أثر التَّغييرات في قانون الانتخاب على مجريات العمليّة الانتخابيّة

 

جميل النمري

كاتب صحفي أردني ونائب سابق

 

ما زالَ تغيير النِّظام الانتخابي في الأردن من أكثر القضايا سخونة. فمن جهة، يرى ‏كثيرون أنه الوسيلة الحاسمة لتطوير الحياة السياسيّة والحزبية والبرلمانيّة، وبالمقابل هناك ‏رأي يقول إنَّ العلّة ليست في النِّظام الانتخابي، بل في مكان أو أمكنة أخرى، لكنَّ بعض ‏الخبراء يرى أنَّ التغييرات التي جَرَتْ لم تذهب ولا مرَّة بالاتِّجاه الصَّحيح، وكانت تعكس ‏مصالح القوى التقليديّة التي لا تريد تغييرًا. ‏

حتى عام 1993 عرف الأردن نظامًا انتخابيًّا واحدًا، هو الأصوات المتعدِّدة في دائرة ‏متعدِّدة المقاعد. هكذا كانت تجري الانتخابات النيابيّة والبلدية والنقابات. وكانت كل ‏محافظة تشكِّل دائرة واحدة لانتخابات البرلمان لها عدد من المقاعد، ويستطيع الناخب ‏الاختيار من المرشَّحين وبعدد مقاعد الدائرة، وينجح أصحاب أعلى الأصوات. ولا أحد ‏تقريبًا في الدولة أو بين المواطنين كان ينتبه إلى وجود أساليب -أو أنظمة انتخابيّة-أخرى ‏غير ما اعتادوا عليه.‏

وبهذا النظام الانتخابي نفسه، جرت انتخابات العام 1989، وهي أول انتخابات نيابيّة ‏عامة وحرّة تجري بعد غياب طويل استمرَّ منذ العام 1966، وحتى جاءت الانتخابات ‏النيابيّة عام 1993، حين فوجىء الجمهور بشيء جديد وغير مسبوق، هو تغيير النظام ‏الانتخابي ووضْع نظام جديد في القانون، هو نظام الصَّوت الواحد، ولم يتطلَّب الأمر ‏سوى تغيير عبارة واحدة تتحدَّث عن حق الناخب بإعطاء الصَّوت لمرشَّح واحد. لكن أثر ‏التغيير كان هائلًا وصادمًا.‏

 

‏1989: الأصوات المتعدِّدة في دائرة واسعة

لم يمتدّْ النِّظام لدورات أخرى لامتحان تعامل المجتمع معه، فبقيَتْ في الذاكرة تجربة عام ‏‏89 الفريدة التي يُحال تميُّزُها إلى قانون الانتخاب فقط، مع التَّغافُل عن ظروفها ‏الاستثنائيّة، فقد جاءت بعد طول انقطاع ومع انفتاح سياسي وإقبال شعبي واسع ومشاركة ‏حماسيّة من القوى السياسيّة والاجتماعيّة، فجاء البرلمان بنسبة تقارب الثلث من ‏الإسلاميين، ونصف هذا العدد من اليساريين والقوميين.‏

لكنَّ تحليل نتائج الانتخابات من جهة دوائر القرار، أفضى إلى استنتاج بأنَّ هذا النظام ‏الانتخابي يضاعف قوة الإسلاميين أو أيّ فريق سياسي يتفرَّد بالقوة والإمكانات. ذلك أنَّ ‏الناخب غالبًا لا يستعمل كامل حقِّه من الأصوات، بل يستخدم صوتًا واحدًا لابن عشيرته، ‏لأنَّ كل صوت آخر قد يرجِّح فرصة منافس لقريبه، وهكذا فإنَّ النّاخب الملتزم بالحزب ‏السياسي الذي يطرح مرشَّحين بعدد مقاعد الدائرة يمارس أضعاف القوّة التصويتيّة ‏للنّاخب الملتزم بعشيرته، وهكذا فإنَّ حريّة الاختيار لعدد الأصوات التي يمنحها الناخب ‏تخلق تفاوتًا في القوة التصويتيّة لغير صالح المرشَّحين المستقلين العشائريين، فتقرَّر ‏الذِّهاب إلى الصَّوت الواحد لفرض مساواة في القوّة التصويتيّة للناخبين.‏

على الرّغم من هذه الثغرة، فقد كان هذا النظام مناسبًا تمامًا للمجتمع الأردني والسمات ‏التي تطبعه، وهو ما شاهدناه في كل انتخابات بهذا النظام، حيث يمكن مراعاة كل ‏الاعتبارات الاجتماعيّة المعقدة، وتطبيق كل الخبرات. ففي ميدان المجاملة يفتح النظام ‏الباب على مصراعيه لمجاملة كل المرشَّحين طالبي الأصوات، ويمكن وعد أيّ مرشَّح ‏بالصَّوت، ما دام من حق الناخب أن يصوِّت لعدة مرشَّحين. وفي النِّفاق الاجتماعي يمكن ‏للدواوين والمجالس أن تستقبل كل أنواع المرشَّحين، حتى بوجود مرشَّح من العشيرة أو ‏البلدة أو المنطقة أو حتى الحزب، ويمكن تقديم الوعود بالأصوات والمحافظة على ‏الصِّلات، ويمكن لكل فرد أنْ يَصدُقَ مع مَن يشاء، وأنْ يُخلفَ مع مَن يشاء، ويمكن ‏للمرشَّح أنْ يدَّعي الالتزام بتحالف ما وتحميل غيره مسؤوليّة الإخلاف. وليس بالضرورة ‏أن يثق الناس ببعضهم، لكن النظام يبقي باب العلاقات الاجتماعيّة وتواصل الجميع مع ‏الجميع، والطمع بدعمهم مفتوحًا على مصراعية. وهذا مناسب لنمط العلاقات الاجتماعيّة ‏والعشائريّة السائد، لكن هذا الوضع تلقّى ضربة قاسية بتغيير النظام الانتخابي

 

‏1993: الصَّوت الواحد في دائرة متعدِّدة المقاعد ‏

بالتحوُّل إلى نظام الصَّوت الواحد حدث انقلاب مشهود وشامل في سلوك الناخبين ‏والمرشَّحين، وأصبح الوصف السائد لهذا النظام "عدّ رجالك وِارْد الميّ". لم يعُد هناك ‏مجال للرِّهان إلا على القاعدة الأساسية الخاصّة بالمرشَّح، وظهر تعبير "صفر أصوات ‏المرشَّح"، فعندما تقول مثلًا إنَّ المرشَّح الفلاني، صفر أصواته ألف صوت، فذلك يعني ‏أنَّ قاعدته الانتخابيّة العشائرية أو المناطقيّة المضمونة هي ألف صوت، ثم يمكن المجادلة ‏بالباقي. وأصبح من العيب أن تزور ديوان عشيرة لديها مرشَّح لطلب الأصوات، ولا حتى ‏أنسبائهم اللصيقين. وأصبحت المعركة الأولى للمرشَّح هي حسم الأمور أولًا داخل ‏عشيرته، مع الخصوم المحتملين، ويُعتبر الفوز بإجماع العشيرة تأهيلًا أوليًّا قويًّا، حتى ‏بوجود نوايا مضمرة لخصوم داخليين. وقاد ذلك إلى تخفيض عدد المرشَّحين. فأن تكون ‏شخصيّة سياسيّة حزبيّة أو عامة أو من أصحاب المناصب، لا يؤهلك للمنافسة، ما دمتَ ‏من عائلة صغيرة، إلا إذا كنتَ نافذًا بصورة قوية لدى عشائر صغيرة أخرى ليس لها ‏مرشَّح منها. والأمر نفسه ينطبق على المدن مع تعديل لطبيعة القاعدة الانتخابيّة، مثل ‏الاشتراك في الأصول والمنابت، كأن تكون من الشوام أو الدروز أو إحدى مناطق ‏فلسطين، ولذلك فإنَّ ترشيحات عدد وافر من الشخصيات العامة في دائرة عمّان الثالثة ‏مثلًا، انحسر كثيرًا في كل دورة لاحقة بعد عام 1993.‏

وعلى الرغم من هذا التغيُّر المتوقع فقد صدمت نتائج انتخابات 93 المرشَّحين؛ حتى إنَّ ‏عشرات الاعتراضات على النتائج قُدِّمَت من مرشَّحين لم يصدِّقوا أنهم أو زملاء لهم كانوا ‏قد حصلوا في انتخابات 89 على ما يزيد عن عشرة آلاف صوت، حصلوا عام 93 على ‏أقل من ألفي صوت.‏

تحميل التَّزوير سبب الانخفاض بأرقام المرشَّحين الذين لم يحالفهم الحظ لم يصمد. لقد ‏تعلَّم الجميع الدرس للانتخابات اللاحقة، وأصبح النواب أكثر تركيزًا في الخدمات ‏والتواصل مع قاعدتهم الانتخابيّة المُفترضه. وقد تعدَّلت كل الحسابات للانتخابات ونمط ‏الدعاية الانتخابيّة.‏

 

‏1997- 2007: تصغير الدَّوائر ‏

وفق القانون كانت كل محافظة دائرة انتخابيّة واحدة، وهذا كان يُبقي هامشًا أوسع لحركة ‏المرشَّحين لدى الأوساط الكثيرة التي لا تملك مرشَّحًا في القرى والبلدات والمخيّمات. ومع ‏ظهور محافظات جديدة منفصلة عن القديمة أصبحت الدوائر أصغر. وفي عام 2007 تمَّ ‏اعتماد اللواء دائرة انتخابيّة واحدة، فضاقت وتحدَّدت القاعدة الانتخابيّة أكثر، وأصبحت ‏الانتخابات في معظم الألوية هي تقريبًا منافسة محدَّدة بين العشائر الكبيرة وأحيانًا بين ‏أفخاذ هذه العشائر.‏

سمات العملية الانتخابيّة بدأت تَنْحى إلى شكل محدَّد لا أهميّة فيه للبرامج والخطاب ‏السياسي وللدعاية الانتخابيّة، وأصبح البيان الانتخابي أو البرنامج هو لزوم شكلي يمكن ‏توكيله لأي شخص يحسن الكتابة ويضع فيه ما شاء، والجمهور نفسه لم يعُد يكترث لذلك، ‏وباتت اليافطات والملصقات معنيّة فقط بإبراز اسم المرشَّح وصورته، وأحيانًا مع ‏شعارات لا تعني شيئًا، فالمهم هو التواصل الميداني للمرشَّح مع أبناء عشيرته، ومع ‏الناخبين غير المنحازين بحكم القرابة أو غيرها لمرشَّح آخر. وأصبح السلوك السائد هو ‏زيارة الناس بيتًا بيتًا، إلى جانب الواجب الرَّسمي بزيارة الدواوين، حيث يتم التركيز على ‏الصِّلات التاريخية والمواقف المشهودة في أزمنة سابقة أو معالجة رواسب سابقة لثارات ‏أو احتكاكات بالكلام الطيِّب عن عاداتنا وتقاليدنا والمحبّة والتَّسامح...إلخ. أمّا الحديث ‏السياسي والوطني والبرامجي فأصبح بمثابة "بهارات" إضافية على الكلام "المفيد"، بل ‏إنَّ المرشَّح الذي لا يعيش تقليديًّا في المنطقة التي يترشَّح فيها، يؤخذ كمُستشرق ساذج ‏بالنسبة للمجتمع المحلي.‏

ومع تصغير الدوائر إلى مستوى اللواء، أصبح هناك دوائر بمقعد واحد للألوية الصغيرة ‏وهذا مكّنها من أن تحظى ولأوّل مرّة في تاريخ النيابة بمقعد مضمون في المجلس، بل ‏ومضمون للعشيرة الأكبر. واختلفت نسبيًّا طبيعة المنافسة عن الألوية الكبيرة التي لها عدة ‏مقاعد، وهذا في الواقع جعلنا من جهة أخرى أمام نظامين انتخابيين مختلفين، فالقوة ‏التصويتيّة لناخب في دائرة من 3 مقاعد هي ثلث القوة التصويتيّة لناخب في دائرة من ‏مقعد واحد. وهذا إلى جانب عيب آخر هو عدم التناسب الصارخ في عدد المقاعد نسبة ‏لعدد السكان في الدوائر. وكان هذا من المبرِّرات القويّة لمهاجمة النظام الانتخابي ‏خصوصًا من قِبَل حزب جبهة العمل الإسلامي، الذي قرَّر مقاطعة الانتخابات اللاحقة ‏وشاركهم في الموقف بعض الأحزاب الأخرى وشخصيّات مستقلة، دون أن يؤثر ذلك ‏على القرار الحكومي. لكنه قاد إلى التفكير في تعديل فنّي بالنسبة لحجم الدوائر، وذلك ‏بتقسيم الدوائر متعدِّدة المقاعد إلى دوائر فرعيّة كل منها بمقعد واحد.‏

 

‏2010: الصَّوت الواحد في دائرة بمقعد واحد أو الدَّوائر الوهميّة

تمَّ تطبيق هذا النظام تشبُّهًا بالنظام البريطاني لكن بصيغة غريبة، فعندما تمَّ اكتشاف ‏صعوبة تقسيم بعض الدوائر، خصوصًا في المدن، بسبب التداخل السكاني ومخاطر ‏الاحتجاج على تقسيم القوة التصويتيّة للعشائر في بعض المناطق، تمّ اللُّجوء إلى التقسيم ‏الافتراضي؛ فإذا كانت هناك دائرة لها 3 مقاعد مثلًا، فقد تم افتراضها مقسمة إلى 3 ‏دوائر لكل منها مقعد واحد، ويُترك للمرشَّحين أن يقرروا النزول في أيّ منها، وللناخبين ‏أن يذهبوا للتصويت لمرشَّحهم في الدائرة التي يختارها. وقد أطلق على هذا النظام اسم ‏‏"الدوائر الوهميّة". وجوبه النظام بانتقادات واسعة وسخرية دفعت للتخلّي عنه.‏

 

‏2013: النِّظام المُختَلَط المُتَوازي

إزاء الوصول إلى طريق مسدودة مع فكرة الدوائر الفرديّة، جَرَتْ العودة إلى التقسيم ‏السابق للدوائر لكن مع إضافة دائرة وطنيّة من 27 مقعدًا يتم التنافس على مقاعدها ‏بالتمثيل النسبي للقوائم الوطنيّة، وأعطي الناخبُ صوتين، واحد للدائرة المحليّة وآخر ‏لـ"الوطنيّة". واعتبر هذا اختراقًا تقدميًّا بهدف التقدُّم خطوة نحو مفهوم المنافسة الحزبيّة، ‏ومغادرة مفهوم النائب المحلي، "نائب الخدمات". وتمَّ اعتماد نظام "أعلى البواقي" لمعالجة ‏الكسور، عند حساب الفائزين.‏

لكن من العجيب ابتداء أنَّ القائمة الوطنية المنشودة لم تحقِّق المنشود كعمليّة سياسيّة ‏حزبيّة. لقد حسب المرشَّحون فرصهم بسرعة، وهي كانت كالتالي: "أنا من عشيرة كبرى ‏يتسابق عدة مرشَّحين منها على مقعد الدائرة، فالصفقة تصبح أنْ أنْأى عن هذه المنافسة، ‏وأذهب للدائرة الوطنية، حيث يمنحني جميع أبناء العشيرة صوتهم الثاني، فيما صوتهم ‏الأوّل مقسّم على أكثر من مرشَّح في الدائرة المحلية". وهذا التفكير نجح في مواقع كثيرة. ‏أيْ تجميع الصَّوت الثاني للقاعدة العشائرية خلف مرشَّح واحد يمَكّن -مع أصوات ‏مرشَّحين أقل قوّة من مناطق أخرى- مِن تجميع ما يكفي للحصول على مقعد. ومع أنَّ ‏الدائرة وطنية فإنَّ نشاط كل مرشَّح تركّز في منطقة واحدة أو حيث يتوزّع أفراد العشيرة، ‏أو أبناء بلد الأصل، ويتولّى الدعاية في مناطق أخرى أعضاء القائمة الآخرون، وهم ‏غالبًا مرشَّحون ثانويون. وكانت الأمور واضحة تمامًا للأوساط التي نزل منها مرشَّحون، ‏لكن أغلبية المواطنين لم يكُن لديها مرشَّح في الدائرة الوطنية، فلِمَن يعطون الصَّوت ‏الثاني؟ هذا ما أصبح اسمه الصَّوت "الحائر"، فحتى اقتراب موعد التصويت، وبعد أن ‏حسم كل مواطن قراره للمرشَّح المحلّي، بقي حائرًا في الصَّوت الوطني، وقد ظهرت ‏أزمة غياب أحزاب وطنيّة كبرى، أو زعامات سياسيّة ذات شعبيّة على المستوى الوطني، ‏فذهبت الأصوات في مفارقة ملفته إلى شخصيّات إعلاميّة كانت تظهر بكثرة على ‏الشاشات مع بدء زمن الفضائيّات المحليّة. وكان بين المرشَّحين قادة وأعضاء أحزاب ‏‏(باستثناء جبهة العمل الإسلامي) لكن حضورهم اعتمد فقط على النُّفوذ العشائري ‏والمحلّي.‏

وقد جاءت النتائج للدائرة الوطنية خلافيّة للغاية، وانطوت على مفارقات بسبب نظام ‏‏"أعلى البواقي"، فقد نحج مرشَّح واحد من معظم القوائم. أمّا القائمة الأولى من القوائم ‏الناجحة فقد حصلت على 3 مقاعد وبعدد أصوات يقارب عشرة أضعاف آخر قائمة ‏حصلت على مقعد. لقد فتحت التجربة العين على فكرة النسبيّة مرتبطة بنظام أعلى ‏البواقي، فذهب التفكير لتطبيق هذا النظام على الدوائر المحليّة، والتخلّي عن الدائرة ‏الوطنيّة، وهو أمر قريب من مقترح كانت لجنة الحوار الوطني التي تشكلت بقرار من ‏الحكومة عام 2012 قد قدَّمته وحظي بتوافق واسع.‏

 

‏2016: نظام التَّمثيل النسبي للقوائم المفتوحة على مستوى ‏المحافظات

كان هذا النظام هو مقترح لجنة الحوار الوطني، وتمَّ اعتماد كل محافظة دائرة واحدة ‏باستثناء عمّان وإربد والزرقاء، وتمَّ اعتماد القوائم المفتوحة لتيسير تشكيل المرشَّحين ‏للقوائم دون افتراض الترتيب المسبق لهم. ولم تُعتَمَدْ الدائرة الوطنية التي أوصى بها بعض ‏أعضاء لجنة الحوار، واعتُمد في القانون نظام "أعلى البواقي" الذي اعترضت عليه ‏أوساط مختلفة. وقد اعتبر كثيرون أنَّ النظام معقَّد وغير مألوف أبدًا للناس، وخصوصًا ‏طريقة احتساب النتائج، لكن الجمهور تأقلم مع النظام وفهمه وكذلك المرشَّحون، ولكن بعد ‏الانتخابات انصبَّ النَّقد على أنَّ النظام لم يغيِّر شيئًا في الواقع ولم ينتج كتلًا برلمانية ‏حزبية.‏

تكيَّفت العملية الانتخابيّة سريعًا مع القانون الجديد في إطار المنافسة الشخصية والعشائرية ‏نفسها، فالمرشَّح الفردي المنافس فعلًا يبحث عن شركاء من مناطق أو بلدات أخرى، ليس ‏لديهم حجم القاعدة الانتخابيّة نفسه، إلى جانب أقوى المرشَّحين الممكنين من الكوتات ‏المسيحية والشركسية والشيشانية، في الدَّوائر المخصَّص لهم فيها مقاعد. وهكذا تقاسمت ‏الدائرة التوزيع المتوقَّع نفسه للنوّاب بموجب الصَّوت الواحد، بإستثناء مقاعد الكوتا التي لا ‏تذهب لصاحب القاعدة الأقوى، بل غالبًا القائمة الأقوى، لأنَّ الآخرين يستطيعون إعطاء ‏الكوتا الصَّوت دون خشية على مرشَّحهم. طبعًا باستثناء الكوتا النسائية التي تنافس على ‏المقعد الأوّل أيضًا، فيتم الحجب عنها من القاعدة الأساسية للمرشَّحين الآخرين، وقد حدث ‏لقائمة أعضاؤها كلهم من العشيرة نفسها، أنْ فازت بالمقعد سيدة، لأنَّ كل واحد حجب ‏عن الآخرين باستثنائها، وبتكتيك أكثر حرصًا كان يمكن أن يصعد من القائمة اثنان.‏

الحاجة بالضرورة لمرشَّحين آخرين أقل قوة، أظهر مفهوم "الحشوات"، اي المرشَّحين ‏الذين يكملون العدد المطلوب، وغير مؤهَّلين للفوز، وأصبح هناك شراء لـ"الحشوات"، ‏لضمان أصوات هذا المرشَّح لمن يدفع له من داخل القائمة.‏

 

انتخابات 2020: النِّظام الانتخابي نفسه وتعمُّق الظواهر السلبيّة

لأوَّل مرَّة يتم العمل بالقانون ذاته في دورة انتخابيّة تالية دون أيّ تعديل. والأثر الملموس ‏المباشر، هو تفاقم الظواهر السلبية المرتبطة بالنظام. أصبح تشكيل القوائم أشد صعوبة، ‏فكل مرشَّح عليه أن يوازن بين الحاجة إلى مرشَّح لديه قاعدة كافية لدعم القائمة، ولكن ‏ليس إلى الدرجة التي تنافسه بعدد الأصوات. وكان النزاع داخل القائمة يشتعل في ‏الانتخابات الماضية لأنّ المرشَّحين كانوا يفترضون أنّ شركاءهم ملتزمون معهم، ثم ‏يكتشف غير ذلك، فيعتبر ما يجري غدرًا وخيانة. لكن عام 2020 انقشع هذا الوهم، إذ ‏أصبح كل واحد يعرف سلفًا أنه لن يحصل إلا على أصواته، وأنّ المنافسة الداخلية هي ‏جزء من طبيعة نظام القوائم المفتوحة، فأصبح تشكيل القوائم أصعب، وأصبح التنافس ‏يبدأ بين المرشَّحين على الشريك على مقعد الكوتا، لأنه حليف مضمون، والباقي ‏‏"حشوات"، لكن العثور على حشوات بات أصعب، لأنه بات معروفًا أنَّ مَن يأتي ‏كـ"حشوة"، هو شخص باع نفسه وقاعدته الانتخابيّة بالمال، وقد تطوَّر نظام شراء ‏الأصوات من الشراء الفردي، إلى شراء "مقاولي الأصوات"، بصفقات يتحدَّد فيها عدد ‏الأصوات التي يلتزم الشخص بجلبها، وفي بعض الدوائر يتم الاتفاق بين المرشَّحين ‏المستعدّين للشراء على تقاسم مناطق الشراء والسماسرة، وتحديد سقف سعري للصوت. ‏إلى جانب ذلك دفع نظام التمويل الجديد للأحزاب الذي ربط التمويل بحد أدنى لمرشَّحي ‏الحزب، إلى تكاثر المرشَّحين الحزبيين حتى لو لم تكن هناك فرص للنجاح. وستظهر ‏قوائم تتشكَّل من ائتلاف مرشَّحي أحزاب، ولكن على نطاق محدود جدًا لأنّ المرشَّحين ‏‏"المعتبرين"، حتى وهم أعضاء في الأحزاب، لا يستطيعون الخروج عن الاعتبارات ‏العشائرية، مثل وجود مرشَّح إجماع غيره من العشيرة. وما حدث في الجوهر أنَّ ‏المحدِّدات ذاتها، البعيدة عن التنافس السياسي البرامجي الحزبي والمستندة على القيم ‏التقليدية، كيّفت نفسها مع النظام الجديد، ويبدو أنها قادرة على التكيُّف مع أي نظام ومع ‏أي تغيير في القانون.‏

ما زال تغيير النظام الانتخابي في الأردن من أكثر القضايا سخونة. فمن جهة، يرى ‏كثيرون أنه الوسيلة الحاسمة لتطوير الحياة السياسيّة والحزبية والبرلمانيّة التي يوجد ‏اعتراف عام بضعفها، واعتراف بقصور الواقع السياسي عن الارتقاء إلى الحالة ‏المنشودة، وهي ديمقراطية متعددة الأحزاب تنتج حكومات منتخبة، وتداولًا على السلطة ‏التنفيذية بين أقلية وأغلبية. وبالمقابل هناك رأي يقول إنَّ العلّة ليست في النظام الانتخابي، ‏بل في مكان أو أمكنة أخرى، بدليل أنَّ تغييرات متواترة جرت على قانون الانتخاب، ولم ‏تؤدِّ إلى نتيجة أفضل. وأنَّ المهم هو نزاهة الانتخابات ومنع المال الفاسد من التحكُّم بها. ‏وهذه وجهة نظر مُعتبرة، لكن بعض الخبراء يرى أنَّ التغييرات التي جرت لم تذهب ولا ‏مرَّة بالاتِّجاه الصَّحيح، وكانت تعكس مصالح القوى التقليديّة التي لا تريد تغييرًا. وهذا ‏التجاذب استمرَّ مع كل تغيير دون الوصول إلى نظام انتخابي مقنع ومقبول من الجميع. ‏مع ذلك فالتغييرات أذكت الحوار حول النظم الانتخابيّة ورفعت المعرفة ومستوى الثقافة ‏العامة بشأن النظم الانتخابيّة وتأثيرها على الحياة السياسيّة الديمقراطيّة.