د.محمد منصور الهدوي
كاتب وأكاديمي هندي
mansupullur@gmail.com
على مرّ التاريخ شهد العالم العديد من الكوارث التي كبَّدت البشريّة خسائر ماديّة وبشريّة كبيرة، تتفاوت في الحجم والخطورة والتأثير والتأثُّر، فليس غريبًا أن يُواكبَ الأدبُ الحدثَ؛ فيُسجِّل اللحظة ويُوثقها في عنفوانها ومأساويتها وتداعياتها. وهكذا، وبعد تفشي وباء كورونا المُستجدّ، واِنتشاره السريع؛ أخذ العالم، فجأة يُولي اهتمامه لهذا النوع من الأدب، في محاولة إدراك ما يدور حول العالم الآن، لفهم ظاهرة جديدة، لم يدرك كُنهها، لم يعشها أو يعرفها عن قرب كجيلٍ أو أجيال.
لطالما كانت الكوارث والأوبئة وأحداث نهاية العالم موضوعًا أدبيًا راسخًا منذ بدايات القرن التاسع عشر. وما من شكّ في أنّ الأدب العربي، كما هي الحال في الآداب العالميّة، قد تعرض للحظات الضعف الإنساني وما تعرضت له البلاد من أوبئة وكوارث طبيعية: الزلازل والبراكين والفيضانات والمجاعات.. وكوارث بشرية كالحروب والهجرات الجماعية... لِمَا لذلك من تأثيرٍ كبير في تغيير أحوال الأمم والشعوب والأفراد، ولِمَا تخلِّفه تلك الحوادث من آثار نفسية واِجتماعية على الوعي والفكر. وفي عالمنا العربي، وفي الأدب المعاصر، نجد أيضًا مساحة كبيرة لمثل هذه الاِختلالات الطبيعية والبشرية التي غيرت البيئة الديموغرافية والمجال الجغرافي، وكان لها تأثيرها الكبير على الوعي الاِجتماعي والفكري والسياسي، وقد غزت الأوبئة المتوالية بضرواة الكتابات الأدبية، وربما يكون الوقت مناسبًا لاستخلاص دروس ورسائل من كوارث البشرية المتلاحقة، هنا عرض سريع لبعض الحكايات الأدبية العربية والعالميّة التي تناولت الأوبئة كثيمة مباشرة أو غير مباشرة.
• في الأدب العربي
ظهرت في متون القصص والروايات العربية حالات الأعطاب الجسدية لشخصيات قصصية وروائية وأهمّها في هذا المجال الكاتبة القاصة والروائية العراقية هدية حسين التي وصفت في عدد من رواياتها الآثار الرهيبة للحرب على نفسيّة الأطفال العراقيين وقدرتها على إبراز حالات نفسية واضطرابات نفسية صاحبت شخصياتها وكأنّها وباء باطني غير مُعلن تفشّى في شرائح واسعة من المواطنين، وقد كتب حنا مينه في سيرته الروائية "بقايا صور" عن الهواء الأصفر، الكوليرا، والمجاعة، وقبلهما كَتب جبران خليل جبران عن الأمراض والأوبئة التي كانت تفتك بالشعوب العربية نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومثله كتبَ محمّد شكري في سيرته الذاتية "الخبز الحافي" عن مثل تلك الأمراض والأوبئة وخاصة المجاعة التي اِجتاحت المغرب في منتصف القرن العشرين، عَقِب الحرب العالميّة الثانية.
ومن أشهر الكُتب التي اِرتبطت بأوبئةٍ فتكت بأعداد هائلة بالبشر "إيبولا 76" لأمير تاج السر، وكِتاب "الأيّام" لطه حسين الّذي نجد فيه صفحات رائعة تتحدث عن اِنتشار وباء الكوليرا في مصر، وكذلك كِتاب "إتحاف أهل الزمان" للمؤرخ التونسي أحمد بن أبي ضياف (1802-1874) الّذي كان شاهدًا على اِنتشار الكوليرا في تونس سنة 1849 التي تسببت في وفاة آلاف الأشخاص، دون أن ننسى "المقدمة" الشهيرة لاِبن خلدون والتي قدّم فيها وصفًا دقيقًا لاِنتشار الطاعون في عصره وهو الّذي فقد والديه بسبب هذا الوباء الرهيب، كما يمكن أن نذكر رواية "الحرافيش" لنجيب محفوظ الصادرة سنة 1971 والتي قدّم فيها وصفًا وافيًا لاِنتشار الوباء في حارات مصر وفتكه بأهلها غير مفرّق بين الفقراء والأغنياء، وهذا ما يعني أنّ الأدب العربي مثله مثل الآداب العالميّة شغلت حيّزه بعض الكوارث والأوبئة، وكذلك كتاب "الطاعون في العصر الأموي: صفحات مجهولة من تاريخ الخلافة الأموية" استعرض المؤلف المصري أحمد العدوي آثار الطاعون على الدولة الأموية والحياة والمجتمعات في أقاليمها المختلفة، واعتبر أنّ عصر الدولة الأموية شهد حوالي عشرين طاعونًا، بمعدل طاعون واحد لكل أربعة أعوام ونصف تقريبًا.
ومن أشهر القصائد التي كان الوباء موضوعها قصيدة "الكوليرا" للشاعرة العراقية الراحلة نازك الملائكة، والتي اعتبرت بداية "الشعر الحر"، مما جعل شهرة هذه القصيدة تفوق قصيدة الشاعر المصري علي الجارم التي كتبها عندما ضربت الكوليرا مسقط رأسه "مدينة رشيد" بمصر عام 1895.
• في الأدب الأوروبي والعالمي
ما إن انتشر وباء "الكورونا" الّذي سرعان ما تحوّل إلى جائحة عالميّة في ظرف أسابيع قليلة حتّى تركّز اِهتمام القُراء ومحبي الأدب على الأعمال الأدبية التي تتناول موضوع الأوبئة بكلّ تفرعاتها مثل الطاعون والكوليرا... وهو ما جعل عديد الأعمال الأدبية التي لها علاقة بهذا الموضوع تعود إلى واجهة المكتبات. والحقيقة أنّ القائمة طويلة نسبيًا ويمكن أن نذكر منها: "الديكاميرون" لـِ"بوكاتشيو"، و"يوميات سنة الطاعون" لـِ"دانييل ليفو"، و"الموت في البندقية" لـِ"توماس مان"، و"العمى" لـِ"جوزيه ساراماغو"، إذ يجسّد فيها ذلك الوباء الفتّاك "العمى" الذي لم يترك أحدًا إلا وأصابه، و"طاعون وكوليرا" للروائي الفرنسي "باتريك دوفيل"، و"الحب في زمن الكوليرا" لـِ"ماركيز"، و"الطاعون" لـِ"ألبير كامو" التي أعلنت دار "غاليمار" للنشر أنّها توجد على رأس قائمة كُتبها الأكثر مبيعًا منذ عقود. مثلما التفّ كثيرون حول روايات "بقايا الأرض" لـِ"جورج ستيوارت" و"إقفال" لـِ"جون سكالزي" و"الموت الأسود" للطبيب الألماني "يوستوس هيكر" و"الرجل الأخير" لـِ"ماري شيلي"، و"الموت في البندقية" التي يحضر فيها وباء الكوليرا أيضًا وهي من تأليف الكاتب الألمالني "توماس مان" عام 1922، وتحوّلت فيما بعد إلى عمل سينمائي.
وفي رواية "الموقف" يتحدث الكاتب الأميركي "ستيفن كينج" عن تفشي نوع خطير من الأوبئة يشبه الإنفلونزا، التي ستقضي على البشر جميعًا؛ إذ تحكي الرواية عن كيفية انتهاء العالم، بعدما يقضي ذلك الوباء الفتاك على العالم بأسره، فيما عدا عدد من أولئك الذين يستطيعون البقاء بفضل امتلاكهم قدرات خاصة لمقاومة الطبيعة، ليعمّروا الأرض فيما بعد مجسدين الصراع بين الخير والشر. و"عام العجائب" حيث خرقة قماشية تأتي من لندن إلى قرية نائية معزولة، حاملة معها وباء الطاعون الذي يفتك بأهل القرية، و"عيون الظلام".. كورونا منذ 1981 رواية أصدرها الكاتب الأميركي "دين كونتز" عام 1981، واللافت للنظر أنه توقَّع تفشّي فيروس يشبه فيروس كورونا الحالي تمامًا ويقع في مدينة "يوهان" الصينية أيضًا، حيث أسماه "يوهان 400". أطلق الكاتب على ذلك المرض "السلاح المثالي"؛ إذ على الرغم من أنه لا يبقى خارج الجسم لأكثر من دقيقتين إلا أنه يمكنه أن يفتك بعدد هائل ممن حوله، بل ويمكنه أن يتسلل من دولة إلى أخرى، ولذلك تدور أحداث الرواية حول مغامرة لاكتشاف أسرار ذلك الفيروس.
• كيف حضرت "ثيمة" الأوبئة في الآداب العالميّة؟
يُفرّقُ النقاد ودارسو الأدب بين قصص الديستوبيا Dystopie التي تتناول المستقبل لكن في شكله المُظلم، عكس اليوتوبيا Utopie، وهناك أيضًا ما طوّره الأدباء فيما سمّيَ "أدب نهاية العالم" apocalypse، كلّ هذا نتج عن مخيّلة الأديب حين تصدمه الحياة في تحوّلاتها الطافرة، فيعمد إلى إنتاجية العمل الأدبي الّذي يروم من ورائه سبر أغوار الغموض المُسمّى حياة، فالفيروس المُسبّب للوباء، يُعتبر من عناصر الحياة، لكن تلك الحياة التي انبثقت في دوائر الخطر، ومن هذا الخطر تنتج الخيالات الممكنة والمُستحيلة حول ما يُحيط هذا المجهول، فتُبنى نظريات "الحرب البكتريولوجية" كما حدث مع فيروس HIV المُسبّب لمرض نقص المناعة المكتسبة SIDA، وهو ما تكرّر مع "كوفيد19" أو كورونا فيروس Coronavirus الّذي تفجّرت بؤرته في الصين بولاية "يوهان"، ناهيك عمَّا أحدثه وباء "إيبولا"، وما أنتج حوله من تخييل، كلّ هذا يجعل مصطلح "أدب الأوبئة" وارد وشرعي.
هكذا، يُؤثر الأدب ويتأثر، حدث ذلك في كثير من المناسبات؛ العام الماضي، وبعد حريق كاتدرائية نوتردام التاريخية، وسط العاصمة الفرنسية باريس، تصدرت رواية "أحدب نوتردام" لـ"فيكتور هوغو"، قائمة المبيعات. وإذا كان الغرب قد نجح في التمكين لهذا النوع من الأدب، الحاضر عبر أجناس أدبية مُختلفة، ومن خلال التراكم الّذي صنع منه نوعًا أدبيًا قائمًا بذاته؛ لكنّه في الثقافة العربية، يبدو أمرًا مُختلفًا، قد يعود ذلك ربّما إلى اعتمادها عمومًا على الشِّعر في التوثيق الإبداعي، والّذي لا يمكنه أن يستوعب الكوارث بجميع أبعادها الإنسانية، بالقياس إلى الأجناس الأدبية الأخرى كالمسرح والرواية خاصة، والتي عرفتها الثقافة العربية متأخرة.
وكلّ هذا يقودنا إلى التساؤل عمَّا إذا كان هناك ما يمكن أن نطلق عليه "أدب الوباء" أو "أدب الأوبئة"، أو بعبارة أخرى: هل هناك تيّار أدبي منظّم ومعترف به يتناول هذه الثيمة مثلما هناك "أدب الحرب" و"أدب البحر" وغيرها من الموضوعات؟ هل سيحضر كورونا المستجد في أدب الأوبئة؟
إنَّ المتأمل في الساحة الأدبية، يجد أنَّ جائحة كورونا (COVID- 19) بدأت تقتحم عوالم القصيدة، والقصص، والروايات؛ بل إنَّ الكتابات حولها شرعت تؤسّس لنفسها ما يسمّى "أدب كورونا"؛ على الرغم من أنَّ تجربة البشر مع هذه الجائحة لمّا تكتمل بعد حتى توجِد لنفسها فضاءً خاصًا.