"يوميّاتي في المخيَّم"..‏ فيلم وثائقي يتجاوَز المُعالجة التقليديّة

‏محمد سلامة ‏

مخرج ومنتج تلفزيوني أردني

 

 

‏"يوميّاتي في المخيَّم" فيلم وثائقي يقدِّم مُعالجة جديدة لقصة معروفة، وتوليفة غير تقليديّة ‏للحديث عمّا بات يعرفه الجميع، وهو مثال للفيلم الذي يشكِّل قوّة محرِّكة قد تدفع نحو تغيير ‏منشود في قضيّة ما، لكن على الرّغم من ذلك، فإنَّ هذه التحفة الإخراجيّة تجعلكَ تشاهد الفيلم ‏من دقيقته الأولى وحتى آخر اسم في تتر النهاية للبحث عمَّن أنجز هذا العمل.‏

 

يَحْكي الفيلم، الذي أخرجه التونسي فتحي جوادي، قصة الطالب البريطاني -إيطالي الأصل- ‏‏"بيترو ستيفانيني" الذي يدرس في لندن، ثم يقرِّر السَّفر إلى مخيَّم برج البراجنة في لبنان ‏لتجربة العيش فيه لمدّة سبعة أيام، تلبيةً للرِّهان الذي أطلقه أحد النشطاء من المخيَّم، بعدم قدرة ‏الأوروبيين على العيش كما اللاجئين الفلسطينيين في مخيَّم برج البراجنة.‏

في المخيَّم سيعيش "بيترو" في منزل الحاج المسنّ عبدالله، ويخالط أهالي المخيَّم، ويرصد ‏حياتهم وتفاصيلها، ومع نهاية كل يوم يدوِّن "بيترو" يوميّاته وأبرز انطباعاته للكاميرا. ‏

يفتتح الفيلم -الذي عرضته الجزيرة الوثائقيّة عام 2018- بمشهد "بيترو" يُشاهد فيلمًا وثائقيًّا ‏عن مخيَّم برج البراجنة في لبنان، حيث يطلق فيه الناشط الفلسطيني أحمد تحدّيه بأنَّ أحدًا لا ‏يستطيع العيش في المخيَّم لمدة سبعة أيام كما يفعل الفلسطينيون هناك لعشرات السنوات، وهنا ‏تبدأ الرحلة، حيث يعتبر "بيترو" أنَّ التحدي موجّه له شخصيَّا، ويبدأ مغامرته نحو لبنان.‏

ينتقل الفيلم سريعًا نحو مشهد الانطباع الأول لـِ"بيترو" لحظة وصول المخيَّم، وهنا نلاحظ أنَّ ‏المخرج فتحي جوادي لم يعتمد تعابير وجه "بيترو"، وإنَّما سارت الكاميرا خلفه مستعرضة ‏أزقّة المخيَّم الضيّقة والأسلاك الكهربائيّة الكثيفة بين البيوت والشوارع معدومة النظافة، راجيًا ‏أن تصل فكرته بالصورة دون الكلام لينتقل إلى ما هو أهمّ في ما يليه من مراحل. ‏

بالتَّوازي مع قصة "بيترو" الذي يستكشف المخيَّم والحياة فيه، يبدأ الفيلم خطًّا دراميًّا موازيًا ‏مع لحظة وصوله للمخيَّم، وهي حكاية الرجل المُضيف لـِ"بيترو"، الحاج المسنّ عبدالله مع ‏زوجته المريضة الراقدة في المستشفى تاركة زوجها ينتظر خروجها يومًا بيوم، وهو خطّ ‏درامي سيرافقنا طوال مدّة الفيلم. ‏

تعتمد سرديّة الفيلم على أنَّ "بيترو" سيعيش سبعة أيام في المخيَّم، وفي نهاية كل يوم سيسجِّل ‏على كاميرته الشخصيّة انطباعاته وأفكاره، إلّا أنَّ ذلك حدث في نهاية اليوم الأوّل والثاني، ‏حيث سجَّل "بيترو" انطباعاته عن ملوحة الماء عندما أراد غسل أسنانه، وعن طيبة الناس ‏الذين يبدو أنهم استضافوه بترحاب، ثم اختفت هذه اليوميّات التي يسردها "بيترو" عبر ‏الكاميرا الخاصّة به دون مبرِّر، وهي التي كان يُراد لها أن تكون رابطًا زمانيًّا وموضوعيًّا ‏جيّدًا للفيلم ومركِّزة لمجموعة من الأفكار التي يريد صُنّاع الفيلم إبرازها في الفيلم، ولكن للحق ‏فإنه ليس لها داعٍ من الأساس، فقد استعاض عنها المخرج بالتعليق بصوت بيترو نفسه طوال ‏مدة الفيلم، وهو خيار قد يكون لجأ إليه المخرج مضطرًّا لعوامل سيأتي ذكرها لاحقًا. ‏

نلحظ في ما بعد أنَّ الأيام التي تلت وصول "بيترو" إلى المخيَّم تمَّ تقسيمها بعناية بحيث تشكل ‏الحقوق الأساسيّة لمعيشة البشر، من الصحة إلى التعليم ثم العمل ثم التعبير عن النفس، وهو ‏تقسيم منطقي أراد به فريق العمل رسم تلك اللوحة المكتفية بذاتها ليجعل فكرة المقارنة مع ‏غيرها مروّعة.‏

 

ثلاثة مَشاهد بين الضّعف والقوّة

سنعرِّج على ثلاثة مَشاهد بعينها كانت فيها أقوى اللحظات وأضعفها في الفيلم؛ المشهد الأوّل ‏هو مشهد جلوس "بيترو" مع مجموعة من المسنّين من الرجال والنساء الذين هاجروا من ‏فلسطين وأتوا قهرًا إلى مخيَّم، قوّة المشهد في عفويّته الكبيرة وطريقة تصويره -التي تمَّ ‏الاعتماد عليها كثيرًا في الفيلم- وهي الاعتماد على الكاميرا الحُرّة والمتحرِّكة طوال مدة ‏المشهد أثناء سرد المسنّين لذكرياتهم وآمالهم، واعتماد المخرج على اللقطات القريبة للوجوه ‏لتعظيم الإحساس المتولّد من الكلام، لكنّ المشهد اعتراه ضعف بسبب الكلاشيهات التي قيلت ‏ورُويت على لسان الضيوف، واستخدام رمزيّات المفتاح والثوب الفلسطيني وغيرها من ‏المُحدِّدات التي كنّا نتمنّى أن يخرج من دائرتها أيّ عمل عن فلسطين بالمجمل. ‏

أما المشهد الثاني، فهو جلوس "بيترو" مع الشباب العاطلين عن العمل، ليعرف أنَّ كل واحد ‏منهم درس تخصُّصًا جامعيًّا، لكنَّ لا أحدًا منهم يعمل بما درس، لأنَّ العمل ممنوع، المميَّز في ‏المشهد هو الانتقال المفاجئ الذي نقلنا به المخرج إلى ذاكرة "بيترو" مع أصدقائه في لندن، ‏حيث حصل أحد أصدقائه على عمل جيِّد تقريبًا دون أن يطلبه، القوّة في هذا المشهد هي في ‏فكرته؛ فكرة المقارنة المباشرة والانتقال المفاجئ إلى أوروبا ثم العودة إلى المخيَّم، لكنّ ‏ضعفه يكمن في أنه خارج عن سياق الفيلم ومعالجته الفنيّة، وكذلك في مباشرته المفرطة بما ‏يجعلكَ تشكّ في وثائقيّته. ‏

أما المشهد الثالث، فهو المشهد البديع الذي يصطحب فيه بيترو الطفلة الصغيرة حفيدة الحاج ‏عبدالله إلى المدرسة، وللمفارقة، فقوّة المشهد تكمن في المقارنة المباشرة، والتي استخدمها ‏للمرَّة الثانية والأخيرة في الفيلم، حيث نشاهد الشاب الإيطالي يقف مع الطفلة على ناصية ‏الطريق بانتظار وسيلة المواصلات (باص الميكرو)، لنشاهد بعدها "بيترو" يقف في موقف ‏للباصات في لندن ثم يركب مرتاحًا في الباص ليكون القطع التالي وهو يتوسَّط طالبات ‏المدرسة في باص الميكرو بالمخيَّم. ‏

 

ضعف جاذبيّة شخصيّة "بيترو"‏

صنعة المخرج طاغية في عموم مَشاهد الفيلم، وتحديدًا في مشهد الطفلة الصغيرة حفيدة الحاج ‏عبدالله، وهو ما غطّى على حقيقة حاول المخرج إغفالها طوال الوقت، وهي ضعف جاذبية ‏شخصية "بيترو" على الشاشة، وهو ما استدعى أن يزيد المخرج من تدخُّله في توليف ‏المَشاهد بحيث تصبح مقبولة ومهضومة، كما زاد بالتعليق ما يريد من انطباعات كان من ‏المفترض أن تُعالَج باليوميّات المسجَّلة مع نهاية كل يوم، وبالحوارات التي يقودها "بيترو" مع ‏الناس في كل مكان يزوره، وهو ما لم يحصل، فقد اكتفى "بيترو" بالمراقبة والسكوت معظم ‏أوقات الفيلم، وهو ما يجعلنا نتساءل لماذا تمَّ اختياره للقيام بهذه الرحلة؟ هل لأنه يتحدث اللغة ‏العربيّة التي لم تسعفه في قيادة دفّة الحوارات؟ أم لأنه متعاطف مع القضيّة؟ وهو ما سنجده ‏في الكثيرين غيره في أوروبا. ‏

أعتقد أنَّ الفيلم -من الناحية الموضوعيّة- قد أدّى فكرته وأوصل رسائله بطريقة جميلة ‏ومختلفة، وهو فيلم مخرج بالدَّرجة الأولى، ساعده بذلك التصوير والمونتاج المتقنين ‏والاستخدام الاستثنائي للصوت، حيث لم يستخدم المخرج مقطوعة موسيقيّة واحدة طوال مدّة ‏الفيلم، واعتمد على استخدام الأصوات الطبيعيّة التي لم تجعلنا نشعر بانعدام الموسيقى فيه. ‏

يختتم الفيلم بنهاية سعيدة تتمثَّل في عودة الحاجة المريضة إلى بيتها يتخلَّله مشهد عفوي ‏عاطفي استثنائي بين الحاج الذي يدخل البيت ليتفاجأ بزوجته العائدة إلى بيتها، في حين نشاهد ‏عودة "بيترو" إلى لندن، الذي يطرح القضيّة على نواب في مجلس العموم البريطاني، والذين ‏يقومون بدورهم بطرحها في إحدى الجلسات، وهو ما يستدعي احترامًا منّا إلى صُنّاع هذا ‏الفيلم لمبادرتهم وإصرارهم على إيصال مشاهدات المواطن الأوروبي إلى السياسيين هناك ‏لتحميلهم بعض المسؤوليّة، وهو الدور الذي ينبغي أن تلعبه أفلامنا الوثائقيّة، فالاكتفاء بطرح ‏قضيّة قد لا يكون كافيًا. ‏

‏"يومياتي في المخيَّم" مثال للفيلم الذي يشكِّل قوّة محرِّكة قد تدفع نحو تغيير منشود في قضيّة ‏ما؛ إذ تبدأ قصة "بيترو" انطلاقًا من التحدّي الذي يشاهده في فيلم وثائقي، يقوده للذهاب ‏ومعاينة حياة الناس في بقعة أخرى من العالم، وانتهى بردّ فعل سياسي نتج عنه فيلم وثائقي.‏