الثقافة والتفشّي

 

 

د. زياد الزعبي

 

أوَّل معرفة لنا بالتفشّي تعود إلى مرحلة التَّلمذة في المدارس، فقد كُنّا نلحظ أنَّنا ما نكاد ‏نضع سنّ القلم الحبر على الورقة حتى يتفشّى الحبر في الورقة، ويشوِّه صورة الحرف، ‏ويتلف سعينا للكتابة، أمّا اليوم فقد غدت مفردةُ التفشّي قرينة "كورونا" مفردةً وحَّدت ‏المجتمعات الإنسانية كلها، المجتمعات التي تسعى بكل ما أوتيت من معرفة ودهاء، ‏وقوانين دفاع، ومختبرات لقاحات، وبيانات ومؤتمرات صحفية أن توقف هذه الجائحة ‏التي غيَّرت وجه العالم وثقافته حقيقةً لا مجازًا، إذ يكفي أن ننظر إلى وجوه البشر التي ‏تكمَّمت أو تقنَّعت راهبة وراغبة بشتى صنوف الأقنعة وألوانها، والتي ترسم ملامح ثقافيّة ‏جديدة يمكن تصنيفها في إطار أدب الفساد الكوني الذي انبثق من عوالم الخيال العلمي ‏الجامح وتبدّى واقعنا اليوم أكثر جموحًا من الخيال. ‏

لقد وضعت الجائحة البشر أمام رعب كوني يبثُّه كائن لا مرئي، وجعلتهم يدركون أنَّ ثمّة ‏ما يجمعهم وجوديًّا، وهو الهشاشة أمام فيروس يستطيع أن يلغي كل ما يمتلكون من أسلحة ‏قادرة على تدمير العالم، وأن يوحِّد المعنى في كلِّ لغاتهم، وأن يُفقدهم ما يألفون فيمنعهم ‏من التَّصافح، وإنْ لم يستطع منعهم من التقاتل، وأن يحول بينهم وبين ثقافتهم، فلا ‏مهرجانات، أو متاحف، أو حفلات فرح أو ترح، ولا تثقيف في مدارس أو جامعات، ولا ‏طائرات تطير ولا جنازات تشيّع، بانتظار انحسار التفشّي. ‏

الجوائح التي اجتاحت البشر عبر تاريخهم انتهت دائمًا بعد أن كانت تأخذ ما تستطيع، ‏وبعد أن كانت تخلّفهم أقل عددًا، وأكثر بؤسًا، ولكن أقلّ إنسانيّة أيضًا وأشد عنفًا، أمّا الذي ‏لا ينتهي فهو أنواع من التفشّي التي رافقت البشر وترافقهم، وهي أشدّ فتكًا وأعظم ترويعًا ‏من الجوائح الطبيعيّة والأوبئة، فتفشّي ثقافة الكراهية والعنف والأنانية كانت وما زالت ‏تفتك فينا، وتتجلّى في صورة حروب مرعبة مدمِّرة خاضها ويخوضها البشر مسلّحين ‏بغرائز كلبيّة في الامتلاك والسيطرة أوْدَت بحياة الملايين منهم، وهو ما لم تستطع أيّ من ‏الجوائح عبر التاريخ أن تفعله، فالجوائح الطبيعيّة أو الأوبئة لا تمارس الظلم والفساد ‏والعنصرية التي يمارسها البشر بوعي وإرادة تدمِّر روح الإنسان، وتعمل على تفشّي ‏الأحقاد والكراهية والقسوة التي تؤسِّس لجوائح في النفوس لا تنطفئ أو تخبو إلّا لتتوقَّد ‏وتشتعل من جديد. ‏

كلُّ جائحة ضربت البشر ذكَّرتهم وبصَّرتهم بهشاشة وجودهم، لكنَّها لم تستطع أن تغيِّر ‏طبائعهم التي سرعان ما يعودون إليها، فقد جُبلوا على نسيان الحالات واحتفظوا بصفاتهم ‏المتأصِّلة فيهم طباعًا وثقافاتٍ، وهي للأسف أشدّ عنفًا وتوحُّشًا من كل الجوائح والأوبئة، ‏فالبشر اليوم يقتلهم توحُّشهم المسند بالأسلحة الرقميّة الذكيّة، يقتلهم تفشّي جوائح الجوع، ‏والظلم، والاستبداد، وجهل الطغاة، ووحشيّة الغزاة المتحضِّرين، تقتلهم روح قابيل ‏السارية فيهم منذ الخطيئة الأولى وهبوطهم إلى الأرض التي تئنُّ تحت وطأة "مَن يفسد ‏فيها".‏

ليس هذا تشاؤمًا، ولكنه محاولة لقراءة التاريخ الإنساني في بعديه الفردي والجمعي الذي ‏شخَّصته الثقافة بوصفه تاريخَ جوائح صنعها البشر بسلطان الشرّ والعلم الذي غدا يقتل ‏عن بُعد، قبل أن يلجأ للتعليم عن بُعد تحت وطأة جائحة لم تستطع أن تخفِّف من غلوائه ‏وعنفه، ولم تدفعه إلى التفكير في وجوده الهشّ وغرائزه الكلبيّة. ‏

ربَّما كانت هذه الحال وراء ما سمّاه البيروني هراش الأمم وتوحُّشها، وما دفع مهيار ‏الديلمي لتقرير أنَّ الناسَ داءٌ مُعدٍ يجب توقّيه: ‏

توق الناس، إنَّ الدّاء يعدي..... وإنْ قربوا فحظّكَ في البعاد

لكنَّنا، ومن باب فسحة الأمل، نرى أنَّ على هذه الأرض ما يستحق أنْ نعيش لأجله: ‏الدِّفاع عن حرية الإنسان وكرامته وحقِّه في الحياة، وتأمُّل الطفولة، وحالات عجزنا، ‏وفعل الثقافة المؤجَّل لتهذيب الذئاب، وهُتَافَاتُ شَعْبٍ لِمَنْ يَصْعَدُونَ إلى حَتْفِهِمْ بَاسِمينَ، ‏وَخَوْفُ الطُّغَاةِ مِنَ الأُغْنِيَاتْ.‏

سيحتفظ البشر بالجوائح في الأدب والفكر والفلسفة والدين والسياسة، ولكنهم يظلون ‏مخلصين لطبائعهم التي لا تحفل إلّا بالجبروت والأنانيّة والعنف.‏