العلاج بقراءة السِّيَر والملاحم والحكايات

محمد محمود فايد

باحث في الأدب الشعبي وعلم النفس- مصر

 

تتجاوز قراءة الحكايات مجرّد التطور اللغوي، فتقود الإنسان عمومًا، والأطفال ‏والطلبة خصوصًا إلى تنمية الذكاء الاجتماعي والتطور الوجداني، بل وتقوّي، الخلايا ‏العصبيّة بالمخ. فاكتشف العلماء والباحثون أنَّ قراءة القصص والحكايات تفيد الأطفال ‏والطلبة في ممارساتهم وتفاعلاتهم الاجتماعيّة في مواقف الحياة المختلفة، وتساعدهم ‏في إدارة طاقاتهم ومشاعرهم بشكل إيجابي. وتلعب القدرة العاطفية للمخ دورًا مهمًّا ‏في اتجاه الإنسان إلى التفكير والتعلم عن طريق الحكايات.‏

 

على الرغم من أنَّ قراءة الحكايات لم تزل تُعتبر نشاطًا ترفيهيًّا ممتعًا، إلا أنَّ أحدث ‏أبحاث ودراسات علم الأعصاب ‏Neuroscience‏ تثبت أنَّ قراءة القصص ‏والحكايات الخياليّة والواقعيّة ينطوي على الكثير من الفوائد الطبيّة، والحكم النفسيّة ‏والاجتماعيّة، وأنها إذا أحسن توظيفها، تربويًّا وتعليميًّا، فإنه يمكن للآباء، والمربين ‏أن يعالجوا، من خلالها، مواطن الخلل النفسي والاجتماعي عند أبنائهم، وطلابهم، بل ‏وأن يستفيدوا هم شخصيًّا منها، حيث تُيسِّر للجميع النمو النفسي السليم، والتكيُّف ‏الاجتماعي السريع، والذكاء العاطفي العالي. وذلك لأنَّ عمليّة القراءة، ليست مجرَّد ‏نشاط منفرد، بل عمليّة اجتماعيّة، ترتبط بالقدرة المتزايدة على التعلُّم الدائم، وفهم ‏الناس، ورؤية الأحداث، من زوايا كثيرة مختلفة. الأمر الذي يؤدي لزيادة الخبرات، ‏وينمّي القدرات العقلية في إجراء عمليات تفسير وفهم القضايا، وتحليل المشكلات، ‏ويسهم في تكوين تفكير نقدي وإبداعي، يكفل الوصول إلى الحلول السليمة والأساليب ‏الناجحة، بل ويؤهِّلهم لاكتساب المزيد من المهارات النفسية، كالالتزام، والانضباط، ‏وتحمُّل المسئولية، وصولًا لمرحلة الرُّشد بشكل سلس ودون حدوث أخطار، أو ‏مشكلات كبيرة. ‏

تتجاوز قراءة الحكايات مجرّد التطور اللغوي، فتقود الإنسان عمومًا، والأطفال ‏والطلبة خصوصًا إلى تنمية الذكاء الاجتماعي والتطور الوجداني، بل وتقوّي، الخلايا ‏العصبيّة بالمخ. فقد خُلق المخ، بحيث يجري العمليات العقلية العليا، كالتفكير والتعلم ‏والتذكر، وفقًا لعملية السرد القصصي، بغضّ النّظر عن موضوعها. ‏

كانت الدراسات الإنجليزية، قد كشفت أنَّ لقراءة القصص والحكايات الخيالية ‏والواقعية، فوائد عديدة، تتجاوز كثيرًا عملية التطوُّر اللغوي. وذلك بعد أن قام العلماء ‏والباحثين بتطوير دراسات علم الأعصاب، في السنوات الأخيرة، وخاصة في ما يمكن ‏للمخ أن يتعلمه، وربطوا نتائج الدراسات الحديثة، بالبحوث القديمة، في مجالات: ‏التعليم، علم النفس، علم اللغويات، علم الأعصاب. فاكتشفوا أنَّ قراءة القصص ‏والحكايات تفيد الأطفال والطلبة في ممارساتهم وتفاعلاتهم الاجتماعيّة في مواقف ‏الحياة المختلفة، وتساعدهم في إدارة طاقاتهم ومشاعرهم بشكل إيجابي، ودون هدر ‏لها، فيما لا طائل من ورائه، بل وتعمل على تقوية الخلايا العصبية بالمخ، وبالتالي، ‏يتيسّر لهم التقدُّم الاجتماعي والتطوُّر الوجداني، وتزداد معارفهم وأفكارهم وخبراتهم ‏وقدراتهم على فهم الأحداث، وتفسير دلالاتها الثقافية والاجتماعية برؤى ثاقبة، فضلًا ‏عن تنمية ذكائهم العاطفي، شريطة توظيفها في العمليات التربوية والتعليمية. مما أدى ‏بالتربويين، وخبراء التعليم، والمعلمين إلى تكريس الجهود وتضافرها في مساعدة ‏الطلبة على تطوير قدراتهم، من خلال تبنيهم للرؤى والأفكار اللازمة لتكوين تفكيرهم ‏النقدي والإبداعي، بالإضافة إلى إرشاد المعلمين للطلبة، إلى الدور الذي تلعبه القصص ‏في عمليات التطوير الاجتماعي والوجداني، وكيفية معالجة الذاكرة للمعلومات، وسبل ‏ربطها بمجريات الحياة، والاستفادة منها، بحيث يتدرّبوا على تحمُّل المسؤوليّة ‏الاجتماعية وتبعات الحياة، بشكل فعّال وبنّاء. ‏

 

الحكمة الاجتماعيّة

لا شكَّ أنَّ القَصّ، من أقدم وأهمّ أشكال التواصل الإنساني، فقبل التطوُّر اللغوي، رسم ‏إنسان العصور الأولى، صورًا ونقوشًا وخطوطًا على جدران الكهوف، وغيرها، ‏تسجيلًا لتاريخه، ورسالة لأحفاده والأجيال المستقبلية ليعرِّفهم بحضارته. الأمر الذي ‏يظهر لنا الآن مدى الاهتمام الإنساني منذ العصور الأولى بظواهر وأحداث الحياة. ‏يبدو أيضًا، أنَّ ذلك الوعي الذاتي للإنسان، يرتبط بعملية السرد القصصي، وأنه سمة ‏إنسانية أساسية، وخصيصة بشرية فريدة. وخلافًا للكائنات الحيّة الأخرى، يستطيع ‏الطفل التمييز بين نفسه والآخرين. ويبدأ هذا منذ عمر عامين. وهو أيضًا العمر نفسه ‏الذي يبدأ فيه فهمه للحكايات، والتعاطف مع أبطالها وشخصياتها. ‏

وفي مرحلة الطفولة المتأخرة، يقوم الأطفال بتطوير وإبداع حكاياتهم وقصصهم ‏الخاصة وفقًا لتنشئتهم وأحداث حياتهم، ومدى ثراء بيئاتهم بالمثيرات والأفكار، بحيث ‏تمكنهم هذه القصص من فهم أنفسهم وتاريخهم وحياتهم، وهم يستخدمون قصصهم ‏كوسيلة للمشاركة المعرفية والإحاطة بالعلاقات الاجتماعية، بل وتوسيع دوائر هذه ‏العلاقات وإثرائها. ‏

عمومًا، تكتسب الحكايات والقصص فعاليّة خاصة في بناء العلاقات الاجتماعية ‏‏"لأنها، بالإضافة إلى تقديمها، معرفة واقعية، فهي تمكِّن القراء من محاكاة الخبرات ‏ومعايشتها، من خلال المبدع/ الراوي. وجدت "ليزا والن"، من خلال دراستها عام ‏‏2010، ارتباطًا إحصائيًّا معتبرًا بين عدد القصص التي قرأها طلبة الجامعة، وبين ‏قدرتهم على محاكاة خبرات أبطالها وشخصياتها، كما كشفوا عن قدرة عالية على ‏الخيال. وأنّ خيالهم يرتبط بقدرتهم على محاكاة خبرات الأشخاص الآخرين في الحياة ‏الواقعية، ممّا يعدُّ عاملًا جوهريًّا، دالًّا على ارتباط التعاطف والكفاءة الاجتماعية ‏بارتفاع درجاتهم في: الخيال، والذكاء العاطفي، والذكاء الاجتماعي، وذلك بعد أن ‏قدَّمت لهم، ثلاثة نماذج من التطبيقات العقلية للتفاعل الاجتماعي، هي: محاكاة عوالم ‏الشخصيات، ومحاكاة مشاعر الشخصيات، ومحاكاة سلوك الشخصيات(1). ‏

في دراسة أخرى، وجد ("كوبلان" وآخرون) أنَّ قرّاء الحكايات، يحاكون خبرات ‏أبطالها وشخصياتها، ويتوحدون معها، خاصة الأبطال الجوهريين، مثل: سندباد، ‏علاء الدين، سندريلا، لدرجة قد يتمثل معها الأطفال/ الطلبة/ القراء، بعض الأحداث ‏في حياتهم الواقعية، أو يضيفوا إليها بعض الأفكار من وحي خيالهم وإبداعهم الخاص. ‏وكلما كانت الشخصية في قلب الأحداث وتلعب دورًا مؤثرًا فيها، كلما أعجبوا ‏ببطولتها، وحاولوا محاكاتها، وأقدموا على تعلم تفاصيلها وممارسة حيلها وخبراتها. ‏وبقدر ثراء حياة الأبطال بالتفاصيل والأفكار، بقدر الإقبال على محاكاتها وسرعة ‏تعلمها، وتمثلها، وتطبيقها على أنفسهم، وبالتالي تزداد كفاءتهم الاجتماعية وقوتهم ‏النفسية في مواجهة المسؤوليات وتبعات الحياة. وطبقًا لدراسة "مار" و"كاتلي"، تدرِّبنا ‏قراءة الحكايات على توسيع فهمنا للآخرين، وتجسيد وفهم عاداتهم ومعتقداتهم ‏ومعارفهم، والتفاعل مع مشاعرهم وعوالمهم.‏

 

‏ الأسس الفسيولوجية

تلعب القدرة العاطفية للمخ دورًا مهمًّا في اتجاه الإنسان إلى التفكير والتعلم عن طريق ‏الحكايات، وتوظيفها كتطبيق لزيادة كفاءته الاجتماعية، حيث يحتوي المخ على الخلايا ‏العصبية العاكسة ‏Mirror neurons‏ التي تدفع القراء والمتلقين لتقليد ومحاكاة ‏سلوك أبطال وشخصيات القصص والحكايات، ويعد هذا بمثابة، الشكل الأولي ‏للتعاطف. وتوضِّح صور مسح المخ، أنّ مناطق المخ نفسها التي تتحفّز من خلال أداء ‏فعل ما، يتم تحفيزها أيضًا من خلال القراءة، وتوضح التجارب أنه عندما تعبِّر ‏الشخصية القصصية عن انفعال ما، مثل العبوس، فإنّ الخلايا العصبية العاكسة ‏للقراء، تستجيب تلقائيا دون وعي بالعبوس أيضًا. وعادة ما ترتبط العضلات ‏وحركاتها بالوصلات العصبية والدماغية اللازمة للاستجابة بالعبوس، كنتيجة لمثيرات ‏الحزن. لذلك، يشعرون بالحزن بمجرّد بدء قراءتهم لشخصيات الحكايات وأبطال ‏القصص. ووجدت العديد من الدراسات أنّ الحكايات تثير لدى قرائها مزاجًا اجتماعيًّا ‏يؤهلهم لفهم العلاقات الاجتماعية بشكل أكثر عمقًا وتأثيرًا من الكتب الأكاديمية ‏والدراسات التحليلية، فيما يخص زيادة المعرفة بالأمراض العقلية والنفسية وزيادة ‏التعاطف مع الذين يعانون منها. كما أوضحت الأبحاث أنّ طلبة المرحلة الثانوية الذين ‏قرأوا حكايات خياليّة، كانوا أكثر تقبُّلًا للأشخاص المختلفين عنهم، وأقل تمييزًا دينيًّا ‏وإيثنيًّا، وأقدر على التكيف الاجتماعي. ‏

 

تنمية الذاكرة والذكاء

يتم تخزين المعارف المكتسبة من الخبرات المحاكاة والمستلهمة من القصص في ‏الذاكرة طويلة المدى ‏Long term memory‏ وهي تتكون من الأحداث والكيفيات ‏التي تواجه من خلالها شخصيات وأبطال الحكايات والسِّير مصائرها، ممّا يشكل ‏للقارئ معرفة ضمنية يختزنها في ذاكرته، ويضمّها إلى رصيده من الخبرات ‏والتجارب والمعارف والأفكار، بل ويستدعيها وقت الحاجة ويستخدمها خلال ‏مواجهاته لمواقف الحياة المختلفة، ووفقًا لكثافة هذه المواقف تكون قوة استدعاء هذا ‏الرصيد من حلول وكنوز الحكايات والسير الشعبيّة، والتي تؤدي، غالبًا، إلى حلول ‏ونتائج إيجابيّة(2). ‏

في العام 2008، وجد "مار" و"كاتلي"، أنّ الفهم المستخلص من الأحداث الاجتماعية ‏المعقدة في الحكايات، يمكن تعميمه على الكثير من المواقف الحياتية المشابهة، وأنّ ‏القارئ/ الطالب، عادة ما يتعامل "مع كل شخصية في الحكاية كمجاز مرسل، حيث ‏يمثل الجزء الكل، ويمثل الكل الجزء"(3). ولا شك أن القراء قد خزنوا في الذاكرة، ‏بعض المهارات والخصائص التي صاحبت أحداث وأبطال وشخصيات الحكايات، ‏وذلك لاستدعائها وقت الاحتياج الواقعي الفعلي لها. فمثلًا، نجد أنّ الناس قد اختزنوا ‏الظروف والخصائص المصاحبة لشخصية زوجة الأب الشريرة من خلال نموذج ‏زوجة الأب في حكاية سندريلا، وعندما يقابلون هذا النموذج في الحياة الواقعية، فإنهم ‏يعقدون مقارنة بينه وبين ما سبق اختزانه من معلومات ونماذج، ويكيّفون فكرة زوجة ‏الأب ويختزلونها، كما هي مخزّنة في الذاكرة، وبالإضافة لتطبيقها على المواقف ‏الواقعية فإنهم يطبقونها أيضًا على الظروف الافتراضية. يوضح (هاو) في دراسته أنّ ‏القراء، قد يبدأون في تكوين مشاعر تجاه مواقف معينة قد لا تكون في إطار خبرتهم ‏الخاصة.. ويعدُّ هذا التكوين، مرحلة مهمة في عملية تطور معرفة الغير. وترتبط ‏القدرة على محاكاة مشاعر الآخرين، والتنبؤ بسلوكهم، بالإضافة إلى إدارة مشاعر ‏الشخص وسلوكه بازدياد الكفاءة الاجتماعية. وجد كل من (مار) عام 2004، ‏و(هاريسون، ومار) عام 2008، أنه بفضل الدرجة المتطورة من التعاطف لدى ‏القراء تتحدَّد قدرتهم على تحديد السلوكيات التي تؤدي بهم إلى تحقيق النتائج المرجوة، ‏وأنهم يتمتعون بكفاءة اجتماعية أعلى، مقارنة بغير قراء الحكايات. ‏

التوظيف التعليمي

ينبغي أن ينظر الآباء والأمهات والتربويون وخبراء التعليم، بعين الاعتبار، للقصص ‏والحكايات، وتوظيفها في التنشئة الاجتماعية والعمليات التربوية والتعليمية، حيث تؤكد ‏الدراسات أنّ الذكاء العاطفي المرتفع والكفاءة الاجتماعية أكثر أهمية للنجاح العملي ‏والعلمي من الذكاء الأكاديمي والتحصيل الدراسي فقط. وأنّ خبراتنا ومعارفنا بأنفسنا ‏وبالآخرين، وقدرتنا على قراءة الحكايات واستخلاص أفكارها وسلوكيات وقيم ‏ومعايير أبطالها وشخصياتها، تمثل حجر الزاوية في التعليم والركن الركين للنجاح، ‏بل وأهم قوانين النجاح المستقبلي في الحياة العقلانية، والاجتماعية. ويؤكد "جوان ‏فارجو" مدير مدرسة ابتدائية في هولاند هول، أننا حين ندعم التعليم بهذه المهارات ‏الاجتماعية والوجدانية، فإنّ ذلك يؤدي، بدوره، إلى إضافة المزيد من القوة والفاعلية ‏إلى التعليم الأكاديمي. وذلك بعد أن أثبتت الدراسات القدرة المتزايدة لتوظيف الحكايات ‏والقصص، قراءةً وتعليمًا. ‏

وربّما توضِّح البحوث والدراسات المستقبلية أنَّ قراءة الحكايات تقود الطلبة إلى ‏النهايات السعيدة في حياتهم الواقعية، مثلما تقود أبطال الملاحم والسير والقصص ‏والحكايات، فالسعادة ليست حكرًا على الشخصيات الخيالية والافتراضية، حيث ‏للإنسان الواقعي نصيب كبير من الخبرات والتقنيات التي يستدعيها ويستخدمها، وقتما ‏يريد، خلال مواجهاته لحياته وحكاياته بكل أحداثها الواقعية. ‏

‏ ‏

الهوامش:‏

‏(1)‏ ليزا والن: رؤية علم الأعصاب لتدريس القصص، ترجمة تراجي فتحي، ‏مجلة الثقافة العالمية، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، السنة الثلاثين، ‏العدد 171، تموز- آب/ يوليو- أغسطس 2013، ص51.‏

‏(2)‏ محمد محمود فايد: ذاكرتك كيف تنميها وتحافظ عليها؟، الحرية للنشر ‏والتوزيع، ط4، القاهرة، 2003، ص46.‏

‏(3)‏ ليزا والن: ص53.‏