مخلد بركات
روائي وقاص أردني
mekhled123@yahoo.com
أكَّدت مسابقة "موهبتي من بيتي" الدَّوْر الرِّيادي لوزارة الثقافة خلال فترة الحجر الصحي، وهي مسابقة موجَّهة في الأساس إلى الذهن والوجدان وبناء الشخصيّة، استطاعت أن تخترق جوانب دفينة في حياة الفتيان والشباب وبخاصة هواجسهم وقلقهم وأملهم في التصدّي لفيروس "كورونا"، في أجواء من المنافسة القويّة، لإثبات الذات والبحث عن الهويّة الثقافيّة، التي وبحسب نظريات علم النفس تتشكَّل أثناء فترة المراهقة.
من المعلوم بالضرورة أنَّ جذور التنمية الثقافية الشاملة تقوم على الاهتمام بالمبدعين من فئتي الأطفال والشباب، اكتشافًا ودعمًا، لما في ذلك من تشكيل لهويَّتهم الثقافيّة وصقل لأدواتهم الإبداعيّة كي تتطوَّر في الاتِّجاه المثمر، لتغدو أدواتٍ قادرةً على التشكيل للجماليّات اللغويّة والبصريّة، وفي بناء الوجدان الجمعي، والعقل الجمعي، من أجل النَّهضة الشّاملة.
والاهتمام هنا ليس عبثيًّا، بل هو اهتمام يقوم على رزمة من البرامج التدريبيّة المعدّة بوعيِّ علمي ونظري، تراعي مختلف الجوانب النفسيّة والذهنيّة والوجدانيّة والسلوكيّة. ولعلَّ طرح المسابقات الثقافية بشمولية وعمق هو نوع من الاستكشاف والفرز؛ بغية رعاية المواهب وتقديم مختلف أوجه التَّدريب لها؛ فهي هنا -أي المسابقات- بوّابة للكشف والمسح الذكي عن هذه المواهب الخفيّة الملفتة لتشجيعها وتطويرها وصقلها ضمن برامج عديدة، وهو الأمر الذي يقع على عاتق المؤسسات الثقافية الرسمية والأهلية، وعلى رأس هذه المؤسسات وزارة الثقافة.
"موهبتي من بيتي" مسابقة انطلقت في سياق ما أشرت إليه آنفا، ومن جانب آخر في إطار مسؤولية وزارة الثقافة ومشاريعها الموجَّهة إلى الجمهور في ظلال جائحة فيروس " كورونا" المستجد الذي كان له صدى هائل في مختلف دول العالم، كواحد من أبرز التحديات الصحيّة في العصر الحديث التي تحتاج إلى سلسلة من إجراءات الوقاية الطبيّة التي تعمل على كبح انتشاره السريع والخطير، ومنها الحجْر والعزْل.
وهو دور ريادي لوزارة الثقافة خلال فترة الحجر الصحي الجمعي، موجَّه في الأساس إلى الذهن والوجدان وبناء الشخصيّة، وتحقيق مساحة من التنفيس الانفعالي والتعبير الحُرّ عن الهواجس والفكرة، وقد حققت المسابقة ضمن أسابيعها التسعة أهدافها المتعددة، وكانت الحصيلة نتائج مدهشة في تحقيق الالتفاف حول الحقول الإبداعيّة المطروحة في المسابقة، واكتشاف أقلام مخبّأة في عوالمها الداخليّة، ومواهب شبابيّة ناضجة إبداعيًّا، استطاع بعض منها أن يدهش ويسير بموازاة المُنْتَج الإبداعي للكبار، وبعضها الآخر وإنْ كان أقلّ جودة وعمقًا إلّا أنه مؤشِّر إلى سياق خاص، متعدد المحاولات يقترب من تخوم التجريب والقفز عن السائد، ويبشِّر بأصوات ستملأ الساحة الثقافية ضجيجًا محبّبًا من الاختلاف والوعي والمغايرة.
"موهبتي من بيتي" مسابقة شموليّة مختلفة شكلًا ومضمونًا، فهي من ناحية الشكل وظفت التكنولوجيا الرقمية في الإيصال والنشر والمشاركة، كخطوة جريئة نحو التمرُّن والتدريب على هذا النوع من الكتابة الرقميّة، لأنها أثبتت وجودها بلا منازع في ظل الحراك التقني المتسارع عالميًّا، في مواقع التواصل الاجتماعي والمنصّات والمواقع الإلكترونية التي تنفتح على عالم مترامي الأطراف بسرعة وكفاءة، وقد أفادت بعض المشاركات من التقنيات الرقميّة في التنويع والمزج في الأساليب والأوعية الثقافية، فنجد تقنية الفيديو الشعري أو القصصي، أي المزج بين الصورة البصريّة والأدائيّة واللغة والنص والمثيرات الصوتيّة والموسيقيّة.
ومن حيث المضمون اخترقت جوانب دفينة في حياة الفتيان والشباب وبخاصة هواجسهم وقلقهم وأملهم في التصدّي لفايروس كورونا، فتشكّلت هذه الهواجس والرُّؤى في العديد من الحقول الإبداعيّة المبتكرة ومنها: النصوص الأدبية "شعر/ قصة"، والرسم والتشكيل، وصناعة الفيلم القصير، والأداء التمثيلي والـ"اسكتشات" والـ"ستاند أب" كوميدي، والموسيقى والغناء..
"موهبتي من بيتي" مسابقة نُسجت خيوطها بوعي وتكنيك خاص، في كل تفاصيلها، ولعلَّ ما يدلل على ذلك نجاحها في الاستقطاب؛ حيث بلغ عدد المشاركات ما يقرب من 96 ألف مشاركة، وبلغ عدد مشاهدات المسابقة عبر الموقع حوالى 18 مليون مشاهدة، ولعلّها أوّل مسابقة ثقافية في الأردن تشهد هذه الكثافة في المشاركة والاهتمام من الفتيان والشباب، ضمن الفئتين العمريتين (10-15) (16-25)، وربّما تأتّى ذلك بفضل الجهود الكبيرة من فرق العمل المسؤولة عنها منذ الترويج وصولًا إلى تسليم الجوائز للفائزين، واستطاعت من جانب آخر أن تحرِّك الساكن وتزحزحه خلال فترة الحجر الرسمي في الأردن، وجاءت كمعادل موضوعي لفيروس كورونا المستجد، للتنفيس الإبداعي عن مخاوف المشاركين من الأطفال والفتيان والشباب، والبحث عن أفق مغاير لفترات الترقُّب والإرهاق النفسي بين الجدران، فانطلقت المخيّلات الصغيرة باحثة عن شبابيك أخرى.. آفاق من الجمال والتغيير والحلم، وعن عوالم من الدهشة والسلام النفسي.
وحينما استجليت النصوص الإبداعية المقدَّمة كواحد من أعضاء لجنة التحكيم خلال فترة المسابقة في حقل النصوص الأدبية "الشعر والقصة القصيرة"، برزت العديد من المؤشرات النقدية، والملاحظات التي ربما تحيلنا إلى الاهتمام والمتابعة والنظر إلى هذه الأصوات الأدبية بجديّة وتقديم مختلف أوجه الدعم لها.
فمن جانب كانت هناك إبداعات عديدة مشغولة ببراعة أدبية، فيها العمق والأصالة والتجديد في الشكل والثيمة، واستثمار مختلف أساليب السرد لمقاربة المعنى الخفي، ففي حقل الشعر مثلًا، قُدِّمت قصائد ناضجة ومبهرة، في الشعر العمودي والتفعيلة وقصيدة النثر، راعت التخصيب الدلالي وحقن القصيدة بمرجعيّات تاريخيّة وأسطوريّة، وثيمات قوميّة ووطنيّة، ونوازع إنسانيّة عامة، ورصد لمعاناة الفرد اليوميّة وكفاحه من أجل الحياة الفضلى، فظهرت القصيدة مثقفة وغنيّة، مؤثَّثة بالرُّموز، والتلوين الموسيقي، لتستحق التأمُّل والقراءة الواعية.
ومن جانب آخر تأثرت العديد من النصوص الأخرى بالانفعاليّة المجانيّة والعاطفة المشبوبة في تناول الفيروس وآثاره الصحيّة، ليكون بؤرة الحدث في القصة القصيرة التي مالت في الغالب إلى الواقعيّة والتسطيح والمباشرة، والإنشائيّة التي تغرق في الوصف واستخدام الروابط والتكرار غير المنتج، وتسليط الضوء على لقطات وحواريات داخل منظومة الأسرة، حواريات وعظيّة، بتصوير تسجيلي لا أثر للخيال والمجازفة والترميز فيه.
وفي القصائد التي شاركت نجد العديد منها أيضًا يحتاج إلى مراعاة الوزن العروضي، والخروج من نفق الوعظيّة والإرشاد والتقليد الناسخ لقصائد أخرى معنى ومبنى، دون أن تظهر هويّة الشاعر الذاتيّة.
وبعيدًا عن التنظير والنقد للأعمال الإبداعيّة المشاركة، لأنها في الأساس محاولات من فئة عمرية لم تختبر الحياة بعد، ولم تكوّن مخزونًا معرفيًّا يسعفها على التجويد وتقديم الأقوى والأمتن، تبقى هذه المسابقة مهمّة في سياق أهدافها من حيث الاكتشاف والمسح للمواهب، وإثارة الدافعية لدى الأطفال والفتيان والشباب ليفتحوا نوافذ البوح ويقدِّموا مواهبهم دون خوف أو وجل، ويستثمروا أوعية الشكل الرقمي الحديث، كشكل من التجريب والإبهار الجاذب، في أجواء من المنافسة القويّة، لإثبات الذات والبحث عن الهويّة الثقافيّة، التي وبحسب نظريات علم النفس تتشكل أثناء فترة المراهقة، هوية متماسكة منفتحة لا مغلقة، تتموضع حول مبادىء إنسانية عامة تحترم قيم الحق والجمال والتعبير الأنيق والحر الذي يؤثث النفس الإنسانية بالمحبة والوعي، وإدراك المختلف، وتقبُّل الآخر والحوار البنّاء، لا ثقافة الانغلاق والاستعلاء والنكوص إلى ينابيع من التخلُّف والعدميّة تقود إلى الانحراف السلوكي والإرهاب؛ لأنَّ الإبداع يضيء النفس البشرية ويهذِّبها ويصيّرها نفسًا معطاءة تنظر إلى الأشياء نظرة مستبصرة وكليّة، ومن مختلف الزوايا والمرايا.