نضال برقان
شاعر وكاتب أردني
في العقدين الأخيرين برزت أسماء عدد من شعراء قصيدة النثر الجُدُد، محليًّا وعربيًّا، وفي ما يأتي محاولة لرصد أهمّ ملامح قصائدهم على صعيدَي: الشكل والمضمون، علمًا أنّ غالبيّة حراكهم الإبداعي ينطلق من مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديدًا من (الفيسبوك)، الأمر الذي انعكس سلبًا على الكمّ العددي لمنشوراتهم الورقيّة الآخذة بالتراجع لصالح النشر الإلكتروني، ما يشكِّل تحديًا أمام الباحث في نصوصهم.
ظَلَّتْ قصيدة النثر الجديدة في الأردن، التي كُتبت في العقدين الأخيرين، دون قراءات أو التفاتات نقديّة جادّة، فجُلَّ الجهود النقديّة اتَّجهت نحو السرد، وما التفتت منها إلى الشعر ذهبت باتجاه تجارب الروّاد، بخاصة أصحاب القصيدتين: العموديّة والتفعيلة.
وكحالة استثنائيّة أقيم "ملتقى قصيدة النثر الأوّل"، بدعوة من منتدى الروّاد الكبار، في عمّان، قبل أربع سنوات، غير أنه ظلّ وحيدًا، ولم يتمّ البناء عليه، ولم تقُم له دورة تالية... حتى الآن.
في الملتقى نفسه قُدِّمت أوراق ذات طابع تعريفي بقصيدة النثر، بعموميّة، دون أن تسبر أغوارها في الراهن الكتابي، ودون أن تمسك بملامحها وأدواتها ومرجعيّاتها الجماليّة، بخاصة لدى كُتّابها الجُدُد من الشعراء الشباب، الذين لم يجدوا منابر إعلاميّة محليّة تستوعب قصائدهم، فتطايرت قصائدهم بين بعض المواقع الثقافيّة العربيّة وبين مواقع التواصل الاجتماعي، وبخاصة على صفحات (الفيسبوك).
في هذا المقام لن نطرق باب التعريف بقصيدة النثر، من جديد، ولن نتوقف عند روّادها في الأردن الذين كتبوها منذ الثمانينيات من القرن الماضي، إذ تمّ إشباع هذين الموضوعين في مناسبات وإصدارات متعددة، غير أنَّنا سنتتبّع بعض شعراء قصيدة النثر الجُدُد، الذين برزت أسماؤهم في العقدين الأخيرين، محليًّا وعربيًّا، مع محاولة للإمساك بأهمّ ملامح قصائدهم، على صعيدَي: الشكل والمضمون.
مع بداية الألفيّة الثالثة بدأت إصدارات الشاعر زياد العناني بالظُّهور، (إذا وضعنا جانبًا، كما كان يرغب دائمًا، ديوانه "إرهاصات من ناعور"، عام 1988)، إذْ أصدر بين عامي 2000 و2009 ست مجموعات شعريّة، شكّلت إضافة نوعيّة لقصيدة النثر في الأردن، وبعد مرضه في 2011 جمع أصدقاؤه بعض قصائده غير المنشورة، لترى النور تحت عنوان "جهة لا بأس بعريها"، (الأهلية للنشر والتوزيع 2017)، وكرَّمت وزارة الثقافة الأردنية العناني في 2017، في الدورة الأولى من "ملتقى الأردن للشعر". لقد سال حبر كثير حول تجربة العناني، وفرادتها، وعلاقتها باليومي والمعيش، بيد أنَّ تلك التجربة شكّلت بؤرة جامعة لمجموعة من التجارب الشابة، وقتها، والجديدة، على غرار الشعراء: محمد عريقات، وفوزي باكير، وإسلام سمحان، ومحمد المعايطة، ومهند السبتي، وأحمد يهوة، وخلدون عبداللطيف، وغيرهم، في حين برزت، بعيدًا عن دائرة العناني، مجموعة أخرى من شعراء النثر، على غرار: مروان البطوش، وماهر القيسي، ومريم شريف، وندى ضمرة، وسناء الجريري، وبريهان الترك، وغيرهم، وقد تفاوتت هذه الأسماء من حيث استمراريّة قلقها وألقها الشعري، غير أنَّ بعضها ما زال مشعًّا على غير العادة في فضاء قصيدة النثر.
وعلى اختلاف الأدوات الفنيّة التي يعبِّر من خلالها هؤلاء الشعراء، وكذلك على اختلاف المقولات التي حرصوا على إيصالها للمتلقي، هناك مجموعة من (الملامح) العامة لنصوصهم، وهي الملامح التي سنتتبَّعها تاليًا، إلا أنه من الأهميّة بمكان الإشارة إلى أنَّ جلّ هؤلاء الشعراء هم شعراء (فيسبكيّون)، فغالبيّة حراكهم الإبداعي ينطلق من مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديدًا من (الفيسبوك)، الأمر الذي انعكس سلبًا على الكمّ العددي لمنشوراتهم الورقيّة، الآخذة بالتراجع لصالح النشر الإلكتروني، ما يشكِّل تحديًا أمام الباحث في نصوصهم؛ لذلك فإنَّ جلّ النصوص التي تمَّ الاستشهاد بها، في هذه المادة، كان مصدرها الرئيس صفحات هؤلاء الشعراء على (الفيسبوك)، وذلك لغاية تتبُّع الإنتاجات الحارَّة والطّازجة لتلك التجارب، ومآلاتها في الراهن الشعري الأردني.
• شراستان: في المفردة وفي الصورة
لم يكن شاعر قصيدة النثر الجديدة في الأردن بعيدًا عن تلك الغرائبيّة الاجتماعيّة والسياسيّة التي اجتاحت الوطن العربي في سنواته الأخيرة، وقد وجد شاعر قصيدة النثر نفسه أمام خيار وحيد (غالبًا)، وهو القبول بهذا الواقع كما هو من جهة، دون التخلّي عن (واقعه الشعري) من جهة أخرى. حالة التأرجح بين الواقعين، بتداعياتها النفسيّة والجماليّة، وبما فيها من تعاطف مع الذات وشراسة مع الآخر، ظلّـت واحدة من الموضوعات الأثيرة لقصيدة النثر الجديدة في الأردن، وقد أفرزت هذه الحالة واحدة من من أهم خصائص تلك القصيدة: الشراسة، على صعيد المفردة، وعلى صعيد الصورة.
يقول الشاعر محمد عريقات في إحدى قصائده:
"كبرتُ، وسبقتُ أبي بعشرةِ أعوامٍ/ ولم تزل أمي تأخذني على محمل البكر/ ..../ كبرتُ ولم تزل الفريسة تأخذ لونَ الحصى/ ولم تزل المخالبُ عمياء/ فتعالي نخرج عن طوع التعاسة/ كأن أدعو أبناء جيلي إلى جولةِ "مورفين"/ تسقطنا من قبضةِ مَن يمسكُ الأرض/ أو كأن تكشفين لأذنيّ عن خلخالٍ/ ولعينيّ عن وشم يفور أسفل ظهرك/ فلي حصّة من الجاهليةِ سأطالبُ القرن العشرين بها/ حينئذ سأتوسَّلُ إليكِ وإلى قصائد الشعر الحديث/ كي تمنحوني فرصة لأستعير عباءة وأقول: أنتِ الغزالة وأنا كلّ هذا الجبل".
الشاعر مروان البطوش تناول فكرة التأرجح بين واقعين برؤية جماليّة أخرى، عبر قصيدة امتلكت (شراستها الخاصة) في المفردة والصورة:
"هل هذا الحبل الذي أتعرقل به منذ واحد وثلاثين عامًا يعودُ إليكم؟ أنا آسفٌ.. فأمّي التي علّمتني على القفز عن المتاعب/ لم تعلّمني بتاتًا/ كيف أفرّقُ بينَ صوت نبض قلبي/ وبين/ صوت لهاث أبي حاملًا أكياس الخبز إلى بيتنا../ مرحبًا يا ربّ: أنا مروان/ عمري واحد وثلاثون/ واسم أمي ناجحة/ وأبي اسمه زهير/ ست أخوات لديّ/ وأخ واحد/ ورجائي الوحيد: ألا يموتوا.. وأنا حيّ".
• جملة مكثَّفة وإيقاع مهموس
وفي تأمُّلنا لقصيدة النثر الجديدة في الأردن نتوقَّف عند تلك الصورة الخاطفة، والجملة المكثَّفة، وأجواء التأمُّل الفلسفي المستند إلى بُعد إنساني كوني، من خلال إيقاع مهموس بعيد عن الضجيج والفوضى والحمولات الزائدة، ولعلَّ تلك الملامح تحضر بشكل مجزَّأ في هذه القصيدة أو في تلك، غير أنها تحضر مجتمعة في جلّ قصائد الشاعرة مريم شريف، التي ما انفكَّت تطارد الفقد، في محاولة منها لاستعادة (ما لا يُستعاد)، من خلال محاورتها للذات والآخر (الغائب)، لتؤكد في نهاية المطاف هشاشة الكائن، الذي لم يكن، في الحقيقة، على الرغم من محاولاته الحثيثة، غير صدى. تقول الشاعرة في مجموعتها الأخيرة "ما لا يُستعاد"، (منشورات الآن، عمّان، 2017):
"ساكنٌ هذا الليل/ كالألم بعد حبّة دواء/ بيوت نائمة في تكوينها النهائيّ/ الجدار يسند الضوء/ كي لا يتناثر/ والضوء يحمل الجدار/ كي لا يسقط في الظلام/ وتحت الأضواء البعيدة/ قشرة الظلام رقيقةٌ/ لا يزيد مرور الوقت من سماكتها/ والهواء الأزليّ ما زال يمشي/ منذ أوّل الدنيا/ حتى هذا السكون/ كأنّ لا شيء يقبض انعتاقَ الشوارع/ ولا شيء يوقف مشي العابرينَ/ سوى الوصول/ كأنّ لا أحد هناك/ ولا حتى انحدار صوت حزين/ يسيل على قشرة الظلام، فتنشقّ قليلًا/ كأنّ لا شيء أكثر طمأنينةً/ من هذا الليل."
• واقعيّة سينمائيّة
وتنشغل هذه القصيدة بالقبض على وحشيّة الراهن المعيش، من خلال توصيف سينمائي ذي بعد واقعيّ، بعيد عن الصنعة اللغوية والضجيج الفني، الذي يجعل القصيدة أشبه بمستودع للاستعارات، وقد استطاع الشاعر مهند السبتي، صاحب "أيّنا الدّخيل أيها الضوء"، و"سَمّني ما شئت"، و"خارج صالات العرض"، تتبُّع هذه الحالة في مجموعته الأخيرة على وجه التحديد، إذ يقول:
"إنها غرفة صغيرة لا تضمُّ سوى رجل واحد/ كما أنها لا تستقبل الطائرات ولا ترسلها ليضحك من فكرة كرسي معلّق في الهواء/ وليقول إنه لا يجيد السباحة إن هي لم تهبط على اليابسة/ الهواء ليس فاسدًا/ لا روائح للموت هنا/ أعرف كائنات كثيرة تتنفّس لكنها قذرة/ الموت هو أن تمشي إلى جانب كائنات قذرة/ أن تفتح الحياة عينها على بشر يجتمعون على شتيمتها/ أن أدوخ وأنا أبحث عن عبارة تقنعني بأنَّ الحياة حلوة/ أن أهدر الحياة بينما يصفّق لي آخرون/ صفّقوا لي".
هذه الواقعيّة السينمائيّة ذاتها تتسلّل إليها غرائبيّة سير على حواف الواقع، دون أن تنفصل عنه، كما هي الحال عند الشاعر خلدون عبداللطيف، صاحب المجموعة الشعريّة "بين المنزلتين"، إذ يقول في بعض نصوصه المختزلة والمكثّفة:
"أَطفالٌ حَديثو الولادَة/ تُزعجُهُم/ ثَرثَرةُ الكبار"، "تَعبنا/ من سَماع الجُنود/ يَتغَزَّلونَ/ بعُيون بَنادقهم"، "طارَ الحَمامُ/ كانَ يُرفرفُ/ بالقَصائد/ كانَ/ يُضيءُ أَنفاقَ السَّماء".
• نجمة حكيمة وحزينة
هذه القصيدة نفسها نجدها توغل في النَّأي عن كل ما هو صاخب، حيث يتسنّى لكاتبها الإمساك بـِ"نجمة الحكمة"، وحيث يتمتّع صاحبها بالوحدة والحزن، والكتابة عن كل ما هو عادي ومألوف وهامشي في البيئة، دون ضجيج، وهي الحالة الشعريّة التي نجد مصداقًا لها في نصوص الشاعرة سناء الجريري، صاحبة المجموعتين الشعريتين: "براري التوت"، و"شؤون كونية"، إذ تقول في قصيدة "متواليات الدَّرج":
"الدَّرج/ أسبرين المرأة وهي تسير إلى موعدها/ أو/ خافض الحرارة. أن تكون عاشقًا/ هذا يعني/ تجنُّب المصاعد الكهربائية. أتذكّر كيف سقط الدرج من السماء/ وحين سرنا فوقه/ كان الزمن/ مختلسًا من أبديّة الله. بعينين حجرتين/ يرصدنا/ عصفورين شفيفين من بعيد/ يغمض عينيه كلّما اقتربنا/ يخاف من آدميّتنا. أعرف درجًا محايدًا/ لا أحبّه/ ولا يكرهني/ يرفع رأسيه وحاجبيه/ ردًّا على تحيّتي الشاحبة".
• سرد شعري على شكل كتلة
ملمح آخر من ملامح قصيدة النثر الجديدة في الأردن يتجلّى بذلك السرد الشعري المنساب بشكل عفوي، والمُتّخذ شكل الكتلة، على غرار قصيدة النثر الأميركيّة، وهو ما نجده عند الشاعر إسلام سمحان، صاحب المجموعتين الشعريتين: "برشاقة ظل"، و"هي لا تجلس وحيدة"، الذي اجتهد في تقديم (مشهد) شعري مكتمل العناصر، من جهة الحركة والشخوص ومفردات المكان، إذ نقرأ من مجموعته "هي لا تجلس وحيدة":
من مقاطع القصيدة: "قُل وداعًا للأشياء التي كنتَ تحبُّها، لن تدخِّن السجائر التي كانت تتمنى أن تراك تنفثها بشراهة، لن تشرب قهوة على مزاجها، لن تجلس كما كانت تشتهي أن تراك، ولن ترتكب حماقة المزاح الثقيل مع النادل، لن تتأبَّط ذراعك تلك الجميلة، ولن ترجع إلى البيت تشمّ ثيابكَ التي عشقَتْ عطرها، وستنام هادئًا فارغًا من كل أحلامك الورديّة، وسترجع أيامك العاديّة عاديّة".