مها العتوم والرُّؤية الشعريّة المتجدِّدة ‏ ديوان "أشبه أحلامها" نموذجًا

 

د. عبدالرحمن الرشيد

ناقد وأكاديمي أردني

 

 

تَظَلُّ أغلب المحاولات الشعريّة الحديثة أسيرة رؤى ثابتة ومستقرَّة، تؤطِّرها طبيعة ‏المجتمع وتوجُّهاته وأفكاره، وقليلة هي المحاولات الإبداعيّة التي تجنح لاستفزاز هذه ‏الرُّؤى الثابتة وتعمل على مساءلتها بجرأة، بل وتشكيل تصوُّرات أخرى جديدة، وهي ‏محاولات تمثّل الإبداع الحقيقي الذي يمتلك القدرة على التأمُّل في تفاصيل الحاضر ‏والتفكير بماهيّة العلاقات التي تحكم تصوُّراتنا عن الوجود من حولنا. ومن هنا يمكننا ‏قراءة التجربة الشعريّة للشاعرة مها العتوم. ‏

تَتَوَزَّعُ التجربة الشعريّة للشاعرة مها العتوم على خمسة دواوين هي: "دوائر الطين" ‏‏(1999) و"نصفها ليلك" (2006) و"أشبه أحلامها" (2010) و"أسفل النهر" ‏‏(2014) و"غرف علويّة" (2019) بوصفها محاولات للانعتاق من المنظورات ‏المألوفة للأشياء، من خلال الاستعانة بالتأمُّلات الذاتيّة العميقة واللجوء –أحيانًا- إلى الحلم ‏لإدراك وفهم تحوُّلات الذات، ولمحاولة تشكيل نمط جديد من العلاقات الإنسانية، وهذا ما ‏انعكس أيضًا على بناء القصيدة وشكلها، فجاءت القصيدة محكمة البناء تستغل الإمكانات ‏الإيقاعيّة الداخليّة والخارجيّة، وهذا ما حقَّق الانسجام بين الرُّؤية والبناء في تجربتها ‏الشعريّة وأعطاها بُعدًا جماليًّا واضحًا، فالشعر بمفهومه العام هو تصوُّر عميق للكون ‏والحياة يتكشَّف لنا من خلال اللغة، ولا يخفى بأنَّ العلاقة بين جماليّة اللغة وجماليّة الرُّؤية ‏هي علاقة وثيقة ومترابطة؛ فكلاهما يُكمل الآخر ويؤثِّر فيه. ‏

ولعلَّ أكثر الدواوين التي تُظهر مدى هذا التناسق والتضافر بين الرُّؤية والبناء في ‏مسيرتها الشعريّة هو الديوان الثالث (أشبه أحلامها) وقد صدر هذا الديوان عام 2010، ‏ويحوي 40 قصيدة، التزمت في معظمها بشكل قصيدة التفعيلة باستثناء قصيدة شطرين ‏واحدة هي (ترويدة)، وأربع قصائد نثريّة هي (أسكن.. فيك) و(أحلام مسروقة) و(نهاية ‏فاخرة) و(نبحث عنّا)، لقد جاءت قصائد هذا الديوان مبنيّة بشكل متقن، يجد فيه القارئ ‏قدرًا كبيرًا من الترابط والوعي بالعمليّة الإبداعيّة التي تتطلَّب عناية بالشكل والإيقاع سواء ‏الخارجي أو الداخلي لتحقيق قصيدة متكاملة.‏

يتشكّل بناء أغلب قصائد ديوان (أشبه أحلامها) من خلال العلاقة بين ركنين أساسسين ‏في القصيدة وهما: الصوت الأنثوي (المخاطِب) وهو الجانب الحاضر والحالم والمتأمِّل ‏والمتّزن، والرجل أو الحبيب (المخاطَب) غالبًا وهو الغائب المتخيَّل، وتخضع العلاقة بين ‏هذين الطرفين إلى كثير من التغيُّرات والتطوُّرات التي تشكّل بدورها طبيعة القصائد.‏

إلى جانب هذا البناء تتشكَّل قصائد أخرى من خلال حضور صوت وحيد متأمِّل في الذات ‏وتحوُّلاتها، مثل قصائد: (لا شيء أكثر) (سماء أعلى) (سروة الليل) (نخلة الأشواق) ‏‏(نهاية فاخرة) (مقامات الحيرة) (أحدِّث نفسي)، فقارئ هذه القصائد يجدها تقوم على ‏حالة من التأمُّل العميق الذي يقود أحيانًا إلى حالة من الصوفيّة في محاولة النفوذ إلى ‏جوهر الذات الإنسانية وفهم تحوُّلاتها ومواقفها. ‏

لكنْ ثمّة عامل مشترك يجمع أغلب قصائد هذا الديوان ويشكِّل محورًا رئيسًا فيه، وهو ‏الحلم، فكلمة الحلم أو المنام أو الرُّؤيا ومشتقّاتها ترد أكثر من خمس وأربعين مرّة في هذا ‏الديوان، إلى جانب ما يرافقها من أجواء الليل والنجوم، بحيث يجد القارئ نفسه أمام ‏ديوان متكامل شكليًّا ودلالايًّا، فالرُّؤية واضحة وثريّة في أغلب القصائد، هذه الرُّؤية التي ‏تتشكّل من خلال حضور صوت المرأة الفاعل ونظرتها المغايرة والمفاجئة وغير المألوفة ‏أحيانًا، والمرأة –غالبًا- في الديوان تمثّل عالم الحلم والخيال أمام الرجل الذي يمثل الواقع، ‏فكان عنوان الديوان (أشبه أحلامها) لأنَّ الصوت الأنثوي في الديوان يحتفي بالحلم ‏ويعيش فيه ويشكّل رؤيته من خلاله. ‏

وهذا ما يتَّضح في قصيدة (حلم)، حيث سيطرت الأحلام على المرأة وكأنّها في حلم دائم ‏لا تعود منه، تقول: ‏

‏"تأخرتَ/ ما كنتَ في الحلم قبلي/ وقفت على الصحو/ تحمل سكينة/ ودماي على درج ‏الوقت تنقط. ‏

‏.......‏

ربّما كنتُ في حلم/ لم أعد منه... والكل عادوا".‏

‏ والشاعرة هنا تحاول تشكيل رؤية محدَّدة لجوهر الخلاف بين الرجل المرأة في علاقتهما ‏بالحلم، ويظهر أيضًا تأكيدها لهذه الفكرة من خلال محاولتها أن تبعد الرجل عن الخوض ‏في عالمها "عالم الحلم"، وأن يظلَّ في عالمه الواقعي وأن يتركها في سلام في أحلامها ‏حيث تقول: ‏

‏"ولكن/ إذا كنت تعرفُ/ كيف السبيل إلى ضفة/ قد تؤلف حقلًا وبرّية/ فاحترس أن ‏يراك المنام/ وضع وردة في منامي"(ليل معلّق).‏

وربَّما أكثر ما يشكِّل الرؤية في هذا الديوان أنها تقوم بتشكيل طبيعة العلاقة بين المرأة ‏والرجل بالاستناد إلى الحلم والوهم والخيال، فما يحكم العلاقة بينهما ليس واقعيًّا وإنّما هو ‏المعنى الذي يبنيه الحلم ويشكّله الخيال، ما بينهما هو الفكرة لا الحقيقة، وهو ما يظهره ‏هذا المقطع بشكل جليّ وبإحساس جمالي: ‏

‏"بيننا شارع../ لا ممرّ لسيارة/ أو لأقدام ناس حقيقية/ بيننا خضرة العشب لا العشب/ ‏أو رِقة البحر لا البحر/ ما بيننا شارع أو أقل..."(شارع أو أقل).‏

بذلك يشعر القارئ أنه إزاء منظور جديد للعلاقة بين المرأة والرجل، يشكِّلها خيال المرأة ‏وأحلامها وتأملاتها، لكنه ليس منعزلًا تمامًا عن الواقع، بل إنّ هناك احتفاءً -في رؤية ‏الشاعرة- بالواقع والحقيقي بوصفه النقطة التي ينطلق منها الخيال والحلم، فالواقع ليس ‏مهمًّا بحدّ ذاته، بل بما يثيره من معنى وبما يشكله من رموز، وبذلك تظهر هذه الرُّؤية ‏العميقة التي تتجلّى أيضًا في إدراك ضرورة أن تحتفي هذه العلاقة بالواقع أيضًا، لكنه ‏الواقع المشحون بالرموز والدلالات والذي تغيب فيه -في المقابل- الأساطير، تقول:‏

‏"دعي الرمز يكبُر بينكما/ وتقلُّ الأساطير/ ليس الحقيقيّ أدنى/ دعي الفرق يزداد/ حين ‏الحدود تذوب/ فليس التشابه أغنى/ ولا تحزني حين العطر يعبر كالعطر/ أو تشتهيه ‏الصبايا"(الوصايا).‏

فهي ترسم حدود علاقة جديدة تركِّز فيها على الواقع بما يحمله من رموز وإيحاءات، ‏مقابل التخلي عن الأساطير التي تدمّر غالبًا العلاقة، وتحثّ على توسيع دائرة الفروقات ‏بين الطرفين، فليس التشابه هو الذي يكفل صحة العلاقة ومتانتها. كما تحاول بعض ‏القصائد في هذا الديوان أن تتجاوز مواقف المرأة التقليدية، فتبحث دائمًا عن رؤى مغايرة ‏للمرأة في علاقتها مع الرجل، وتأتي على خلاف المتوقَّع منها، فلا تظهر المرأة المنتظِرة ‏والمتلهِّفة للقاء مَن تحب، بل على العكس من ذلك تشعر المرأة هنا بأهمية الغياب في ‏توسيع دائرة الإدراك، ولأنَّ الغياب أيضًا هو ما يفسح المجال أمام التأمُّلات العميقة في ‏حقيقة العلاقة المعقّدة بين الطرفين، ويخلّص المرأة من الاحساس بوطأة الانتظار، تقول: ‏

‏"سأراك حين تغيب أكثر/ وسأستريح من انتظارك/ من صباح غزالة برية/ هجع/ الإله ‏بسرها/ لليل/ حتى (الله أكبر)"(رؤيا الغياب).‏

من اللافت أنَّ ديوان (أشبه أحلامها) يشكّل شخصيّة محدَّدة للمرأة في معظم القصائد، ‏وربما يُرَدُّ ذلك لأنَّ الديوان منسجم مع رؤية واحدة -في الغالب- للمرأة، هذه الرُّؤية التي ‏تحاول أن تغيِّر طبيعة الأدوار التقليدية للطرفين، فتأتي المرأة هي الجانب المسيطر ‏والمتحكّم وصاحبة الحضور والتأثير الذي لا يستطيع أن يتجاوزه الرجل، تقول في ‏قصيدة (أسكن فيك): ‏

‏"لن تلمس امرأة سواي/ إلّا/ نَفَضَتْ أصابعها من أصابعك/ وقالت: امرأةٌ تسكنك". ‏

وفي السياق نفسه يتجلّى بوضوح صوت المرأة المتّزنة التي تمتلك الحكمة، ولها الدور ‏الأساسي في ترتيب طبيعة العلاقة مع الرجل، ففي قصيدة (الوصايا) التي يتكرَّر فيها ‏فعل الأمر "دعيه" يبدو الصوت الأنثوي متجليًا بالحكمة والخبرة في فهم سرّ العلاقة بين ‏الرجل والمرأة، وفيه دعوة لمزيد من الحريّة في هذه العلاقة التي تقوم على فهم الآخر ‏وإعطائه مساحة من الحرية، وفيه أيضًا محاولة تجاوز سطوة الرجل ودوره المعهود، ‏والعودة إلى الذات عن طريق الإبداع للتعبير عن مكنوناتها، تقول: ‏

‏"دعيه يمرّ من الماء/ ظمآن/ يرسم نبعًا ونرجسة ترتديه/ ومرّي إلى ضفة/ تحملين ‏الدواة ولوحته/ كي تُريه المسافة كاملة/ بين لون الفراشة والنار/ كامنة في الزوايا".‏

على الرّغم من هذه الرُّؤى الجديدة المبثوثة في قصائد هذا الديوان إلّا أنّنا نجد أحيانًا ‏بعض الصور النمطيّة للمرأة التي تجعلها متأثرة لا مؤثرة، تنتظر من الرجل أن يشكّل ‏العلاقة بين الطرفين ويبدأها، فتطالب الرجل -كما في قصيدة (لِمَ لمْ تقل لي؟)- بالعلاقة ‏العميقة التي تكون بين العازف واللحن أو النورس مع البحر أو الريح مع الصحراء أو ‏حتى علاقة العشق العذري التقليدية، صحيح أنَّ المرأة هي التي توجِّه طبيعة العلاقة لكنَّها ‏تطالب الرجل بدوره التقليدي الفاعل والمُبادر والذي يلخّصه قولها: ‏

‏"لِمَ لمْ تكن لي مرَّة/ لأكون لك؟". ‏

أو أنها تظهر بصورة الضحيّة للرجل، ويتحوّل ألمها إلى طاقة إبداعيّة:‏

‏"كم نقطة من دمي/ ستصير/ حروفًا لديك/ وكم/ أنت حيّ بدوني".‏

أمّا قصائد التأمُّل في الذّات، فيحضر فيها الصوت الهامس المتعمّق في التفكير في جوهر ‏العلاقات، هذا التأمُّل الذي يتقاطع مع الحلم والخيال من منطلق البراءة الذي يشابه عالم ‏الأطفال، نلمس ذلك في قولها:‏

‏"أحدِّث نفسي/ بما يتحدَّث فيه الصغار مع الحقل/ حين يطيرون خلف الفراش/ وسرب ‏الحمام/ فأمضي مع الذئب/ لا ذنب للذئب/ إلا إذا نهِد الكرم قدّامه/ وتراءى مع الفجر/ ‏يعصر خمرًا"(أحدِّث نفسي).‏

فهذا التأمُّل العميق في الوجود يميل إلى تشكيل تصوُّرات جديدة للأشياء والعلاقات، تكون ‏أحيانًا مناقضة للتصوُّر المعهود، ممّا يقود إلى التشكيك في بعض المسلّمات (صورة ‏الذئب) واتِّخاذ مسار مفاجئ (السير مع الذئب) وهو مسار يعكس فلسفة عميقة في رؤية ‏الأشياء، ترمي إلى الوصول إلى حالة من التفرُّد وتحقيق منظور نابع من الذات ومن ‏إدراكها المتعمّق للأشياء من حولها، لكن تلك الرُّؤية المتفرِّدة تُدخل الذات في صراع ‏وجودي قاس يعاين حالة الحيرة والقلق أمام مسارات الحياة، فتتشكّل نظرة تأمُّل عميقة ‏في مآل الذات في رحلتها بين أن تكون أسيرة الخوف فتحيا حياة القطيع، أو أن تكون ‏الذّات التي تغلَّبت على خوفها، فاكتشفت مواطن الجمال من حولها، وانطلقت في دروب ‏الحياة، وهو ما يكشف عنه قولها: ‏

‏"فمن أشبه الآن بعد الغبار/ النساء اللواتي عشقن القطيع/ وضعن مع الذئب في ‏الخوف منه/ وربّين جيل الخراف المعدّ لدور مثيل؟/ أم سواي التي اكتشفت في ‏سواها/ الينابيع/ واندفعت كي تعبّي الجرار/ لتعرف أنَّ السنين التي عبرت/ لم ‏تمرّ....". ‏

لقد احتفت الشاعرة مها العتوم في ديوانها "أشبه أحلامها" بالصوت المتفرِّد المتأمِّل الذي ‏يلجأ للحلم ليعيد تشكيل الواقع، وليفتح مسارات مفاجئة ومجهولة تحاول أن تصل إليها ‏القصائد، وهي تعي أنّ هذه التجربة تتطلَّب تمرُّدًا على الأب -بمفهومه العام- لتحقيق ‏الذات: ‏

‏"على الأرض ضعني/ أبي/ واسترح من رؤاي الضليلة/ وحدي سأمضي/ وأمشي بلا ‏قدميك"(أنا).‏