تقاليد مشوَّهة... ظاهرة إطلاق العيارات الناريّة ‏

‏ د. عبدالله مطلق العساف

كاتب وأكاديمي أردني

 

يَمُرُّ المجتمع الأردني منذ مطلع تسعينات القرن العشرين بجملة من التحوُّلات الاجتماعيّة ‏والاقتصاديّة والثقافيّة المعقدة، ممّا ينعكس بالنتيجة على مجموعة من القيم والتقاليد والعادات ‏التي ترافقها سلوكات تعكس أنماطًا مُشوّهة في بعض الأحيان، الأمر الذي يستوجب تعزيز ‏مستوى الخطاب الثقافي والأخلاقي والتربوي وتنميته. وتلك مهمّة كبيرة لا تضطلع بها ‏مؤسسة أو جهة دون أخرى؛ لكونها تستلزم برنامجًا اجتماعيًّا ثقافيًّا بعيد المدى.‏

لقد دأب كثيرون في المجتمع الأردني على تكريس أنماط من التقاليد التي يمارسونها في ‏مناسباتهم المختلفة، وإذا تفحّصنا بعض هذه التقاليد وجدنا أنّها تتضمّن خللًا في الشخصيّة ‏الاجتماعيّة الأردنيّة، فبعضها طارىء، وبعضها مُستحدث، وبعضها من باب التقليد ‏والمحاكاة، مثلما أنَّ بعضها أيضًا يعكس وعيًا بدائيًّا وليس مدنيًّا، ويدخل في باب المفاخرة ‏والمضاهاة، وحبُّ الظهور، وما إلى ذلك من القيم الاجتماعية الأخرى التي أخذت تتسرّب إلى ‏فئات عريضة من المجتمع الأردني، وتزحف سريعًا لكي تحلّ محلّ القيم العظيمة والجميلة ‏التي شكّلت إرثًا ثقافيًّا واجتماعيًّا طوال أجيال سابقة، وكان طابعها العام على الدوام هو تعزيز ‏الخير والفضيلة في المجتمع الأردني.‏

والآن، مع ما يشهده المجتمع من طفرات وتحوُّلات وحتى تشوُّهات تتَّسم بالإيقاع المطّرد ‏والسريع، فقد بدأنا نلاحظ بعضًا من هذه التشوّهات في مناسبات الأعراس والأفراح، ونلحظ ‏من خلالها مجموعة من السلوكات التي تُخرج المناسبة عن أصولها وغاياتها، في إدخال ‏الفرح والسرور والبهجة على أهل المناسبة وأصدقائهم وأقاربهم ومعازيمهم، ونعني بذلك ‏ظاهرة إطلاق العيارات الناريّة في مناسبات الفرح كنوع من المشاركة لأهل الفرح فرحهم ‏ومناسبتهم، وقد تكون المشاركة في هذه الظاهرة على نوعين، إمّا أن يَصدر هذا السلوك من ‏أصحاب الفرح، وإمّا بمشاركة بعض الأصدقاء لأصحاب الفرح، وفي كلتا الحالتين يبرز ‏سلوك المفاخرة، ونرجسيّة الظهور وتسجيل المواقف الاجتماعيّة المناسباتيّة.‏

ودون شكّ فإنَّ ظاهرة إطلاق العيارات الناريّة التي أخذت تتنامى وتنتشر في أوساط المجتمع ‏الأردني، تأخذ أبعادًا اجتماعيّة وثقافيّة وقانونيّة وأخلاقيّة.‏

فمن ناحية بُعدها الاجتماعي، فإنَّ فقدان المجتمع الأردني للكثير من القيم التقليديّة الموروثة ‏بفعل زحف قيم التحوُّلات المجتمعية الجديدة، هو ما يجعل فئة من المجتمع تبحث عن قيم ‏تعويضيّة لاستمرار حضورها الشخصي في المجتمع، دون أن تفكر في أبعاد هذه القيم، ‏وسلبياتها وآثارها الضارة أو غير الحضاريّة.‏

ومن ناحية البُعد الثقافي، فإنَّ ارتباط ظاهرة إطلاق العيارات الناريّة بهذا البُعد يعكس تشوُّهًا ‏ثقافيًّا عند الأشخاص الذين يمارسون هذا السلوك، بالنظر إلى تصوُّراتهم وتمثُّلاتهم الخاطئة ‏لمعنى الفرح والتعاطف الوجداني، ومعنى المشاركة، وبالتالي لمعنى التعبير عن أداء الواجب ‏الاجتماعي، فيميلون إلى المبالغة في إظهار مشاركتهم، أو حتى إظهار التميُّز والمُزايدة على ‏الآخرين من المدعوّين، للتدليل على تفوُّقهم عليهم في عاطفة الحب والتقرُّب إلى أصحاب ‏المناسبة. ‏

أمّا من ناحية البُعد القانوني، فإنّ ظاهرة إطلاق الرصاص، وأحيانًا بطريقة همجيّة متخلّفة، ‏فضلًا عن انتشار السلاح بين أيدي أفراد المجتمع، تُعَدُّ من ناحية قانونية خرقًا لقوانين ‏السُّلطة، إذ هو مسلك غير قانوني، وقد ينطوي على أبعاد جُرميّة، وبخصوص مناسبات ‏الأعراس، فإنَّ البُعد الجُرمي يتعلّق بتعريض حياة الأفراد الأبرياء من الناس للخط، بل وتهديد ‏حياتهم، نتيجة الاستخدام المفرط والخاطئ للأسلحة النارية في هذه المناسبات، ولطالما حصلت ‏حوادث كثيرة وبعضها مميتة بسبب هذا السلوك. إنَّ البُعد الإجرامي متوفر الأركان عند ‏مُطلقي العيارات النارية، لأنّهم على وعي ودراية تامة أنّ استخدم السلاح ينطوي دائمًا على ‏مخاطر كبيرة، ومع ذلك فإنّهم لا يتورّعون عن استخدامه، ما يعني أنّ هذا الاستخدام يرقى ‏إلى مستوى سبْق الإصرار، مع أنَّ القاعدة الأثيرة تقول إنَّ "العاقل من يتَّعظ بغيره".‏

إنّ الأمر يتعلّق راهنًا بجهدٍ وطنيّ أهلي ورسمي مُؤسسي للتصدي إلى مثل هذه الظاهرة، ‏والبحث في أسبابها ودواعيها ونتائجها المدمرة على المجتمع، وبالمثل وضع الحلول الناجعة ‏اجتماعيًّا وتربويًّا وثقافيًّا وأخلاقيًّا وقانونيًّا، وحسنًا تفعل بعض الأوساط العشائريّة عندما تبادر ‏إلى صياغة وثائق اجتماعيّة مُلزمة لأفرادها، من شأنها تجريم الأشخاص الذين يقومون بهذا ‏السلوك وتعريتهم اجتماعيًّا، ورفع الغطاء الاجتماعي والعشائري والأخلاقي عنهم كي يرتقي ‏المجتمع إلى توليد قيم مشاركة أصيلة وحضاريّة في هذه المناسبات.‏

ولا بُدّ من الناحية القانونيّة من تغليظ العقوبات الواقعة على هؤلاء الأشخاص، لأنّ التساهل ‏قانونيًّا وعشائريًّا أيضًا لا يضعف هيبة القانون والسلطة فقط، أو يفكّك القيم الاجتماعية ‏الأصيلة، وإنّما أيضًا يُعطي إشارات خاطئة تشجيعيّة لكثيرين يودّون أن يعبّروا عن حضورهم ‏وشخصيّاتهم الاجتماعيّة من خلال هذا السلوك الخطير، وعندئذٍ نكون أمام ظاهرة عموميّة، ‏تستفحل في المجتمع ويصعب التصدّي لها وإحباطها.‏

إنّ مجتمعنا اليوم بحاجة إلى مشروع متكامل للثقافة المجتمعيّة تخصُّ القيم والعادات والسلوك، ‏ثقافة مدنيّة حضاريّة راقية، لا بأس أن تُعلّمَنا وتُرشدَنا وتُهذّبَ سلوكنا وتعقلن مناسباتنا ‏ومشاركاتنا الاجتماعية، فنحن نزعم بأنّنا قطعنا أشواطًا كبيرة في التقدُّم والتمدُّن والتحضُّر، ‏ولكن ما تزال تقبع في داخلنا أفكارٌ بدائيّة، وتصوُّراتٌ متخلِّفة، وثقافةٌ تنو نموًّا سلبيًّا. ‏