د. محمد أحمد عنب
مدرس الفنون والعمارة الإسلامية بكلية الآثار- جامعة الفيوم
زَخرَ التَراث العلمي الإِسلامى بكثير مِن العُلماء المُسلمين الذين حَقّقوا إِنجازات ضَخمة سَاهمت فِي صنع الحَضارة الإِسلاميّة، وكَانت هُناك طَائفة كبيرة مِن العُلماء المُسلمين وُلدوا عُميانًا أو فَقدوا أَبصَارهم بَعد ذَلك، واستَطاعوا أَنْ يَتغلَّبوا عَلى إِعَاقتهم، وصَاروا أَمثلةً رَائعةً يُحتَذى بِها؛ ومنهم زين الدّين الآمديّ والذِي يَرجع له الفَضْل في اكتشاف طِريقة القِراءة باللمس للحُروف البَارزة للمَكفوفين.
• زين الدّين الآمديّ
هو الإمام زين الدّين أَبو الحَسن عَلي بن أَحمد بن يُوسف بن خِضر الآمديّ، يُنسب إلى (مَدينة آمد)، أَهم حَواضر دِيار بَكر في الشَمال الشَرقي مِن بِلاد الشام وهي اليَوم ضِمن الأراضي التركية؛ ولِذلك عُرف بـ(الآمديّ)، ثُم انتقل إلى بَغداد، وقَد فَقد بَصره فِي صِغره، ودَرَس عَلى أَيدي شُيوخ اللُّغة والفِقه الحَنْبلي فِي بَغداد؛ حَتى أَصبح مِن أَكَابر عُلماء المَذهب الحَنبلي وعَمل أُستَاذًا للفِقه الحَنبلي في المَدرَسة المُستنصرية ببَغداد، كَما بَرع فِي عُلوم اللُغة وأَجَاد عِدة ِلُغاتٍ مِنها الفَارسية والتُّركية والمَغُولية، وتُوفّي فِي بَغداد بَعد سَنة اثنتي عَشرة وسبُعمائة ودُفن فِيها(1).
ولزين الدّين الآمديّ العَديد مِن المُؤلفات فِي عُلوم اللُغة والفِقه، وللأَسف ضَاعت مُعظم مُؤلَفاته ولَم يَبق مِنها إلا كِتابان هما: (تَعاليِق فِي الفِقه) والذي يُعرف بـ(مُنتهى السُؤال فِي أُصول الفِقه)؛ وقَد أَورد الآمديّ فِي هَذا الكِتاب المَسَائل التي وَرد فِيها اخِتلاف فِقهيّ، فَوضّح جَوهر هَذا الاختلاف ورَأيُه فِيه، والكِتاب الثَاني (جَواهر التَبصير فِي عِلم التَعبير) والذي يُعرف أَيضًا بـ(البَصيرة فِي تَعبير الرُؤيا) وهو يُعنى بتَفسير الأَحلام(2).
وقد تَرجم لحَياة زين الدّين الآمديّ كَثير مِن المُؤرخين؛ مِنهم (المُؤرخ الصَفدي) الذي وَصف الآمديّ فِي كِتابه (نَكت الهميان في نُكت العُميان) بِقَوله: "كَان شَيخًا مَليحًا مَهيبًا ثِقة صَدوقًا، كَبير القَدر والسِن، أضر في أَوائل عمره، وكَان آية عَظيمة فِي تَعبير الرُؤيا، مَع مَزَايا أُخرى عَجيبة، تَدل كُلها عَلى عَبقريته وشِدة فِطنته وذَكائه"، وأَورد عَنه حِكايات غَريبة وطَرائف عَجيبة(3).
• قصة اكتشافه طريقة القراءة بلمس الحُروف البارزة للمكفوفين
كَان زين الدّين الآمديّ يَعمل وَرّاقًا بِجَانب تَدريسه فِي المَدرسة المُستنصرية ببَغداد؛ حيث اتخذ مِن بَيْع الكتُب مِهنة يَكسب بِها قُوت يَومِه، وكَان يَتمتع بِفراسة قَوية، وبَديهة حَاضرة؛ فقَد هَداه ذَكاؤه الحَاد إلى ابتكار طريقة يتعرّف بوساطتها –على الرغم من عَماه- مَوضِع كُل كِتاب أو مَخطوط ومَوضوعه ومُؤلفه وعَدد صَفحاته، وثَمن كُل كِتاب أَو مَخطوط يَقتنيه؛ ويَشرح لنا المُؤرِّخ الصَفدي هَذه الطِريقة: "إنه يَعرف أَثمان جَميع كُتبه التِي اقتنَاها بالشراء؛ وذَلك أَنه كَان إذا اشترى كِتابًا بِشيء مَعلوم أَخذ قِطعة وَرق خَفيفة وَفَتل مِنها فَتيلة لَطيفة وصَنعها حَرفا أَو أَكثر مِن حُروف الهِجاء لعَدد ثَمن الكَتاب بحِساب الجُمل، ثُم يَلصق ذَلك عَلى طَرف جِلد الكِتاب مِن الدَاخل، ويَلصق فَوقه وَرقة، فإذا شَذّ عَن ذِهنه كِميّة ثَمن كِتاب مَا مِن كُتبه مَسّ المَوضع الذي عَلّمه فِي ذَلك الكِتاب بِيده فَيَعرف ثَمنه مِن بروز العَدد المَلصق فِيه"(4).
وقَد اعتمد الآمديّ فِي طَريقتة للقِراءة والتَعرُف عَلى الكُتب ومُحتواها عِلى صِفةٍ مُميزة للعُميان؛ وهَي أَنَّ الحَواس الأَخرى تَقوى وتَحلّ مَحلّ البصر فَيَستطيع الكَفيف بالإعتماد عَلى حَاسة اللمس أنْ يُدرك الحُروف وتَرتيبها وبِالتَالي مَعرفة الكَلمات والنُصوص المُراد قِرَاءتها.
فَالأعَمى يَمتلك بَصيرة وأَحَاسيِس ومَشاعر تُمكِّنه مِن إِدراك ومَعرفة كُل شَيء مِن حَوله كَما لو كَان مُبصرًا، فالحِس والعَقل والظَن والتَخيُّل قُوى عَظيمة مِن قُوى النَفس(5)، فالكَفيف يَرى ويَستَطيع أَن يَشعر بكُل مَا حَوله ويَتَأمّله بِنُور البَصيرة الذي لا يَقل عَن نُور البَصر، بَل هُو أَقوى منه فَقد قَال تَعالي في الآية رقم 46 من سورة الحج: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ"، فَلَيس الأَعَمى مَنْ عَمى بَصره، ولَكن الأَعمى مَنْ تَعَمَى بَصيرته؛ فالبَصيرة هِي الدَلاَلة التي يَستَبصر بِها الشيء عَلى مَا هو بِه، وهي نُور القَلب كَما أَنْ البَصر نُور العَيْن(6).
وقد استثمر الآمديّ هَذه الطَريقة وطَوّرها وأَبدع فِيها؛ بحيثُ إذا طُلب مِنه كِتاب وكَان يَعلم أَنه عِنده نَهض إلى خَزَانة كُتِبه واستَخرجه مِن بَينها كَأنه قَد وَضعه لِسَاعته، وإن كَان الكِتاب يَتكوّن مِن عِدة مُجلدات وطُلب مِنه الأول مثلًا أو الثَاني أو غَير ذَلك أَخرَجه بِعينه وأَتى بِه، كَما كَان يَمس الكِتاب أولًا ثُم يَقول: يَشتمل هَذا الكِتاب عَلى كَذا وكَذا، وإذا مرّر يَده عَلى الصَفحة عَرف عَدد أَسطرها ونُوع وشَكل الخَط الذي كُتبت به(7).
• أصل الفِكرة وتَطوُّرها
الوَاقع أَنْ أَصل طَريقة قِراءة المكفوفين بالأَحرُف البَارزة كَانت مُتَداولة بَين العَرب قَبل زين الدّين الآمديّ، واستُدلّ عَلى هَذا بِقَول الشَاعر أَبو العَلاء المعري المُتوفى سنة 449هـ/1057م وقدَ كَان كَفيفًا؛ حَيث جَاء فِي بَعض شِعره في كِتاب (لُزُوم مَا لا يَلزم) مَا يَلي:
كأَنَّ مُنَجِّمَ الأَقوامِ أَعـمى لـدَيهِ الصُحُفُ يَقرَؤُها بِلَمسِ
لَقَد طالَ العَناءُ فَكَم يُعاني سُطـورًا عـــادَ كـاتِبُها بِطَمـسِ
ويتَّضح مِن هَذه الأَبيات للمعري أَنّ قِراءة المكفوفين للأَحرف بِوَاسطة اللَمس كَانت مَعروفة قَبل عَصر الآمديّ، ولَكن لم تَكن هَذه الطَريقة شَائعة فِي عَصر المعري بالشكل الذي ابتكره الآمديّ باستخدام الأَحرف البَارزة(8).
أَحد المَكفُوفين يَقوم بالقِراءة بطَريقة اللَمس للحُروف البَارزة - رَسم لأَحد المُصورين المُستَشرقين.
ومِمّا يَستحق الذِكر أَنّ المُسلمين فِي الأَندلس قَد عَرفوا أَيضًا طَريقة اللَمس للحُروف البَارزة؛ ويُنسب ذَلك الاكتشاف للعَالِم الأَندلسي أَحمد بن مُحمد بن عَبدالوَارث فِي أَواخر ق7هـ/13م، فذَكر الإمام ابن حَزم الأَندلسي المُتوفي سنة 406هـ فِي كِتابه (التّقْريب لحدّ المنْطِق)، مَا نَصه: "ولقد أخبرني مُؤَدبي أحمدُ بن مُحـمد بن عَبدالوَارث رَحمه الله أنّ أباه صَوّر لمَولود كَان لَه أَعمى وُلــد أَكْمـه حُروف الهِجاء أَجرامًا مِن قير ثُم أَلمسه إياها حَتى وَقف عَلى صُورِها بِعقله وحسّــه، ثُم أَلمسه تَراكيبها وقِيام الأَشياء مِنها حَتى تُشكل الخط، وكَيف يُستَبان الكتاب، ويقرأ في نفســه، ورَفع بذلك عَنه غُمّة عَظيمــة"(9).
• طريقة الكتابة باللَّمس للمكفوفين في الغرب
بَدأت تَظهر هَذه الطَريقة فِي أوروبا بَعد حَوالي ستمَائة عَام مِن اكتِشاف الآمدي، وتُشير كَثير مِن الكِتابات أنَّ الغَرب كَانوا يَعرفون هَذه الطريقة، وأَنّ أَوّل مَنْ أَنشأ المَدارس للمكفوفين فِي أوروبا هو الفِرنسي "فَالانتين هوى" وقَد أَنشأها فِي بَاريس سنة 1784م، واقتَدى بِها الإنجليز، ثُم انتَقل الأمر لِسائر أوربا وتَسابقت الحُكومات والجَمعيات ورِجَال البِر والإحسَان في إنشائها(10).
وعُرِفت أَشهر الطُرق فِي فَرنسا فِي القرن الماضي في نَحو سنة 1850م، وتُنسب للعَالم الفِرنسي "لويس برايل" الذي وُلد عَام 1809م فِي قَرية صَغيرة بِبَاريس، وقَد أُصيب بِالعَمى فِي سِن الثَالثة عَشر مِن عُمره، والتحق "برايل" بمَعهد للمَكفُوفين فِي بَاريس، وقَد كَانت طَريِقة القِراءة المُتبعة فِي المَعهد تَقوم عَلى لَمس حُروف كَبيرة مِن المَعدن؛ وَلم يَقتنع بِرايل بِهذه الطَريقة بِسبب طُول الحُروف وثِقلها، فَأَخذ يُفكر فِي طَريقة أَكثر يُسرًا وَبَساطة، وكَان قَد سَمِع أَنّ ضَابطًا فِي الجَيش قَام بِابتكار طَريقة لتَشفير الكَلمات عَلى الوَرق، فَتعرّف عَلى هذه الطَريقة وأَخذ يُطوِّرها لتُلائم المَكفوُفين إلى أَنْ تَوصّل إلى طَريقة سَهلة وبَسيطة؛ عُرفت بـ"طَريِقة برايل" فِي القِراءة، وهِي نِظام عَالمي يَستخدمه المَكفوفون أو الذين يُعَانُون مِن ضَعف حَاد فِي البَصر؛ فهي تُمكّن الكَفيف أَنْ يَقرأ ويَتَعايش مَع إعَاقته مِن خِلال تَمرير الأَصابع عَلى حُروف مَكتوبة بنِتوءات بَارزة(11).
لُويس بِرَايل
والحَقيقة أَنّ هَذِه الطَريقة مَا هي إلا اقْتِبَاس مِن طَريقة الآَمدي؛ حيث استَخدم "برايل" فكرة الآمديّ نفسها والتي تَقوم عَلى استخدام الحُروف البَارزة ولكن بِشكل مُختلف؛ حَيث تَتكون طَريقة "برايل" مِن عَدد مِن الخَلايا وتَحتوي كُل خَلية عَلى عَمودين، ويَتكون كُل عَمود مِن ثَلاثة نِقاط بَارزة بِتَسلسل مُعيّن يَستطيع الكَفيف أَنْ يَقرأها مِن خِلال تَمرير الأَصابع عَليها وتَلمُّسها بأَطرَاف أَنَامله، كَما استعمل لوحًا مَعدنيًّا؛ ليَتمكّن الكَفيف مِن الكِتابة بِواسطته بإستخدام قَلم مُسنّن(12).
طَريقة بِرايل بإستخدام اللمس للأَحرُف البَارزة
وتَنتشر "طَريقة برايل" في كلّ أنحاء العالم باعتبارها اللُغة الوَحيدة المُستخدمة للقَضاء عَلى الجهل والأُميّة لَدىَ المَكفُوفين إلّا أنّها مُكلفة؛ فَهي تَحتاج لمُعدّات تُمكّن المَكفُوفين مِن القِراءة أو الكِتابة مِن خِلالها، كَما تَحتاج إلى مُعلّمين يُتقنون اللُغة، وإذا ما قُورنت بِطَريقة الآمديّ، نَجد أَنَّ الأَخيرة تَتَميّز بِأَنها بَسيطة وغَير مُكلفة ويُمكن تَعلّمها بِسهولة ولا تَحتَاج وَقت طَويل(13).
أخيرًا؛ رحم الله زين الدّين الآمديّ الذي استطاع أَنْ يَتَحدي إعَاقته وأَنْ يُقدم لنا اكتشافه الذي أَسهم فِي القَضَاء عَلى الأُميّة والجَهل في عَالم المَكفوفين، فَهو أَول مَنْ عَلّم المَكفوفين القِراءة عَن طَريق اللمس للحُروف البَارزة.
• الهوامش والمصادر:
(1) خَير الدِين الزَركلي، الأَعلام قَاموس وتَراجم لأَشهر الرِجال والنِساء مِن العَرب والمُستعربين والمُستشرقين، ج4، دار العِلم للمَلايين، بيروت، ط5، 2002، ص257.
(2) ابن حجر العَسقلاني (شِهاب الدين أَحمد بن عَلي بن مُحمد بن مُحمد بن عَلي بن المُعتمد ت852هـ)، الدُرر الكَامنة فِي أَعيان المِئة الثَامنة، دَار الجِيل ببيروت، 1993، ج3، ص526، زُهير حُميدان، الآمديّ (زين الدّين)، الموسوعة العربية http://www.arab-ency.com/detail/2939
(3) الصَفدي (صَلاح الدِين خَليل بن أَيبك ت٧٦4هـ)، نَكت الهميان في نُكت العُميان، وَقَف عَلى طَبعه أحمد زكي بك، المَطبعة الجَمالية بمصر،1329هـ/ 1911م، ص207-208.
(4) المرجع نفسه، ص207-208.
(5) ابن حزم الأندلسي (أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد ت406هـ)، التّقْريب لحدّ المنْطِق والمَدخل إليه بالأَلفاظ العَامية والأَمثلة الفِقهية، تَحقيق أَحمد فَريد المَزيِدي، دَار الكُتب العِلمية، بيروت، 2005، ص166.
(6) انظر: محمد التونجي، المُعجم المُفصل فِي تَفسير غَريب القُرآن الكَريم، دَار الكُتب العِلمية، لبنان، 2003، ص68.
(7) الصَفدي، مرجع سابق، ص207-208.
(8) تُركي الدَخيل، إنما نحن جُوقة العُميان، دَار مَدارك للنشر، الإمارات، ط9، 2014، ص173-180.
(9) للمزيد انظر، ابن حزم الأندلسي، التّقْريب لحدّ المنْطِق.
(10) تُركي الدَخيل، مرجع سابق، ص180.
(11) إيمان طاهر، الإعاقة: أنواعها وطُرق التَغلب عَليها، وكَالة الصَحافة العَربية، مصر، 2017، ص110-111.
(12) للمزيد عن طريقة برايل انظر، محمد حامد امبابي مراد، طَريقة بِرايل بين النَظرية والتَطبيق للمَكفوفين، مَكتبة زَهراء الشرق، 2004.
(13) https://inventions.t4edu.com/inventions/طريقة-قراءة-المكفوفين.