المعرفة وصانعها: جدل الهُويّات

 معاذ بني عامر

باحث في الدراسات الفكرية والفلسفية/ الأردن

 

 

تَأخُذُ المعرفة سياقها التَّدافعيّ في الاجتماع السياسي، وتصبح ذات أهميّة كبرى في تشكيل معالم ‏هذا الاجتماع، بعد أن تكون قد تمكَّنت من العقلين الفردي والجمعي. وتأخذ بالتأثير على شبكتي ‏الأشخاص والأشياء، إلى درجة تستحكم فيها العلاقة بين ثُلاثيّة (الأفكار، الأشخاص، الأشياء)، ‏لترتبط بشكلٍ أعمق بالمصالح السياسية لهذا الاجتماع؛ أي اقتران تلك المعرفة بالسلطة، أو ‏بالأحرى بتحوُّل تلك المعرفة إلى أداة في يد السلطة القائمة، أيًّا كانت صيغة هذه السلطة؛ دينيّة أم ‏سياسيّة أم اجتماعيّة أم اقتصاديّة أم ثقافيّة.‏

 

ثّمَّةَ تَخْمٌ حَرِجٌ بين المعرفة من حيث هي كذلك، وبين صانع هاتِهِ المعرفة؛ يُبقي على الحيرة ‏قائمة، لناحية أيهما أهمّ من الآخر: المعرفة أم صانعها؟ ‏

بالأساس، ثمّة معرفة موجودة إمكانًا. أي أنها في طور الكمون، لم يكُن لها أن تظهر لولا ذات ‏فاعلة، استخرجتها من عقلها، وحوَّلتها من ثمَّ من إمكانٍ كامن إلى نصٍّ ظاهر. أي أنَّ الذات ‏سابقة على المعرفة، لناحية أنَّ الثانية نتاج الأولى فلولاها لانعدمت، فهي المُسبّبة الرَّئيسة لها.‏

بالتَّقادُم، يتحوَّل هذا الإمكان إلى تجسيد واقعي في العيان، ثم لا يلبث أن يأخذ بالتفاعل في ‏الأذهان، فرديةً كانت أم جمعيةً هذه الأذهان. من ثمَّ تتدافع هذه التفاعلات في الاجتماع السياسي، ‏لتأخذ طابعًا سجاليًّا تنتصر فيه أطراف على أخرى، إلى أن تظهر معارف أخرى، وتطمس ‏المعارف التي سبقتها أو تُشذِّبها أو تُجري عليها بعض التعديلات، إلى آخر هذه التدافعات ‏السجاليّة. وفي خضمّ هذه التدافعات يحدث أن يتعرّض صانع المعرفة إلى نوع من السِّجال، ‏بصفته صانعًا لمعرفة تتعرّض لعمليات شدّ وجذب، لكن السِّجال الحقيقي يحدث بإزاء تلك ‏المعرفة، وليس بإزاء صاحبها. أي أنَّ المعركة الحقيقيّة تحدث في المستوى الأوَّل (= عالَم ‏الأفكار) بشكل قوي، وفي المستوى الثاني (= عالَم الأشخاص) تحدث بشكل ضعيف، في حين ‏أنَّ المستوى الثالث (= عالَم الأشياء) يبقى في حالة انفعال لما يحدث في عالمي الأفكار ‏والأشخاص.‏

فالتَّخْم الحرج بين المعرفة من حيث هي كذلك، وبين صانعها، يتم تهديمه لصالح المعرفة، لذا ‏تأخذ -أعني هذه المعرفة- ببسط سيطرتها على ثلاثيّة: 1- الأفكار. 2- الأشخاص. 3- الأشياء. ‏وبالتَّقادُم، تنزع هذه المعرفة -على مستوى اللاوعي أوّلًا وعلى مستوى الوعي ثانيًا- إلى تشكيل ‏هُويّة الثلاثيّة سالفة الذِّكر.‏

بمعنى آخر؛ بالتَّقادُم تتجذَّر المعرفة وتصبح صاحبة السطوة على ثلاثيّة: 1- الأشياء. 2- ‏الأفكار. 3- الأشخاص. بما يجعلها تتقدَّم هُويّاتيًّا على صانعها، أي أنَّ هُويّة الصانع تتراجع ‏خطوة إلى الخلف، في حين تتقدَّم هُويّة المعرفة؛ حتى وإن بقي صاحبها يحتفظ بقيمةٍ رمزية عليا ‏قد تصل في كثير من الأحيان إلى حدّ التقديس. ‏

من هنا تأخذ المعرفة سياقها التدافعي في الاجتماع السياسي، وتصبح ذات أهمية كبرى في تشكيل ‏معالم هذا الاجتماع، بعد أن تكون قد تمكَّنت من العقلين الفردي والجمعي. فبعد تمكُّنها وترسُّخها ‏في العقلين المُشار إليهما آنفًا، تأخذ بالتأثير على شبكتي: الأشخاص والأشياء، إلى درجة تستحكم ‏فيها العلاقة بين ثُلاثيّة: الأفكار/ الأشخاص/ الأشياء؛ انطلاقًا من المعرفة المُؤسِّسة. إذ يُصبح ‏النَّظر إلى كل عنصر من عناصر هذه الثلاثيّة على حدة، والنَّظر إليها مجتمعة؛ مقترنًا بالأسس ‏التي نصّت عليها تعاليم المعرفة المُؤسِّسة، لذا يُصبح الخروج على هذه التعاليم ليس ضربًا من ‏الحماقة حسب، بل وتحدِّيًا لثلاثيّة: الأفكار/ الأشخاص/ الأشياء، التي يحتكم إليها الاجتماع ‏السياسي أيضًا، بما يستلزم عقابًا رادعًا في غالب الأحيان.‏

لكن أيعني ذلك استسلامًا للهُويّة التي تُشكِّلها المعرفة -أيّ معرفة- واحتكام الاجتماع السياسي إليها ‏بطريقة لا تقبل الجدل أو النقاش؟

إنَّ مسألة استحكام الشرط المعرفي في ثلاثيّة: (الأفكار، الأشخاص، الأشياء)، والاستفحال ‏الحضوري لهاتِهِ الثلاثيّة في الاجتماع السياسي، غير مقتصرة على هذا التطوّر من حيث هو ‏تطوّر لأيّ معرفة كانت، بل ارتباطات هذه المعرفة -بشكلٍ أعمق- بالمصالح السياسية لهذا ‏الاجتماع، أي اقتران تلك المعرفة بالسلطة، أو بالأحرى بتحوُّل تلك المعرفة إلى أداة في يد ‏السلطة القائمة، أيًّا كانت صيغة هذه السلطة؛ دينيّة أم سياسيّة أم اجتماعيّة أم اقتصاديّة أم ثقافيّة. ‏فالحيلولة دون تفتيت بنى تلك المعرفة، أي المحافظة على صيغها كما هي، هو إطالة في عمر ‏السلطة القائمة ومصالحها الفاعلة في الاجتماع. لذا ثمّة تفعيل لعقوبات رادعة بحقّ كل من يسعى ‏‏-حتى ولو لم يكن معنيًّا بأيّ مكاسب شخصية، بل يحتكم إلى قِيَم معرفيّة بحتة- إلى زحزحة شرط ‏المعرفة القائمة، فزحزحتها يعني زحزحة السلطة القائمة، وانهدام -وإن كان تدريجيًّا- الأعمدة أو ‏الأركان التي تستند عليها. وعادة ما يتم صياغة العقوبات في إطارها النظري على هيئة مقولات ‏رمزيّة ذات قوة تدميريّة، مثل "روح الأمّة" أو "قِيَم المجتمع" أو "استهداف المقدَّسات" إلى آخر ‏مثل هذه المقولات الرمزيّة.‏

على الرّغم من ذلك، فإنَّ سيرورة التاريخ لا تحتمل أيّ ثبات كان، حتى بوجود سُلَطٍ جبّارة تُحكم ‏قبضتها القويّة على ما يجري في الاجتماع السياسي. فكما أنَّ ثمة صراعًا مبدئيًّا بين الهُويّة ‏وصانعها، وانتصار هُويّة المعرفة بالتَّقادم على هُويّة صانعها، ثمّة صراع آخر بين هُويّات ‏معرفيّة. فالبشريّة إذْ تتقدَّم ناحية الأمام، أو بالأحرى تتحرّك، لا بدّ أن ينتج عن هذه الحركة ‏احتكاك مُولِّد لمعارف جديدة. وقد كان للتجربة التاريخية أن تؤشِّر بقوة على هذا المسعى ‏الإنساني الكبير، فالصراع الهُويّاتي بين المعارف هو أحد أبرز ميزات الإنسان العاقل في هذا ‏العالَم، حتى وهو يتعرَّض للبطش من قِبَل السُلَط القائمة: سياسيّة ودينيّة واقتصاديّة واجتماعيّة. ‏

فالثَّبات المعرفي ليس انتحارًا على المستوى الفكري حسب -لناحية تأبيد معارف على حساب ‏معارف- بل هو نحر للاجتماع السياسي أيضًا. فالمكوّن العميق (الدولة والمجتمع) الذي ارتضاه ‏الإنسان بصفته كائنًا اجتماعيًّا/ سياسيًّا، يتعرّض لعملية تثبيت مميتة. وهذا شيء يتنافى مع ‏مقتضيات الشرط العقلي الأساسي؛ أعني الشرط الجدلي الداخلي. فما إن يبني معرفة أو يتبنّى ‏واحدة حتى يسعى إلى بناء أو تبنّي واحدة أخرى؛ حتى وإن استقرّ عليها لفترة ما. أمّا أن يستقر ‏عليها لفترات طويلة فذلك هو النحر والانتحار معًا، لا سيّما ساعة يتحوّل هذا الثبات من صيغته ‏الفرديّة إلى صيغته الجمعيّة، أي عندما تتبنّى أمة ما صيغة ثابتة وأبديّة لمعرفة، وتجعل منها حدًّا ‏فاصلًا ومصيريًّا، بين كونها موجودة وفاعلة وبين كونها معدومة ومنفعلة.‏

في أعنف الحالات يمكن تفهُّم الثبات الفردي على معرفة ما، ليس بصفتها خُلاصة أبيستمولوجيّة ‏من ضمن خُلاصات أُخَر؛ بل بصفتها خلاصًا وجوديًّا. فهي تُحقّق له حياة مستقرّة وتجعله أكثر ‏طمأنينة. لكن ما لا يمكن تفهُّمه هو حالة الثبات المعرفي على المستوى الجمعي؛ لأنَّ صيغ ‏الخلاص الجمعي تَحْجِرُ بشكل مبدئي وصارم على الخُلاصات الفرديّة، وإذا حدث وأن انبثقت ‏تلك الخلاصات من حالة الكمون إلى حالة العلن، وأصبحت ذات تأثير في المجال العمومي، ‏فسوف يتمّ: ‏

‏1-‏ تأثيمها وجدانيًّا، من خلال خلق حالة شعبويّة تستهدف تلك المعرفة بطريقة عشوائيّة، من ‏خلال إشاعة استهداف تلك المعرفة للقِيَم الرمزيّة التي تُشكِّل الناظم العميق لروح الأمّة أو ‏روح المجتمع.‏

‏2-‏ تجريمها قانونيًّا، إذْ ستخلق الحالة الشعبويّة أناسًا يلجأون إلى القانون -لإثبات مدنيّتهم ‏واحتكامهم إلى نُظم مُتحضِّرة- لتجريم تلك المعارف وأصحابها، حتى يكونوا عِبرةً ‏لغيرهم.‏

لكن ذلك -أعني تأثيمها وجدانيًّا وتجريمها قانونيًّا- لا يعني بأيّ حالٍ من الأحوال، عدم انتشارها، ‏بل قد يكون سببًا وجيهًا لانتشارها بشكلٍ كبير، وتسريعًا في عملية انهيار السلطة التي تُحاربها، ‏لا سيّما إذا ما كانت النُّظم المعرفيّة التي تقوم عليها تلك السلطة نُظمًا بائدة ومُتهالكة وغير قادرة ‏على الصمود في وجه التغيّرات الحادثة، سواء على المستوى الداخلي أو المستوى الخارجي.‏

فالصراع الهُويّاتي بين المعارف، سينتصر ضرورةً للمعارف الحديثة، ليس لأنها حديثة بحدّ ‏ذاتها، بل لقدرتها على مواكبة التطوّرات الحادثة، ليس في الاجتماع السياسي حسب، بل وفي ‏العقل أيضًا. أي تلك القادرة على الانسجام مع قانوني: 1- سيرورة الاجتماع. 2- صيرورة ‏العقل. وبما أنَّ معارف السلطة القائمة هي معارف قديمة، فضرورةً ستغيب عنها حادثات جديدة ‏في الاجتماع والعقل، لذا سيكون قصورها علامة بارزة على قُرب انهيارها؛ حيث إنَّ لجوءها -‏عبر أدواتها- إلى تأثيم المعارف الحديثة على المستوى الوجداني، وتجريمها من ثمَّ على المستوى ‏القانوني، مسمارٌ أخيرٌ في نعش صيغها القائمة. فاللجوء إلى البطش بصاحب المعرفة، دليل على ‏تهالك المعرفة القائمة التي تتمسّك بها السلطة وتتمسّح بها، فهي معرفة عضليّة، لذا لا تُجيد إلا ‏اللَّكم والضَّرب، في حين أنَّ تدافُع المعارف بحاجةٍ أولًا إلى عقول فاعلة تُساجل لا تُطلق ‏الرصاص، تصارح لا تستبطن. أمّا البطش فهو ميزة النُظم القاسية، الغرائزيّة، المُوشكة على ‏الانهيار؛ أمّا السِّجال فهو ميزة النُظم الناعمة، العقليّة، الولّادة لحيوات وآفاق جديدة.‏