام متعبة، وعندما بلغت ‏والده الشَّكوى من المدرسة، أخذه من كتفيه وقاده إلى دولاب صغير مظلم تحت السلَّم ‏وأغلقه عليه لثلاثة أيام. وما إن بدأ في تعلُّم الحساب حتى أحرز تقدُّمًا ملحوظًا، وأراد ‏أن يحلَّ العديد من المسائل التي أدهشت الأساتذة، وقضى ليوناردو أسعد لحظاته في ‏العراء على التلال، وتعلَّم العزف على العود، وتعلّم النوتة الموسيقيّة وقواعد ‏الموسيقى، وراح يعزف نغمات لم يسمع بها أحد من قبل. ‏

كان الصبيُّ لغزًا محيِّرًا للجميع، وبعد أن بلغ الثالثة عشرة أخذه والده بعيدًا إلى ‏فلورنسا، فربَّما يتدرَّب على عمل خاص، وجمع الوالد رسوم ليوناردو المُهمَلَة وأخذها ‏إلى مرسم الرسّام "فيروتشيو"، وسأله وهو يبسط الرسوم أمامه:‏

‏-‏ هل يمكن أن تجعل منه شيئًا؟

ففحصها الرسّام بعينين خبيرتين، وقال: "أرسله إليّ في الحال، إنه موهبة رائعة". ‏دخل "ليوناردو" المرسم كتلميذ، وتعلَّم كلّ ما استطاع أن يتعلّمه بالسرعة ذاتها التي ‏يتعلم بها أيّ شيء يحبُّه. وكل مَن رأى أعمال "ليوناردو" قال إنه سيكون أعجوبة ‏عصره. ومرَّت أيام وليالٍ متعِبة ومرهِقة وهو يخطو للأمام في عمله. ‏

سافر "ليوناردو" إلى ميلان وتسلَّم راتبًا شهريًّا من الدوق الذي أسند إليه العديد من ‏الأعمال، ولكنَّ أهمّها لوحة "العشاء الأخير" على جدران قاعة الدَّرس في سانتا ماريا، ‏والعمل الآخر هو صنع تمثال لفارس يمتطي جوادًا من البرونز وفي الخلفيّة صورة ‏للدوق. كان "ليوناردو" يعشق الطيران، وكان كلما أتته فكرة جديدة ينحّي كل شيء ‏جانبًا حتى ينتهى من آلته الجديدة وهي كجناحي طائر ليطير بهما، وعندما اقترب ‏انتهاء لوحة "العشاء الأخير" جاءت أيام عصيبة على ميلان، واضطرَّ الدوق للهرب ‏قبل أن يداهمه الجنود الفرنسيّون الذين اقتحموا المدينة وتمركزوا فيها وبدأوا يطلقون ‏نيران مدافعهم على التمثال العظيم كهدف لمرمى أسلحتهم، وضاع التمثال الذي استمرَّ ‏العمل فيه ستة عشر عامًا، وبعد دخول جنود "نابليون" إلى المدينة استخدموا قاعة ‏الدرس كإسطبل لخيولهم، وتسلّوا بإلقاء الأحجار على ما بقي من رسوم الحائط.‏

عاد "ليوناردو" إلى فلورنسا، وعاش فيها فتره طويلة، ورسم لوحته الشهيرة ‏‏"الموناليزا" التي توجد الآن في باريس. وتُعدُّ "الموناليزا" أروع صورة وأكملها على ‏الإطلاق على الرغم من أنَّ "ليوناردو" نفسه قال إنَّها ليست كاملة ولم تنتهِ بعد.‏

وفي سنواته الأخيرة نسيه أصدقاؤه وتلاميذه، وأصبح فقيرًا جوّالًا، وغادر إيطاليا ‏تاركًا كل الذكريات خلفه، ودنا منه الموت وأصبح أضعف من أن يمسك الفرشاة. ‏وفي فصل الربيع حمله تلميذه "فرانسيسكو" إلى النافذة ليلقي نظرة أخيرة على العالم ‏الذي أحبّه بإعزاز، وكانت صورة الأشجار التي ارتدت حلّتها الأنيقة من اللون ‏الأخضر هي آخر ما رأت عيناه، وتغريد طيور السنونو التي حلَّقت في دوائر متَّجهة ‏إلى عنان السماء حاملة معها روح أعظم فنّاني عصره، فقد تحرَّرت روح ليوناردو ‏من الجسد المنهك في نيسان/ إبريل عام 1519م.‏