قراءة في كتاب "الهويّة" لـِ"حسن حنفي"‏

كريمة كطيبي

كاتبة وباحثة مغربية

 

يعتبر حسن حنفي أنَّ غياب الهويّة يُعدُّ اغترابًا للإنسان، فالهويّة تعبير عن الحريّة، ‏الحريّة الذاتيّة، والهويّة إمكانيّة قد توجد وقد لا توجد. إن وُجدت فالوجود الذاتي، وإن ‏غابت فالاغتراب، ويوضِّح حنفي هذا الاغتراب بمثال صلة الإنسان بالنص، بقوله: ‏‏"فبدلًا من أن يصبح النص في صالح الإنسان يصبح الإنسان في صالح النص". هذا ‏الاغتراب هو اغتراب ضدّ النص لا خدمة له؛ فالنص يجب أن يكون في صالح ‏الإنسان، وإلا كان النص من بين عراقيل الهويّة.‏

 

إنَّ الهويّة هي نحن، وفقدانها هو فقدان لذاتنا تاريخًا وحضارة. يقول فتحي المسكيني: ‏‏"إنَّ الإجابة الهوويّة عن السؤال المرير "مَن نحن"؟ قد انقلبت اليوم إلى عائق أخلاقي ‏أمام التجربة الحرّة لأنفسنا بأنفسنا. وهي عائق من فرط أنها لا تعدو أن تكون دفاعًا ‏عدميًّا عن إجابة فقدت كثيرًا من أصالتها. لنقُل: إنَّ الإنسان في أفقنا الروحي لم يعُد ‏بعد إلى ذاته، كما فعل في أماكن أخرى من القرية الروحيّة التي تمثِّلها الإنسانية ‏الحالية. إنه ما زال مطالبًا باقتناء هويّته من خارج ذاته، ككائن ممنوع سلفًا من أيّ ‏اخترع حيوي لمرجع وجوده"(1). فكيف تتحقَّق الهويّة إذن؟ هذا ما نروم الوقوف ‏عنده بحسب قراءة خاصة لحسن حنفي من خلال كتابه "الهوية"(2).‏

الهويّة موضوع فلسفي، تطرَّق له الفلاسفة المثاليون والوجوديون، وحوّلوه إلى قانون ‏الهويّة. وموضوع الهويّة مفهوم يتداخل مع مفهوم الماهيّة، فالهويّة لغويًّا أن يكون ‏الشيء هو هو وليس غيره. وهو قائم على التطابق والاتِّساق في المنطق. وهي خاصة ‏بالإنسان والمجتمع، الفرد والجماعة، أي أنها موضوع إنساني خالص. فالإنسان "هو ‏الذي يقسم على نفسه، وهو الذي يشعر بالمفارقة أو التعالي أو القسمة بين ما هو كائن ‏وما ينبغي أن يكون، بين الواقع والمثال، بين الحاضر والماضي، بين الحاضر ‏والمستقبل. هو الذي يشعر بالفصام، وهو الذي تنقلب فيه الهويّة إلى اغتراب. الإنسان ‏وحده هو الذي يمكن أن يكون على غير ما هو عليه، فالهويّة تعبير عن الحريّة، ‏الحريّة الذاتيّة، الهويّة إمكانيّة قد توجد وقد لا توجد. إن وُجدت فالوجود الذاتي، وإن ‏غابت فالاغتراب"(الهويّة، ص11). حسن حنفي يعتبر أنَّ غياب الهويّة يُعدُّ اغترابًا ‏للإنسان، وتعبير اغتراب تعبير دقيق، يعبِّر عن أهميّة الهويّة.‏

الهويّة ‏والاغتراب

ليست الهويّة موضوعا ثابتًا أو حقيقة واقعة، بل هي إمكانية حركية تتفاعل مع ‏الحرية. فهي قائمة على الحرية لأنها إحساس بالذات، والذات حرة. والحرية قائمة ‏على الهوية لكونها تعبيرًا عنها. يقول حنفي: "الهويّة إمكانية على إمكانية. الهويّة إذن ‏ليست شيئًا معطى بل هي شيء يُخلق. لا يشعر بها كل إنسان كوعي مباشر، فالإنسان ‏اليومي يوجد أولًا، يعيش أولًا ثم يعي ذاته ثانيًا. يأتي الوعي الذاتي بعد الوجود البدني، ‏ثم يأتي الوعي بالعالم المحيط"(الهويّة، ص23). إلا أنَّ حنفي يرى أنَّ الهويّة قد تتحوَّل ‏إلى اغتراب، فتنقسم الذات على نفسها، وتتحوَّل ممّا ينبغي أن يكون إلى ما هو كائن، ‏من إمكانية الحرية الداخلية إلى ضرورة الخضوع للظروف الخارجية بعد أنْ يُصاب ‏الإنسان بالإحباط وخيبة الأمل.‏

إنَّ الاغتراب في نظر حنفي هو الأكثر شيوعًا ووقوعًا، فالهويّة حالة مثاليّة في حين ‏الاغتراب حالة واقعيّة، وهناك من الفلاسفة مَن عدَّها مجرَّد افتراض ميتافيزيقي. في ‏حين "أنَّ كل إنسان مغترب بطريقة أو بأخرى. فالاغتراب على درجات من الشدة، ‏والإنسان الطبيعي هو الذي يوجد بين قطبي الهويّة والاغتراب، ولا يمكن التخلص من ‏الاغتراب أو على الأقل درجة منه يحدِّدها التحقُّق الذاتي"(الهويّة، ص24). وعليه قد ‏يؤدي فقدان الهويّة إلى ردَّي فعل متضادين مثل العزلة والانطواء أو العنف. لأنَّ مَن ‏يفقد هويته يفقد قدرته على الحركة والنشاط، وتتبخر طاقته التي تحركه، وبالتالي ‏يعتزل الناس في حال انكماش؛ فيشعر بالضياع لأن الهويّة هي الوجود، ممّا قد يؤدي ‏إلى الانتحار ما دام الوجود لم يعُد له أساس.‏

وفي الخارج تزداد الهويّة الأصليّة انغلاقًا دفاعًا عن النفس، كردّ فعل طبيعي للأقليّة ‏تجاه الأغلبيّة، يضرب حسن حنفي المثال، بالحركات السلفيّة بقوله: "وتظهر الحركات ‏السلفيّة لدى المهاجرين وهم وسط الحضارة الغربية، حضارة الحداثة. ويزداد التمسك ‏بمظاهر الهويّة: اللحية والجلباب والحجاب والنقاب"(الهويّة، ص29). وهذا الانغلاق ‏يؤدّي إلى ما هو سلبي يضرّ بالهويّة ولا يحافظ عليها؛ فكلما زاد الإنسان انغلاقًا ‏ازدادت نظرة الآخر إليه كآخر لا يحبُّ الاجتماع الإنساني.‏

الهويّة ‏والاغتراب الديني

يؤدّي فقدان الهويّة إلى أشكال عديدة من الاغتراب، أهمّها الاغتراب الديني والاغتراب ‏السياسي، ويظهر الاغتراب الديني في علم العقائد وفي التصوف. إذ تقوم العقائد على ‏قسمة العالم قسمين: الأعلى والأدنى، الخالق والمخلوق، الأبدي والزمني... الأوَّل ‏تستريح إليه النفس، والثاني تشقى فيه. يوضِّح لنا حسن حنفي هذا الاغتراب بمثال ‏صلة الإنسان بالنص، بقوله: "فبدلًا من أن يصبح النص في صالح الإنسان يصبح ‏الإنسان في صالح النص. تصبح الهويّة نصيّة، ولمّا كان النص سلطة تصبح الهويّة ‏سلطويّة باسم النص. ولمّا كان النص عرضة للتأويلات المختلفة، وكانت التأويلات ‏طبقًا للمصالح والأهواء، نتج عنه صراع الهويّات. ولمّا كانت النصوص موضوعًا ‏للاختيار والانتقاء طبقًا للآراء المُسبقة والمواقف الاجتماعيّة والسياسية نشأت الفِرَق ‏والطوائف، كل فرقة أو طائفة تنتقي من النصوص ما يوافق هواها وموقفها ‏الاجتماعي والسياسي. فبدلًا من أن تكون الهويّة عاملًا تجميعيًّا لاستنادها إلى نسق عام ‏للقيم تصبح عنصر تفريق. وتنقسم الهويّة العامة إلى هويات خاصة. وتضيع أهم صفة ‏للهويّة، وهي العموم أو الشمول تستند إلى المعقول لا إلى المنقول، وتقوم على العقل لا ‏على النص"(الهويّة، ص46).‏

بذلك تصبح الهويّة صوريّة شكليّة إذا ما قُدِّم الشكل على المضمون، والعبادات على ‏المعاملات، والمظاهر على الجواهر ممّا يؤدي إلى النفاق أحيانًا. "يصبح المظهر دون ‏مخبر، والظاهر دون باطن، والخارج دون داخل، والفعل دون نيّة، أو بنيَّة مغايرة. ‏والفعل ليس مقصودًا لذاته بل للنيّة التي وراءه. والعبادة ليست مقصودة لذاتها فإنَّ الله ‏غنيّ عن العالمين بل للمصلحة الفرديّة والاجتماعيّة وراءها. فالأحكام مقاصد، تكثر ‏العبادات وتقل المعاملات، ويتم التسابق في بناء المساجد دون المدارس والمستشفيات ‏والأندية الرياضية"(الهويّة، ص47). كما يمكن أن تنفجر الهويّة ضدّ التغريب وكل ‏مظاهر التحديث، فتتمسَّك بأكثر الأشكال والرموز تشدُّدًا كالنقاب للمرأة، واللّحى ‏للرجال، والفصل بين الرجال والنساء، ومنع قيادة السيارة، والسياحة.‏

يرى حسن حنفي أنه إذا كان الوحي قد نزل من أعلى إلى أدنى، وكان له أسباب ‏نزول، فالواقع يسأل والوحي يجيب (يسألونك عن الخمر)، (يسألونك عن المحيض)، ‏يتساءل حنفي: كيف يقلب الإنسان جدل السؤال والجواب ويجعل الوحي مطلقًا بلا ‏مكان؟ وإذا كان الحكم الشرعي يتغيَّر بتغيُّر الزمان كلّما تغيَّر الزمان تغيَّر الحكم من ‏الأخفّ إلى الأثقل أو من الأثقل إلى الأخفّ، وهو النَّسخ، فكيف يقلب الإنسان الوحي ‏ويطلقه ويجعله مطلقًا خارج الزمان، ثابتًا لا يتغيَّر، مهما تغيَّر الزمان؟ يقول حنفي: ‏‏"تعظيم وتقديس وتمجيد الوحي بإخراجه خارج الزمان والمكان هو اغتراب للوحي ‏وقضاء على الهويّة الإنسانية المتفاعلة مع الوجود الإنساني. والوحي نزل بلغة معيَّنة، ‏اللغة العربية، في ثقافة معيَّنة؛ الثقافة العربية، وفي بيئة وأعراف معيَّنة؛ البيئة ‏والأعراف العربية، وفي سياق ديني سابق يهودي ونصراني، وفي إطار حضاري ‏معيَّن، يوناني روماني فارسي حبشي، فكيف يُفهم خارج السياق؟"، هذا كله اغتراب ‏معرفي وسلوكي يقضي على الهويّة النظرية والعملية للوجود الإنساني"(الهويّة، ‏ص48). هذا الاغتراب هو اغتراب ضدّ النص لا خدمة له؛ فالنص يجب أن يكون في ‏صالح الإنسان، وإلّا كان النص من بين عراقيل الهويّة.‏

الاغتراب في الحاضر، حيث يهرب الإنسان إلى الماضي ثم يقفز مباشرة إلى ‏المستقبل، في صور المُعادي، والشرّ عابر سبيل وإن بدا منتصرًا، هناك حياة أخرى ‏تنتصر فيها الحياة على الموت... وهذا نوع من "ميتافيزيقا الأمل التي تكون لها الغلبة ‏على واقع اليأس والإحباط وتبدأ الحياة بمجرَّد الموت في القبر، بنعيم القبر وعذابه، ‏وسؤال الملَكَين وتبدأ كل صور ثنائيّات الخير والشر بعد القيامة، الثواب والعقاب، ‏الجنة والنار..." (الهويّة، ص49). ‏

الهويّة ‏والاغتراب السياسي

بعد الحديث عن الاغتراب الديني، تطرَّق حسن حنفي إلى صنف آخر من الاغتراب، ‏هو الاغتراب السياسي المرتبط بما هو اجتماعي، ولدينا مثال العامل الذي يفقد هويته ‏لدى صاحب العمل الذي يملك عمله ومن ثم يمتلك حياته ووجوده. كما يفقد الفلاح ‏هويته حيث يمتلك صاحب الأرض نتاج عمله ويستحوذ على محصوله؛ فبدلًا من أن ‏يملك الفلاح الأرض يصبح عبًدا لها. فالملكيّة إذن أساس الاغتراب. وينشأ الاغتراب ‏كلما كان هناك صراع أيديولوجي، كما هو الشأن في الانتخابات، ورفع شعار ‏الحاكميّة من قبل الإسلاميين مثلًا، وإقصاء الحداثيين بدعوى كونهم أتباع الغرب. ‏فيحدث بذلك اغتراب سياسي يضيع معه الوطن وهويّته.‏

وقد يكون اللون وسيلة لتأكيد الهويّة تحت الاضطهاد مثل اللون الأسود. هويّة منبسطة ‏وممتدة وهي الهويّة البيضاء على هويّة منكمشة ومنطوية وهي الهويّة السوداء ‏بصرف النظر عن الوضع السياسي الاجتماعي للجماعة السوداء وحقوق الإنسان. ‏فاللاوعي العنصري، كما يرى حسن حنفي، ما زال قابعًا مهما تغيَّرت القوانين ‏العنصرية إلى قوانين إنسانية تقوم على المساواة في الحقوق والواجبات. فبقدر ما ‏تضغط الهويّة البيضاء تتفجَّر الهويّة السوداء، وإن لم تستطع الهويّة السوداء أخذ ‏حقوقها سلمًا فإنها تتفجَّر عنفًا. يلعب هنا الجانب السياسي دورًا مهمًّا في ضبط الأمور ‏كي لا تخرج عن السيطرة، وذلك من خلال التوعية بأن الوطن هو وطن الجميع، لا ‏حق لأحد في إقصاء غيره. وإلا ستتَّسع حدَّة الصراعات؛ صراعات متعلقة باللون ‏وأخرى باللغة، وأخرى بالدين، ممّا سيتحوَّل معه الوطن إلى فتات. ‏

ويرى حسن حنفي أنَّ فقدان الهويّة يتمثل في العنف، وغياب رابط للذات، لتصبح ‏عاصفة هوجاء، هويتها خارجها تبحث عنها، تمتد خارج حدودها، لا تعترف بهويات ‏الآخرين مثل النازية والفاشية، كما تتجلى في الاستعمار والتبشير. كما يرى أيضًا أنَّ ‏النزاعات القومية المتطرفة هي أيضًا تعبير عن تضخُّم الهويّة، والانتشار خارج ‏الحدود في مناطق جغرافية. ‏

إنَّ الهويّة إنسانية تتجاوز الحدود الجغرافية والعرقية واللغوية والثقافية. توجد قيم ‏إنسانية عامة مثل الحريات والعدالة وافقت عليها الإنسانية على مدار التاريخ. ‏مضمونها من داخلها، من الفطرة والطبيعة، بلا حدود، ومع ذلك وجودية أرضية ‏يحملها الوجود الإنساني ويحققها الزمان والمكان. "إذ تندرج الهويات في الخصوصية ‏والعموم، ليست بالضرورة في خط رأسي بين الأدنى والأعلى، بل يمكن أن يكون في ‏مسار أفقي بين الأمام والخلف"(الهويّة، ص73). حنفي هنا يؤكد على المشترك بين ‏الإنسانية؛ فعلى الرغم من أنَّ هناك خصوصيَّة، إلّا أنَّ القيم البنّاءة تبقى كهويّة ‏مشتركة بين البشرية. لذلك رفض رفضًا قاطعًا سلطة النص المقيِّد للحرية وللتفكير، ‏ناعتًا إيّاه بالاغتراب الديني.‏

الهوامش:‏

‏(1)‏ فتحي المسكيني، الهويّة والحرية نحو أنوار جديدة، جداول للنشر والتوزيع، بيروت،2011، ص15.‏

‏(2)‏ حسن حنفي، الهوية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2012.‏