فرق كبير بين الثقافة بما هي الحلّ وبين الحلول الثقافيّة

د. إبراهيم غرايبة ‏

  كاتب أردني

 

تَصْعَدُ الثقافة اليوم ربَّما أكثر من أيّ فترة سابقة باعتبارها مكوّنًا رئيسًا في رأس المال ‏الاجتماعي والإنساني، وقاعدة أساسيّة للإصلاح والتنمية، فما من تقدُّم ينشأ من غير ‏الوعي به، هي قاعدة قديمة بالطبع لم تُكتشف اليوم، لكن في هذه المرحلة الانتقاليّة التي ‏تتبدَّل فيها الموارد والأعمال والأفكار تزيد الحاجة إلى الثقافة بما هي وعي الذات؛ لترشد ‏الأمم والأفراد نحو طرق جديدة لم تُسلك بعد، لأجل إنشاء حياة وأعمال جديدة مختلفة ‏تتلاءم مع التحوُّلات الكبرى التي تعصف بالعالم، لكنَّ الإصلاحيين من الحكومات ‏والجماعات والأفراد يقعون في خطأ كبير حين يعتقدون أنَّ الحلول الثقافيّة بمعنى التوعية ‏والإرشاد والتثقيف هي الحلّ لمواجهة التحدِّيات وبناء الفرص، بل إنَّ ذلك أسوأ خطأ ‏وقعت فيه عمليّات التنمية في العقود الأخيرة عندما أغرقت المجتمعات والمؤسسات ‏بحملات من الدورات التدريبيّة والتوعوية، وركَّزت مواردها وجهودها على التثقيف، ‏وأقحمت التدريب في مجالات غريبة عليه، مثل التدريب على الإبداع والتفكير الناقد وبناء ‏الذات والتنمية البشريّة والطاقة الإيجابيّة والريادة، أو دورات تدريبيّة في كتابة الرواية ‏والقصة والشعر، واستدرجت الموجة لشديد الأسف مؤسسات وشخصيّات عريقة في ‏الفكر والتعليم والثقافة والتنمية، هي جهود أقلّ ما يُقال فيها أنها تشبه وضع العربة قبل ‏الحصان، ولا تختلف كثيرًا عن دورات أو كتب من قبيل "كيف تصبح مليونيرًا؟"، أو ‏‏"كيف تكسب الأصدقاء وتؤثِّر في الناس؟"، أو "كيف تتعلّم اليابانيّة في خمسة أيام؟". ‏

إنَّ الثقافة نتيجة وليست مقدّمة، وفي صياغةٍ أفضل فإنَّ الثقافة تتشكَّل محصّلة بيئة ‏اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة، لكنّها أيضًا تؤثِّر في الموارد والأعمال والأسواق على ‏نحو يحافظ عليها ويعظّمها وينشئ أعمالًا وموارد جديدة، فالتقُّدم والإبداع هي حلقات ‏متسلسلة أو حلزونيّة يؤدّي بعضها إلى بعض في متوالية لا تتوقَّف، إذ تنشئ المنظومةُ ‏الاقتصاديّة بما هي موارد الأمم وأسواقها وأعمالها منظومةً من السياسات والتشريعات ‏لتنظيم وحماية هذه الموارد، ثم تتشكَّل حولها منظومةٌ اجتماعيّةٌ من القيم والعادات ‏والتقاليد وأساليب الحياة والعلاقات والجماعات والطبقات، وهذه تنشئ منظومةً من الآداب ‏والفنون والإبداع، وفي ذلك يُستدلُّ على التقدُّم والنموّ بالثقافة، بما هي مؤشِّر للعلاقة بين ‏التشكُّلات الاجتماعيّة والأفكار السائدة وبين الواقع، فهي (الثقافة) بقدر ما هي مرتبطة ‏بالواقع فإنَّها أيضًا تساعد الفاعلين الاجتماعيّين على إدراك الواقع واستيعابه، وإبداع ‏الحلول والأفكار وأساليب العمل والحياة التي تجعل هذا الواقع بيئة للتقدُّم والتنمية. ‏

هكذا تكون العمارة بما هي الوعاء المادي لحياتنا وأعمالنا؛ من البيوت والمدن والبلدات ‏والأحياء والأثاث؛ تعكس رؤيتنا لأنفسنا وللحياة وتصوُّراتنا للرِّضا والتقدُّم والسعادة، ‏وهذه الرُّؤية تصوغها مجموعات واسعة ومعقّدة من الشعر والموسيقى والقصة والرواية ‏والأمثال والحكايات والأساطير والمسرح والسينما، وهي أيضًا تحكم تصميم المنتجات ‏والسلع والخدمات والأسواق. ‏

 

وبغير هذه الحلقات التي يؤدي بعضها إلى بعض نحمّل الثقافة فوق طاقتها، ويكون البدء ‏بالمنتجات الثقافيّة بما هي نهايات وتفاعلات هدرًا للوقت والجهد والموارد، فعلى الرّغم ‏من أنَّ الثقافة مؤشِّرٌ على الأمم وعلى مستواها في سلّم التنمية والتقدُّم، فإنها (الثقافة) لا ‏تتقدَّم إلّا بقدر ما نملك من الحريّات والعدالة والكرامة والتنظيم الاقتصادي والاجتماعي ‏والسياسي الملائم والمنشئ للتقدُّم. أو في عبارة نهائيّة ومختصرة "هات حريّة وخُذ ‏إبداع".‏