سؤال الموت في الرِّواية الأردنيّة ‏ في أنموذجين روائيّين ‏"نزلاء العتمة" و "تراب الغريب" ‏

 

 

جلال برجس

شاعر وروائي أردني

 

كتابةُ الموت في الرِّواية منحى لا يمكن فصله عن الفلسفة؛ فهذا التَّعالق قادم من ‏إشكاليّة الموت من جهة، وإشكاليّة التفكُّر فيه بحدّ ذاته من جهة أخرى. في "نزلاء ‏العتمة" يخرج الروائي زياد محافظة بمقترحٍ حياتيّ، لا يركن في باب موازاة السائد، ‏إنّما الخروج عليه، برؤية جديدة. أمّا في "تراب الغريب" للروائي هزاع البراري، ‏فالموت ليس فقط الموت البيولوجي وعوالم المقابر، إنَّما هنالك أشكالٌ أخرى ظهرت ‏من خلال إحساس عدد من الشخصيّات بالموت على الرّغم من حركتها على أرض ‏الحياة.‏

مقدّمة

الرِّواية حلم كاتبها -عبر إثارته الأسئلة- بحياة أخرى. وهي برأيي مسعى ثوريّ ضدّ ‏السائد الذي إنْ حدث وتبدَّل إلى ما يريده الروائي، سيواصل مسعاه عبر أسئلة جديدة ‏تؤدّي إلى زمن جديد؛ مسعى يتكئ على العناصر الثلاثة التي يقوم عليها التفكير ‏الفلسفي بالكون: (الكينونة والسيرورة، والصيرورة). والحياة بكل توسُّعاتها الدائرية -‏ابتداء من حياة الفرد الجوانيّة السريّة، مرورًا بحياته العائليّة، وحياته في مجتمعه، ‏ووصولًا إلى حياته الكبرى عالميًّا- بقعةٌ لا نهائيّة لتساؤل الرِّوائي، هذه اللانهائية التي ‏لم تغفل دائرة الموت عن تأمُّلاته، وعن أسئلته وسعت إلى تجاوز الصيرورة إن كانت ‏نتاجًا نهائيًّا، فذهبت متمثلة بلانهائيّة الكون. ‏

وإن كانت الكتابة الإبداعية بشكل عام في عتبتها الأولى نتاجًا ذاتيًّا أو ردّ فعل على ‏أمر شخصي غامض يتطوَّر إلى معاينة الموضوعي عبر الذاتي، فإنَّ الرِّواية على ‏نحو خاص نظرة عريضة عبر الموضوعي/ العام إلى الذاتي/ الخاص، وبالتالي ‏الذهاب إلى مناطق الحيرة الشائكة تجاه واقعة كبرى كالموت مدفوعًا بأسباب كثيرة. ‏فلمّا سعى (جلجامش) نحو الخلود، لم يكن سعيًا لتجاوز الموت فقط، وإنَّما للوقوف ‏بوجهه ولسببين؛ الأوَّل فاجعته بموت خليله (أنكيدو) الذي كان له أثر كبير على وعيه ‏المعرفي كملك، وعلى وعيه الاجتماعي والسياسي إلى درجة البكاء على جثّته لسبعة ‏أيام متواصلة إلى أن خرج الدود من أنفه. والثاني -وهو نتيجة للأوَّل- الارتقاء إلى ‏درجة الآلهة آنذاك. فالموت كان وما يزال سرًّا كبيرًا أدّى إلى سؤال كبير مُضمَر في ‏أسئلة عديدة: لماذا نحن على هذه الأرض؟ ولماذا نغادرها فجأة؟ ومَن الذي يغادرها ‏البدن نحو عالم التراب، أم الروح نحو الأبدية؟ إذ تخلَّقت أسئلة كثيرة حول رحيل ‏الساكن (الروح) عن المسكون (الجسد) وأبديّة هذا الساكن مقابل فناء الجسد. وهل هذا ‏الرَّحيل رحيل إلى "أبديّة سيروريّة" أم "أبديّة عَدم" كما رأى (سارتر)؟ وكما تصوَّرها ‏‏(غوته) فقال: إنَّها (حيلة الطبيعة لضمان المزيد من وفرة الحياة)؛ إذ يأخذ الموت ‏مساحة مهمّة في الوجوديّة التي تُعدُّ فلسفة للحياة. فالرُّؤية الوجودية للموت تهتم بمعناه ‏الخاص عند الإنسان الوحيد من بين المخلوقات الذي يدرك أنه سيموت ويذهب إلى ‏مصير غامض يلغي فصول حياته كما رأى الفيلسوف الفرنسي (باسكال) حينما قال: ‏‏(أفكر في المدى القصير لحياتي الذي يلتهمه الأزل الذي سبقه والذي يليه، وفي الحيِّز ‏المحدَّد الذي أشغله. أحسُّ بالخوف أنَّ الفصل الأخير لعين، يُهال بعض التراب على ‏رأس المرء، وهذا هو كل الأمر بالنسبة له إلى الأبد). بخلاف (أسبينوزا) وقد رأى أنّه ‏من غير الممكن تدمير العقل البشري بشكل نهائي مع الجسد، ويرى أنّ جزءًا من ‏العقل البشري يبقى خالدًا، ولا يمكن تحديد انتهاء العقل مع موت الجسد، فهو يعتقد أنَّ ‏العقل أزلي، وهذه رؤية تشابه رؤية (هرقليطس) المؤمن أنَّ الموتَ جزءٌ من الحياة ‏وأنَّ الخوفَ منه أمرٌ لا داعي له.‏

من هنا نجد أنَّ كتابة الموت في الرِّواية منحى لا يمكن فصله عن الفلسفة، فهذا التَّعالق ‏قادم من إشكاليّة الموت من جهة، وإشكاليّة التفكُّر فيه بحدِّ ذاته من جهة أخرى. فمن ‏الروائيين مَن يراه ذهاب إلى العَدم، ومنهم مَن يراه ذهاب إلى حياة أخرى وأنَّ ثنائيّة ‏تجمع الموت بالحياة مثل سائر معظم الثنائيّات التي تؤثث العيش كثنائيّة الخير والشر، ‏والليل والنهار، والدفء والبرد. ‏

تُعدُّ موضوعة الموت في الرِّواية من أهم الموضوعات التي شغلت الكتاب، فمنهم مَن ‏استلهمها لتوجيه نقد لاذع للواقع، ومنهم مَن كتبها عبر وعيه الوجودي بفكرة الموت، ‏ومنهم مَن اتَّخذها كتقنية يقوم عليها السرد. ‏

وهنالك الكثير من الكُتّاب العالميين والعرب الذين خاضوا هذه التجربة على سبيل ‏المثال لا الحصر "جوزيه ساراماغو" في روايته (انقطاعات الموت)، و"ليو ‏تولوستوي" في روايته (موت إيفان إيليتش)، وكذلك (سارقة الكتاب) للأسترالي ‏‏"ماركوس زوساك". أمّا الكُتّاب العرب فقد لمسنا موضوعة الموت في رواية (حديث ‏الصباح والمساء) لنجيب محفوظ، وفي رواية (الوتد) لخيري شلبي، وكذلك في رواية ‏‏(انحراف حاد) لأشرف الخمايسي، وفي رواية (حدَّث أبو هريرة قال) لمحمود ‏المسعدي وفي (تراب الغريب) لهزاع البراري. ورواية (سحب الفوضى) ليوسف ‏ضمرة وفي رواية (نزلاء العتمة) لزياد محافظة.‏

‏"نزلاء العتمة" و"تراب الغريب" أنموذجان روائيان استلهما موضوعة الموت؛ وهما ‏موضع هذه القراءة.‏

نقد الحياة عبْر موضوعة الموت

‏"نزلاء العتمة" لزياد محافظة أنموذجًا

يذهب الرِّوائي والقاص الأردني زياد محافظة، في روايته (نزلاء العتمة)، إلى ‏موضوعة الموت، لا من باب مساءلته، أو مجابهته، بل لمساءلة الحياة ذاتها، والدفاع ‏عنها باشتقاق الجديد منها، عبر ما يمكن أن يُقال إنَّهُ أهمّ وأكثر أشكال المصائر ‏الإنسانية تعقيدًا، منتهجًا -مؤلف الرِّواية- ما يمكنني أن أسميه "تناظريّة الحدث"، ‏بحيث بُنيت الرِّواية على هذا الأسلوب التقابلي، لصورتين مغايرتين، فاشتُقّ منهما ‏جملة من العناصر المُؤثِّثة، وبالتالي الخروج بشكل آخر بين هاتين الحالتين ‏المتناظرتين، وقد أنتجتا حالة ثالثة، أو طريقًا ثالثةً لمقترحٍ حياتيّ، لا يركن في باب ‏موازاة السائد، إنّما الخروج عليه، برؤية جديدة. وهذا أهمّ ما يمكن أن يجعلني أتمسك ‏بكون الفن الروائي تجاوزًا للمألوف، وخروجًا عليه لابتكار شكل آخر، لا محاكيًا ولا ‏موازيًا، بل خارجًا على السائد، وعلى كل ما يمكن أن يركن له. ‏

‏-‏ الحكاية

تدور أحداث (نزلاء العتمة)، في عالم الموت، والجغرافية المكانيّة والمعنويّة، لعالم ‏المقابر. إذ ينتقل (مصطفى)، الشخصية المحورية في الرِّواية -والتي حملت كثيرًا من ‏عناصر المقولة الروائيّة لنزلاء العتمة- في عصاري يوم ماطر، من الحياة إلى ‏الموت، إثر تعذيب تعرَّض له في المعتقل، بعد أن ردَّد هذه العبارة المهمة:‏

‏"لستُ أبحث عن موتٍ باهتٍ، فحتى الموت أحبُ أن يكون شهيّ المذاق". ‏

تاركًا خلفه زوجته (أماني) الحامل بولد، سيسمّى فيما بعد (حسان) والذي سيكون أحد ‏شخصيات الرِّواية الرئيسة، القابلة للإسقاط، والتأويل، مثلها مثل أكثر من شخصية في ‏هذا العمل. وبتلك العبارة التي افتُتحت بها الرِّواية، أسَّس زياد محافظة للملمح الأوّل ‏والأهم في شخصية (مصطفى)، وهو عدم الركون لسوط الجلاد، ومواجهة سلطة ‏التعذيب، بسلطة المجابهة، وأخَذَ القارئ يسير عبر بوّابة الحكاية، ميمِّمًا نحو تفاصيل ‏مختلفة عن الموت الذي يعرفه بنو البشر، عبر تصوُّرهم المخيالي، دينيًّا، واجتماعيًّا، ‏وتاريخيًّا. ‏

يوغل القارئ أكثر بالحكاية، عندما يغادر (مصطفى) سكينة قبره، بعد أن ترك وراءه ‏عالم الحياة، وقد مني جزء من أيامه فيها بالقضبان، والجلاد وسوطه، وتلك ‏المداهمات النفسية، التي تبدو أكثر إيلامًا من ضربات السوط، والركلات، وكل ما ‏يمكن أن تصنعه أدوات التعذيب. إذ يترك (مصطفى) قبره نزولًا عند رغبة (الفضيل) ‏أحد أهم شخصيات الرِّواية، لاستقبال زائر (ميت) جديد، فيكتشف (مصطفى)، ومعه ‏القارئ بالطبع، الشكل الذي أراده الروائي، للموت، ألا وهو الشق التناظري الذي يقابل ‏الحياة. ففي هذا العالم -الذي ندرك عبر لغة الرِّواية واسترسالها، أنه رطب، وحالك، ‏وتسوده سكينة تهيمن على مَن أمضوا عمرهم في صراع مع أحلامهم وأمنياتهم، ‏ودفاعهم عن الحياة- تتحرَّك عدد من الشخصيات بتباين في مقبرة يرسمها زياد ‏محافظة كعالم مكتمل العناصر، لكنه غير منقطع عن عالم الحياة، فشخصيات الرِّواية ‏تستعيد حيواتها، وحكاياتها وكيف مات كل واحد منهم. ‏

في طقس يومي، يتقاطع مع طقس استقبال المعتقلين الجدد في السجون، يستقبل ‏الموتى زائرًا جديدًا، وعلى رأس المستقبلين يقف (الفضيل)، هذا الذي أيضًا يشبه قائدًا ‏سياسيًا معتقلًا، إذ نتعَّرف على تلك اللحظة الانتقالية، التي تحدث للزائر الجديد، ‏المحمّل بالخوف من الموت، وبالأسى على فقده لحياته، فيختطّ مؤلف الرِّواية، الطريق ‏السردية للفضيل، لتتبدى لنا شخصيته الأبوية، وملامحه ككائن مرجعي لنزلاء ‏المقبرة، حتى إنَّ قبره أكثر سعة من باقي القبور، وهذه إحدى الإشارات المهمّة في ‏سياق دور وشخصية (الفضيل). لكن زياد محافظة، وربّما عن قصد، رسم تلك ‏الشخصية على نحو شبحي إن أجيزت لي التسمية، بحيث يمكن للتأويلات أن تتعدَّد ‏حيال هذه الشخصية المُربِكة بكل إحالاتها المعنوية، والمعرفية، والمجازية، والشكلية.‏

تنتهي مراسم استقبال الزائر الجديد وينفضّ الموتى وقد عاد كل منهم إلى قبره/ ‏مسكنه، دون ملامح، ولا أدري أيضًا، هل عمد صاحب الرِّواية لتجنُّب الوصف ‏التفصيلي/ الرسم المشهدي لشخوص الرِّواية، بحيث تتطابق نتائج ما عمد إليه، مع ‏الفكرة الشبحيّة للموت ولعناصره وأهمها الميت. وإن فعل ذلك بقصد فقد أحدث نقطة ‏منطقية في غاية الأهمية، وكتب ما رمى إليه، بالصدق الذي يُعتبر أهم عوامل نجاح ‏الأعمال الروائية. ‏

تحدث العلاقة بين (مصطفى) و(الفضيل) عبر مسلك هادئ يتنامى فيما بعد، حيث ‏يقرّب الفضيلُ (مصطفى) منه، وهذه خطوة لا تحدث لكل نزلاء تلك العتمة، فيأخذه ‏في جولة في عالم الموت والمقبرة، كأنه يعمِّده، بروح زمن جديد، فتحدُث الانعطافة ‏المهمّة بحياة (مصطفى) في عالم الموت، إذ يتعاطى مع قبره ولحظاته فيه، بحيوية ‏معنوية ومادية، تشي بدفاعه عن حريته، وحقه في العيش حتى في عالم كهذا. ‏

يتعرَّف (مصطفى) بـِ(أم طه) التي تنظر إلى (الفضيل) من زاوية مختلفة عن باقي ‏الشخصيات، فتكشف لـِ(مصطفى) جانبًا جديدًا من شخصية (الفضيل)، ألا وهو أسى ‏يقع رهينة له بسبب عزلة يعيشها (حسان)، إذ يمضي جلّ وقته حزينًا يجلس مصابًا ‏بالسهو والشرود. فتطلب من (مصطفى) أن يتكفّل بمهمّة اختزال ذلك الأسى من ذلك ‏الولد الصغير. تأخذ حياة (مصطفى) في عالم الموت شكلًا آخر منذ أن أخذ يتدبّر أمر ‏‏(حسان)، ثم تظهر شخصيات أخرى مناهضة لكل سلوكات (مصطفى) المتقاطعة مع ‏عالم الحياة، وأهمها شخصية (ياسين) وجماعته الذين عارضوا ما رأوه تعكيرًا لصفو ‏موتهم، ومخالفة للسائد. تمضي الحكاية ما بين استعادة مصطفى لسيرته سجينًا في ‏عالم الحياة، ومصابًا بأسى عدم رؤيته لابنه قبل أن يموت، وما بين عالم المقبرة الذي ‏أخذ يؤثثه بوعيه الحياتي. تولد شخصيات جديدة في الرِّواية إثر انتقالها من عالم ‏الحياة، وتبدأ حكايات جديدة تتقاطع ببعضها بعضًا على الرغم من اختلافاتها، مثل ‏شخصية الشاعر وعازف الناي، فيأخذ (مصطفى) بتأثيث عالم المقبرة بالضوء عبر ‏شموع عثر عليها هناك، وبالشِّعر والموسيقى بعد أن أقنع الشاعر أن يقوم بالعزف ‏على الناي. تتصاعد الأحداث بعد أن تتم المواجهة فكريًا وماديًا بين (مصطفى) ‏وجماعته الداعين لمقاطعة الموت بالحياة، وبين (ياسين) وجماعته المناهضين للفعل ‏الذي رأوه خروجًا على السائد، يخالف ارتدادهم للكلاسيكي والموروث. لكن وسط ‏تنامي هذه المواجهة يبدو (الفضيل) صاحب الشخصية الأبوية، والصفة المرجعية، ‏وحكيم العتمة، محايدًا لا يقدِّم أيّ جهد في ترجيح كفة المواجهة، وربما عمد زياد ‏محافظة لهذا الشكل من المواقف في روايته، ليضفي على الشخصية صفة تأصيلية ‏لهذه الشخصية المرجعية، لتدمغ بملمح ديمقراطي يحيل النتائج إلى ضرورتها ‏الصراعاتيه المعرفية. لكن في هذا المفصل يختلط الأمر على القارئ بحيث يتقاطع ‏عالم الحياة بعالم الموت، وتختلط التفاصيل. ‏

على نحو مفاجئ تظهر شخصية الجلاد وقد كان يمارس فعل القهر ضد (مصطفى) ‏في عالم الحياة، ويأخذ الصراع يتنامى لدى الشخصيتين، إلى أن يعترف الجلاد ‏لـِ(مصطفى) بندمه على ما فعل، لكن (مصطفى) بدا منحازًا للحرية والحياة بدلًا من ‏انحيازه لثقافة الانتقام.‏

يدعو (مصطفى) بعد أن يتمكّن من كسر حاجز الأسى الذي يلوذ به (حسان)، وبالتالي ‏‏(الفضيل)، إلى حفلة موسيقية، وشعرية، وفعلًا يحدث ذلك على الرغم من معارضة ‏‏(ياسين) وجماعته، فتأخذ الحياة في عالم المقبرة إلى التحوُّل والانعطاف نحو الضوء ‏والشعر والموسيقى والحكمة، فيتبدّل حال (حسان) و(الفضيل) و(أم طه)، لكن جماعة ‏‏(ياسين) أخذوا بالمناهضة المادية، فتعرّض (مصطفى) للضرب، ووُجِّهت تهديدات ‏للشاعر ولـِ(أم طه) ولآخرين بعدم التعاطى مع هكذا سلوك.‏

ثمّة شخصية مفاجئة اسمها (فدوى) تنهي الرِّواية، بحيث تقدِم (فدوى) على الانتحار ‏وهي تقف على حافة البحر، بعد أن عرفت امرأة تمسك بصورة وتبكي ولدها الميت ‏واسمه (حسان)، فيكتشف القارئ بعد أن عرفت (فدوى) حسانًا، أنَّ (حسان) ليس ابن ‏‏(الفضيل)، إنّما هو ابن (مصطفى) الذي طالما تمنّى أن يرى ابنه ويمنحه شيئًا من ‏الفرح. ‏

‏-‏ الرُّؤية المُشتَقة

انتهج زياد محافظة في روايته هذه، فعل تقابل العوالم والمصائر بعضها ببعض، عالم ‏الحياة مقابل عالم الموت، الضوء مقابل العتمة، الحرية مقابل التطرُّف، الوعي مقابل ‏الانغلاق. وبنى روايته على هذا الأساس الذي وجدتُه متينًا إلى درجة لم يدع القارئ ‏متفرجًا، بل شريكًا في صياغة الحدث. بحيث أزال بتصوُّره وبمخياله الروائي شيئًا ‏من الخوف الذي يلفّ فكرة الموت في ذهن الآدمي. وصاغ عالم المقبرة صياغة أدت ‏إلى ابتكار شكل ثالث للحياة، تشير تفاصيله إلى تمجيد فكرة الحرية، والوعي، ‏والإعلاء من مشاعل الأحلام، وعدم النكوص قبالة أيادي العبث وهجمات الظلاميّة. ‏فقراءتنا لشخصيات الرِّواية تشي بعالم مكتمل على الرغم من أنَّ حاضنته المقبرة؛ ‏عالم تأثَّث بفكرة الضوء والشعر والموسيقى والحكمة والفن، الذي كانت أداته مسمار ‏عثر عليه مصطفى في قبره. فقد عمد زياد محافظة إلى مقولة استخلاصيّة مهمّة ‏للرواية مفادها أنَّ الحياة هي الحلّ الأمثل حتى في عقر الموت، وأنَّ نزوع الإنسان ‏يجب أن يكون دومًا نحو الوعي، والحرية والحوار، وهذا ما تقاطعت به شخصية ‏‏(الفضيل) وقد بقيت محايدة، لم تتبنَّ فكرة البطش والقوة المضادة، حتى في ظلِّ تنامي ‏البطش المتطرِّف من جهة جماعة (ياسين)، هذه الجماعة القابلة للتأويل، مثلها مثل ‏شخصية (الفضيل) نفسها. ‏

 

كتابة الموت كسؤال وجودي

‏"تراب الغريب" لهزاع البراري أنموذجًا

جاءت رواية تراب الغريب للروائي والمسرحي الأردني هزاع البراري على شكل ‏مشاهد روائية متداخلة؛ إذ يختلط صوت السارد بصوت الشخصيات ويتماهون ‏ببعضهم بعضًا، هذا التماهي الذي من خلاله نلمس موقفهم من ثنائية الحياة والموت، ‏موقف الشخصية المثقفة، وموقف السارد المأزوم بعديد من القضايا؛ إذ إنَّ سؤال ‏الموت في هذه الرِّواية ليس سؤالًا اعتباطيًّا، إنَّما هو سؤال وجودي يشير إلى قلق ‏السارد والشخصيات، وقلق المؤلف نفسه. فالمتابع للعديد من روايات ومسرحيات ‏هزاع البراري لا بد أن يلاحظ اهتمامه بموضوعة الموت كجهة أخرى للحياة. ‏

فالعنوان (تراب الغريب) يحيل إلى تأمُّل المفردتين ضمن موضوعة الموت عبر ‏الثنائية التي تقوم عليها الحياة، وبالتالي تقوم عليها هذه الرِّواية. فالتراب حضن البذرة ‏التي تصعد منها الشجرة رمز الحياة، وكذلك هو الحضن الأبدي الذي يضم جثث ‏البشر. والغريب مفردة تطلَق على العابر، والعابر شخص له انتماءات في مكان آخر. ‏وغريب هزاع البراري وجودي له انتماءات خارج نطاق الكون شأنه شأن العديد من ‏المنتمين فكريًّا على وجه هذه البسيطة. فهو يرى الحياة كما رآها (غوته) "حيلة ‏الطبيعة لضمان المزيد من وفرة الحياة"، فقد بقي طوال النص الروائي غريبًا دون اسم ‏حتى عن نصِّه؛ إذ إنّه ينزع إلى فضاءات جديدة. ‏

تتحرَّك شخصيات (تراب الغريب) في أكثر من مكان (بيروت، عمّان، الكويت، ‏العراق، القدس، نابلس، السلط) وفي سياق ذهني مأزوم، لكن ثنائيّة استثنائيّة ميَّزَت ‏هذا العمل ألا وهي حوارات الرجل مع المرأة حيال الحياة والموت، على الرغم من أنَّ ‏الرِّواية تضمَّنت أكثر من نموذج من الشخصيّات مثل المتديِّن، والملحد، والبدوي، ‏وابن المدينة. ‏

تبدأ الرِّواية بجملة على لسان السارد: "هذا قبري". ثم يُدخلنا في حوار مع (ثريا) ‏ويتَّجه بنا إلى حديث حول الموت بعين على الحياة وعين أخرى على فكرة الموت بحدّ ‏ذاتها. وتمضي بنا الرِّواية عبر مشاهدها القصيرة نوعًا ما لنكتشف موقف الشخصيات ‏من الموت، وموقف السارد نفسه وكأنه أراد أن يحيلنا إلى استحالة تجزئة موقف ‏السارد عن موقف الشخصية وتقاطع هذا الموقف مع استحالة تجزئة الموت عن ‏الحياة. ‏

لكن السؤال الذي يبرز ونحن نقرأ (تراب الغريب)؛ ما الذي يريده هزاع البراري من ‏ملازمة هذه الموضوعة؟

إنه القلق الوجودي الذي يدفع الكاتب وبالتالي شخصيّاته الروائيّة إلى التساؤل حول ‏الموت وعلاقته بالحياة. فمن خلال تفاصيل الواقع الذي نجده في هذه الرِّواية مأزومًا ‏يلحُّ سؤال الموت كواحد من أهم أسئلة الوجود الكبرى، وربَّما يتساءل القارئ بشكل ‏موازٍ وهو يرى الموت يطارد شخصيات الرِّواية عن كونه سلطة مطلقة وهو يتجلّى ‏بأشكال عديدة، فالموت في (تراب الغريب) ليس فقط الموت البيولوجي وعوالم ‏المقابر، إنَّما هنالك أشكالٌ أخرى ظهرت من خلال إحساس عدد من الشخصيات ‏بالموت على الرغم من حركتها على أرض الحياة، وهذا بالتأكيد مردُّه إلى أزمة الواقع ‏الذي صاغ هذه الشخصيات على هذه الشاكلة. وربَّما أراد الروائي التطرُّق إلى علاقة ‏الروح بالجسد وكيف يمكن أن تؤول الحال عند مرض أيٍّ منهما. فالهزّات الكبرى ‏عربيًّا -كهزيمة 67- أنتجت تشظّيًا داخليًّا على المعمار الإنساني العربي الداخلي، وها ‏هو ينسحب على بنية النص عند هزاع البراري ومن قبله (تيسير سبول) و(مؤنس ‏الرزاز) وآخرون. وهذا التشظي واحد من أسباب كتابة الموت في الرِّواية العربية، ‏حيث إنَّ الأزمة لم تطل الجسد فقط، بل طالت الروح أيضًا؛ الأمر الذي دفع بعدد من ‏الكتاب للانتحار مثل الروائي تيسير سبول الذي كتب على أثر هزيمة 67 روايته ‏الحداثويّة (أنت منذ اليوم) ثم أطلق الرصاصة على رأسه منهيًا حياته.‏

كُتب الموت في (تراب الغريب) بلغة محمَّلة بشعريّة عالية، وبعيدًا عن الرعب الذي ‏يصيب الآدمي جراء التفكير بموضوعته، فلم نكن أمام سوداويّة كسوداويّة (كفاكا) بل ‏تقترب من روح (سارتر) في مقاربة هكذا موضوعات، ويمكننا القول هنا: إنَّ هزاع ‏البراري ذهب إلى ما يمكن تسميته جمالية كتابة الموت. فـَ(نسرين) إحدى شخصيات ‏العمل واجهت موتها بعيدًا عن طقس الرُّعب المعتاد، بل رأت فيه ذهابًا إلى ضفّة ‏أخرى يعوّل عليها. وربّما لا يتقبّل القارئ هذا المنحي في التفكير، لكن الشخصية هنا ‏نتاج وعي المؤلف وبالتالي صياغة روايته على هذا النحو الإشكالي، بخلاف المصير ‏الذي آلت إليه (ثريا) وابنها حينما قتلتهما القبيلة وفق قوانين منظومتها الاجتماعية ‏المتشدِّدة.‏

من خلال معاينة الرِّواية لمواقف الشخصيات من الموت نجد أنَّ الكاتب ذهب بنا إلى ‏ما هو أبعد ممّا يسبق الموت من ألم جسدي وروحي، فقد رأى أنَّ الموت والحياة ‏يمرّان بالألم ذاته، وما نشاهده من وجع المحتضر يشبه آلام المرأة عند المخاض الذي ‏فور انتهائه سيقود إلى الراحة الأبديّة، وموت الألم نفسه. ثمّة عبارة أتت في الرِّواية ‏تشير إلى ما ترمي إليه (تراب الغريب) من وراء ملازمة موضوعة الموت: "القسوة ‏ليست في الموت، الموت شهوة لا بدّ أن تأخذنا، القسوة أن تسجن روحك في مدفن ‏قصيّ موحش".‏

خلاصة

وفي النهاية، لا بدّ من القول إنَّ سؤال الموت من أهم أسئلة الوجود الكبرى التي تشغل ‏الروائيين، والتي قاربوها من أكثر من زاوية، ونظروا إليها عبر أكثر من توجُّه سواء ‏كان أدبيًّا، أم فلسفيًّا، أم علميًّا، أم فانتازيًّا. إنها الموضوعة التي كانت وما زالت ‏وستبقى تشغل الروائيين وتدفعهم إلى إطلاق أسئلتهم الخاصة وتفكُّراتهم حيال مصير ‏سيؤول إليه كل إنسان، هذه التفكُّرات التي كانت أمرًا كبيرًا في حيِّز تفكير كثير من ‏الحضارات والفلاسفة، وشغلت وما تزال تشغل حيّزًا واسعًا من تفكير الإنسان الذي ‏سيبقى يتساءل عن سرِّ حياة يأتي إليها بغير إرادته، ويغادرها بغير إرادته. ‏