القصة القصيرة الأردنيّة.. أنفاس جديدة لزمن جديد

 

نبيل عبدالكريم

قاص وكاتب أردني

 

كُلُّ متابع لفن القصة القصيرة العربية يعرف هذه العبارة: "وفي اليوم العاشر، صار النمر ‏مواطنًا، والقفص مدينة".‏

أرادها زكريا تامر أن تكون بابًا للمعنى، يدخل منه القارئ إلى قصته الأشهر (النمور في ‏اليوم العاشر)، لكنها أدّت وظيفة معاكسة؛ فكانت بابًا للخروج منها. لقد فرض الكاتب ظلّه ‏الثقيل على القارئ حين ألزمه أن يقرأ الرُّموز كما يريد هو لا كما يريد القارئ. ألزمه أن ‏يؤوّل الرموز تأويلًا واحدًا سياسيًا. علمًا بأنَّ الرُّموز بطبيعتها قابلة لتعدُّد التأويلات. لماذا ‏فعل زكريا تامر ذلك؟ لأنَّ الجانب السياسي لديه طغى على الجانب الفنّي في لحظة ‏الكتابة. والفكرة طغت على المخيّلة. والتفسير طغى على الإيحاء. ورغبة الكاتب في ‏الإفصاح تغلّبت على الإشارة. ‏

ماذا لو لم يكتب زكريا تامر العبارة الأخيرة؟ قد يكون النمر إنسانًا فردًا وليس مواطنًا ‏عامًا. وقد يكون النمر طالبًا والقفص جامعة. وقد يكون موظفًا والقفص شركة. وقد يكون ‏امرأة والقفص مجتمعًا ذكوريًّا. وقد يكون مناضلًا والقفص حزبًا. وقد يكون مفكرًا حُرًا ‏والقفص أيديولوجية مغلقة. وقد يكون شاعرًا والقفص قالبًا شعريًّا جامدًا.‏

القصة القصيرة هي فن الأبواب المفتوحة على تعدُّد القراءات والتأويلات. عمل الكاتب ‏فيها يشبه عمل محرِّك الدمى في مسرح العرائس. يلعِّب الخيوط كما يشاء شريطة أن لا ‏تظهر يداه أبدًا، ولا وجهه، ولا ظلّه. موقعه أن يقف في العتمة أمام ستارة سوداء. وإذا ‏ظهر طرف من أطرافه تنهار المسرحية، لأنَّ المُشاهد يريد أن يصدِّق أنَّ الدمية حيّة ‏وحرّة ومستلّقة وليست أداةً بيد الكاتب. كل الخيوط والعناصر القصصية بيد الكاتب، لكنه ‏يحوكها بخفة ومهارة وذكاء، فيبرز ما يشاء من الخيوط ويخفي الأخرى، ويضفّرها ‏ويحبكها وفق النَّسق الذي يراه مناسبًا. لكنه يُخضِع النسيج كله لمنطق العمل الفني وليس ‏السياسي ولا الأيديولوجي. ‏

على القاص أن يلبس قفازين أسودين حين يكتب قصته حتى لا تظهر بصماته في القصة. ‏وهذه ليست دعوة إلى موت المؤلف، بل بالعكس، هي دعوة إلى حضور المؤلف المبدع ‏الذي يحسن اختيار عناصره القصصية، انطلاقًا من الموقع المكاني، واللحظة الزمنية، ‏والشخصية الإنسانية، والحدث الفريد، والمفارقة المدهشة، والجملة الأولى المنسجمة مع ‏الجملة الأخيرة في بناء مترابط. هذه العناصر السردية مجتمعة هي ما تشكل بصمة ‏المؤلف. ‏

القصة فن سردي محكم البناء ومركّز، لا يحتمل الإفاضة والشرح والإنشاء العاطفي، ‏وهو أبعد ما يكون عن الخطابة والذاتية والغنائية الشعرية. ‏

في قصة قصيرة للكاتبة الهندية "أنيتا ديساي" يختبئ ولد في قبو أسفل بناية. الولد متردد ‏بين الخروج من القبو أو البقاء فيه، ولا ينفك يسأل نفسه عن الوقت المناسب للخروج، ‏وأثناء ذلك يصغي إلى الأصوات القادمة من الشارع. وبعد ساعات يخرج إلى الشارع ‏راكضًا بكل طاقته، ويتوجَّه إلى حائط معيَّن ويلمسه بيده وهو يصيح بكلمة بمعنى ‏‏(كُمّستير) في لعبة الاختباء والبحث الشعبيّة المعروفة، لكنه لا يجد أحدًا من أصحابه ‏حوله، ويشعر بالخزي حين يكتشف أنَّ الأولاد كلهم انتهوا من لعبة (الغمّاية) منذ زمن ‏وعادوا إلى بيوتهم وهو مختبئ في القبو. ‏

هل نقرأ هذه القصة من زاوية فلسفيّة؟ هل نقرأها من زاوية نفسيّة؟ هل نقرأها من زاوية ‏اجتماعيّة؟ مهما كانت زاوية النظر إلى القصة القصيرة، فلا بد أن نقرّ بأنها فن تكمن ‏براعته في بساطة الحدث وواقعيته، والقدرة على إظهار المفارقة فيه. ‏

القصة البارعة هي التي تترك للحدث أن يروي نفسه بنفسه، وبأبسط الطرق الممكنة ‏أسلوبيًّا، بل تختار الجزء الأبرز والأهم من الحدث، وتترك الباقي للقارئ ليرويه لنفسه. ‏القصة القصيرة فن ذكي يخاطب قارئًا ذكيًا، القارئ الذكي يشبه البحّار الذي يرى قمة ‏جبل الجليد طافيًا فوق سطح المحيط فيعرف أنه يخفي جزءًا أكبر منه تحت السطح. لعبة ‏الذكاء بين كاتب القصة وقارئها تكمن في أنَّ الأوَّل يخفي والثاني يكشف ويكتشف.‏

هكذا نفهم الإيحاء في القصة، ونفهم الخلفيات الاجتماعية والسياسية للحدث القصصي ‏دون الإفاضة في شرحها. ونفهم أيضًا الأبعاد النفسية والثقافية للشخصية دون ذكرها.‏

على هذا النحو يمكن للقصة القصيرة أن تتناول القضايا والأحداث الكبرى كالحروب ‏العالمية أو الأهلية، والتحوُّلات الاجتماعيّة والسياسية التي تشهدها المجتمعات، والمواضيع ‏والأسئلة الفلسفية الشائكة، أسئلة الوجود والحرية والأخلاق. كل ذلك تتناوله القصة ‏القصيرة من خلال حدث بسيط يُروى بكلمات قليلة، ويخص شخصية واحدة رئيسة، أو ‏شخصيتين على الأكثر، ويصف صراعًا صغيرًا حول موضوع عادي وقد يكون سخيفًا ‏أو مبتذلًا، كخلاف بين ولدين يلعبان، أو زوجين يتناولان طعام الإفطار، أو بين راكب ‏وسائق سيارة التاكسي، ويتعمَّق هذا الصراع المبتذل من خلال المفارقة والحوار الموجز ‏والوصف الدقيق المنتقى بعناية، فيتحول إلى قضية أكبر، ويكتسب أبعادًا أوسع، ويتحوَّل ‏من العادي إلى الخطير، ومن السخيف إلى العميق، ومن المبتذل إلى الجديد.‏

في قصة للألماني "غونتر غراس"، ثمة مطعم يقدم لزبائنه وجبة واحدة هي البصل. ‏يرتاده زبائن من الجنسين، ومن مختلف الأعمار، ومن طبقات اجتماعية عليا ودنيا، ‏ويعملون في مختلف المهن. ويتحدث الزبائن عن الأقارب والأصدقاء الذين فقدوهم، ‏ويستمعون إلى موسيقى حزينة تعزفها فرقة العازفين في المطعم. وحين يقدِّم لهم النادل ‏رؤوس البصل الكبيرة في أطباق فاخرة يقومون بتقطيعها بواسطة سكاكين الطعام، فتدمع ‏عيونهم ويبكون بكاء حارًا على أحبتهم الذين ماتوا في الحرب. ‏

في هذه القصة القصيرة يكشف الكاتب عن أسوأ وجوه الحرب. والمتمثل في أنها تجعل ‏الموت أمرًا عاديًّا متكررًا، فلا يجد الأحياء الوقت الكافي لبكاء أحبتهم، وتُستنفد قدرتهم ‏على إعطاء أحبتهم ما يستحقونه من حزن ورثاء. فيشعرون أنهم فقدوا إنسانيتهم في أتون ‏الحرب، فيلجؤون إلى هذا المطعم الغرائبي ليستعيدوا شيئًا من إنسانيتهم المهدورة.‏

لم يصوِّر "غونتر غراس" في هذه القصة القصيرة أهوال الحرب على الجبهة، ولم يصف ‏المعارك وأطراف الصراع وأسبابه، كما فعل كُتّاب الرواية الذين تناولوا موضوعة ‏الحرب، مثل "إرنست همنجوي" و"إريك ريمارك" اللذين كتبا روايات شاملة عن الحرب ‏العالمية الثانية. لأنَّ القصة القصيرة لا تحتمل هذا التوسُّع في طرح القضية من كل ‏جوانبها وتفاصيلها، لكن القصة القصيرة تستطيع بزمانها ومكانها المحدودين، وحدثها ‏البسيط، وشخوصها القليلة أن تعالج أكبر القضايا وأهمها.‏

في هذا الملف نضع بين أيدي القراء خمس مقالات، تتناول الأولى التجربة القصصية ‏لغالب هلسا (1932- 1989)، بوصفها تجربة فريدة في زمنها وجيلها، ومنارة تشدّ ‏الأبصار إليها، ونهرًا منبعه في القرن العشرين، ومصبّه في القرن الحادي والعشرين، ‏ويحمل طمْي خصوبة الأجيال الأولى، ليغذّي زرع الأجيال التالية.‏

وفي الثانية ببليوغرافيا للقصة القصيرة الأردنية، منذ مطلع القرن الحالي، تبيّن عودة ‏الزخم للمشهد القصصي، من الناحية الكميّة، بعد فترة من الفتور، شهدتها السنوات ‏الانتقالية بين القرنين. ولعل أهم ما يميِّز هذا الزخم، هو جدَّة التجارب القصصيّة، الداخلة ‏إلى المشهد بأنفاس طازجة، تجاور الأنفاس المتجدِّدة للأجيال السابقة.‏

وفي الثالثة تقعيد نظري، وتعريف فني، بالفرع النابت من ساق القصة القصيرة، الذي ‏اتفق على تسميته "القصة القصيرة جدًا". وتلمّس لشكل الثمار الجديدة من هذا اللون في ‏المشهد القصصي الأردني.‏

وفي الرابعة والخامسة، تسليط للضوء من الناحية النقدية، على مجموعتين قصصيتين، ‏تتقاطعان في الانتماء إلى الزمن الجديد، وتفترقان في الطريق التي تخطُّه كل منهما، ‏معبِّرة عن حقِّها في التفرُّد. ‏