الجسد والتَشيُّؤ

‏د. مارغو حداد 

 

‏ 

 

أصبح الجمال هدفًا وهاجسًا عندما ارتبطت صورة الذات ارتباطًا وثيقًا بصورة الجسد ‏خوفًا من فقدان محبّة الآخرين، وباتت الأنوثة مرتبطة بالنجوميّة والسينما من خلال ‏وسائل الإعلام وما تقدِّمه من نماذج، فالإعلام أكثر ما يركِّز على المظهر الخارجي ‏لتتحوَّل النَّظرة إلى المرأة من كونها إنسانًا إلى كونها شيئًا أو سلعة.‏

يَعْني التَشيُّؤ ‏reification‏ "تَحوُّل العلاقات بين البشر إلى ما يشبه العلاقات بين الأشياء. ‏علاقات آليّة غير شخصيّة، ومعاملة الناس باعتبارهم أشياء مجرّدة. التَشيُّؤ هو أن يَتحوَّل ‏الإنسان إلى شيء؛ تتمركز أحلامه حول الأشياء، فلا يتجاوز السطح المادي وعالم ‏الأشياء". إنَّ معاملة شخص آخر على أنه أداة لتلبية الرّغبات الجنسيّة دون اكتراث لذاتيّته ‏واستقلاليّته وقراره يُعتبر أبشع أنواع الاستغلال، والسؤال المطروح دائمًا: هل المرأه ‏تحبّ "التشيؤ"؟ ولماذا يصرّ الناس على اختيار التشيؤ إذن؟ ‏

تُعتبر "الدراما" المتَّهم الرَّئيس فى تشيؤ المرأة؛ حيث تعتمد الإثارة أسلوبًا فى تعاملاتها، ‏وتستخدم جسدها للتعبير عن ذلك، فهناك العديد من الأعمال المسرحية والسينمائية التى ‏تقوم فقط على عرض جسد المرأة. وهو ما تعتمد عليه أيضًا الإعلانات التجاريّة، سواء ‏كانت إعلانات الأطعمة أو المشروبات، والأحذية والملابس، والأدوات الكهربائية، ‏والمنتجعات السياحية، والسيارات... حتى لو كان المُنتَج المُعلن عنه لا علاقة له بالمرأة.‏

تنشغل بعض النساء بشكل مفرط بالاهتمام بمظهرهنّ الخارجي على حساب الجوانب ‏الأخرى من كينونة المرأة وشخصيَّتها، فقد أصبح الجمال هدفًا وهاجسًا حيث ارتبطت ‏صورة الذات ارتباطًا وثيقًا بصورة الجسد خوفًا من فقدان محبّة الآخرين، وذلك على ‏الرغم من ظهور العديد من الدراسات في الآونة الأخيرة والتي توضِّح السُّبل الكثيرة التي ‏تبيِّن ضرر التشيؤ. 

لقد باتت الأنوثة مرتبطة بالنجوميّة والسينما من خلال وسائل الإعلام وما تقدِّمه من ‏نماذج، فالإعلام أكثر ما يركِّز على المظهر الخارجي لتتحوَّل النَّظرة إلى المرأة من كونها ‏إنسانًا إلى كونها شيئًا أو سلعة، لذا أصبح المظهر الخارجي عاملًا مهمًّا في زمن ‏الصورة، وبات هوسًا يسيطر على الفتيات وعلى النساء في مقتبل العمر. وقد ساهمت ‏النظرة التشييئية في تبدُّد القيم وأدَّت إلى حدوث اضطرابات في العلاقات الإنسانيّة ‏والشُّعور بعدم تحقيق التوافق النفسي، كما أشار "لوكاش" إلى "أنَّ جوهر المجتمع ‏الرأسمالي في أنه حوَّل العلاقات إلى أشياء داخل السوق، ومن ثم تكون هناك صنميّة ‏تُشيئ الإنسان وتفقده جوهره الإنساني". 

وبلغت النظريات الخاصة بتشيؤ جسد المرأة أوجها في أعقاب المقال الشهير الذى كتبته ‏‏"لورا مالفي" في العام 1975 بعنوان "المتعة البصريّة والسينما الروائيّة" والذي تُحلِّل فيه ‏شخصيّات نجمات السينما مثل "مارلين ديتريك" بطريقة تجعلهنّ أشياء يحدِّق فيها الرجل ‏في السينما الروائيّة في هوليوود. وقالت "مالفي" استنادًا إلى نظريات التحليل النفسي ‏والنظرية البنيويّة إنَّ المتعة السينمائيّة المُستمدَّة من المُشاهدة هي في الأساس إثارة لمخيّلة ‏المشاهدين الذكور؛ إذْ إنَّ متعة النَّظر للمثيرات الشهوانيّة عن طريق المخيّلة السينمائيّة ‏تصنع صورة الشخصيّات النسائيّة ونجمات السينما كأشياء.‏

إنَّ قضايا استمرار تشيؤ جسد المرأة واستغلالها تتجلّى بطريقة ملفتة للنظر في حياة ‏الأميرة "ديانا سبنسر" الأسطوريّة، والتي كانت "أورباخ" طبيبتها المعالجة. فقد كان هناك ‏صراع لامتلاك جسد "ديانا" تجلّى في الحوار في المحافل العامة عبْر وسائل الإعلام التي ‏ناقشت برنامج الرشاقة الذي تتبعه "ديانا" وتراكُم الدّهن تحت الجلد عندها، كما تجلّى في ‏حياتها الخاصة في صورة الحرب التي شنَّتها على نفسها في ما يتعلق بنسيج جسمها ‏نفسه. فكانت ترفض بإصرار شديد الحياة التي تقيِّدها في صورة أكذوبة مثاليّة مكبَّلة في ‏إسار جسد أصبح من أكثر الأجساد تشييئًا، وفي آخر الأمر تحرُّرًا؛ عندما تعلَّمت كيف ‏تُعيد تشكيل الإحساس بالهويّة في قالب صناعة العلاج النفسي والنسويّة معًا، لكنَّها ما إن ‏وصلت إلى هذا المنعطف حتى ساقتها مطاردات صحفيي المشاهير إلى الموت. 

أمّا في جانب التشيؤ والامتلاك، فإنَّ كتاب "طرق الرؤية" لـِ"جون بيرجر" هو الذي فتح ‏باب مناقشة سياسيّة مختلفة حول الجسد العاري، وذلك من خلال المقابلة بين علاقات ‏السلطة المُضمرة في تمثيل الرجال والنساء، فحضور الرجل يبشِّر بالقوّة، بينما حضور ‏المرأة يوحى بأنها تعرِض نفسها وهي واعية بهذا الوضع، ويوحي بالإحساس بالانفصال ‏بين النّاظر والمنظور إليه؛ الرجال يفعلون، والنساء يظهرن، والمرأة تشاهد نفسها وهي ‏يُنظر إليها. ‏

وقد ربط "بيرجر" بين عودة ظهور الجسد العاري في عصر النهضة وبين ظهور ‏الرأسماليّة والنُّزوع إلى تصوير الممتلكات، ومن بينها النساء، من خلال الواسطة الفنيّة ‏الجديدة وهي التصوير الزيتي، كما ربط بين اللغة البصريّة والرمزيّة للتصوير الزيتي ‏الاستعاري، وبين الصور التي تتناقلها الدِّعاية الإعلانيّة، فقد حلَّ المُشاهد المشتري محلّ ‏المُشاهد المالك، وفي كلا القالبين يلعب جسد المرأة المثالي المتشيِّئ دورًا مهمًّا. ويرى ‏بيرجر أنه في العام 1865 تحطَّم هذا المثال بفعل واقعيّة لوحة الرسام الفرنسي "مانيه" ‏المسمّاة "أوليميبا" التي تصوِّر امرأة عارية معاصرة تتَّخذ وضعًا يعكس قوّة شخصيّتها، ‏وتحدِّق مباشرة إلى عين النّاظر إلى اللوحة، الأمر الذي يجعلها تبدو وكأنها تتحدّى ‏وضعها السلبي كموضوع للتَّحديق فيه.‏

التشيُّؤ إشكاليّة، فهو لا يحقِّق التَّوافق والتَّوازن بين الكائن وما ينبغي أن يكون، ولا يحقِّق ‏التَّوازن الذاتي والأنطولوجي، وعليه فقد غُيِّبت القيم الميتافيزيقيّة. ناهيك عن أنَّ الإعلام ‏والفنّ -بشكل عام- انحازا عن وظيفتهما الأصليّة؛ الاتِّصال ونشر المعلومات والجمال ‏والمعرفة، إلى دَوْر المسوِّق وغزو الذهنيّات بثقافة السِّلَع وثقافة الإغواء والعريّ ومفاقمة ‏الأزمات الأخلاقيّة، حتى أصبحا هما المساعد الأساسي على الانحدار الخلقي والتسلُّع ‏والتشيُّؤ. ‏