أحمد أبو خليل
باحث أنثروبولوجي- الأردن
لَدَيْنا طريقة ترشيح وانتخاب ومحتوى للتَّنافس تعكس الفكرة الرسميّة التي تعبِّر عنها القوانين والأنظمة والنصوص الرسميّة، لكنْ وفي الوقت نفسه، لدينا جانبٌ "واقعيٌّ" مُعاشٌ من الاجتماع السياسي الأردني، وهو جانب غير رسميّ وغير مكتوب وغير مُعترف به علنًا. ولا تتبنّى هذه المقالة موقف الإدانة المُطْلقة لهذه الممارسة الاجتماعيّة/ السياسيّة أو لغيرها، إنَّها فقط ستحاول توصيف الحالة عمومًا، وتدعو إلى الاعتراف بوجودها وعدم إنكارها، فذلك هو الطريق الوحيد إلى إجراء النقاش الوطني المطلوب.
في واحدة من الجلسات المخصَّصة لانتخاب رئيس مجلس النواب، وبعد أن طلب رئيس السنّ المؤقَّت (أكبر الأعضاء عمرًا) من النوّاب الراغبين بالترشُّح تسجيل أسمائهم، تقدَّم نائبان؛ سَجّل الأوَّل اسمه من مقطعين (اسمه الشخصي واسم العشيرة)، لكنَّ الثاني طلب تسجيل اسمه من ثلاثة مقاطع مؤكدًا بذلك على اسم الأب، فما كان من المرشَّح الأوَّل إلا أنْ استأذنَ بإضافة اسم والده أيضًا على لوحة التَّرشيح.
كان من الواضح أنَّ هناك تنافسًا من مستوى آخر، يجري خارج الجلسة، يفسِّر ذلك الإصرار على ذكر اسم الأب. أصبحت تلك الجلسة شهيرة فيما بعد، وقد سادها انتباه شديد وأعصاب متوترة، وكان الإعلام قد نقل أجواءها للرأي العام المُتابع، قبل موعد الجلسة.
غير أنه لوحظ وقتها، أنه وما إنْ أُعلِن اسم الفائز، حتى توجَّه، ووفق التقاليد المتَّبعة، إلى منصّة الخطابة، ثم استلَّ ورقة من جيبه، وقرأ منها خطاب الفوز المُعدّ مُسبقًا. كان الخطاب بعيدًا كليًّا عن أجواء التصويت المشار إليها، وجاء الخطاب خاليًا من أية إشارة سوى إلى التنافس الحضاري والأسلوب الديمقراطي الذي جرت فيه انتخابات الرئيس والذي يعكس مستوى الحياة النيابيّة... إلخ. ومن المرجّح أنَّ المرشَّح الآخر، كان يحمل ورقة مماثلة تحمل خطابًا مماثلًا.
يشير المشهد الموصوف أعلاه، إلى وجود مستويين للتعاطي مع فكرة واحدة، وهي هنا، استحقاق انتخاب رئيس مجلس النواب: المستوى الأول مثَّلته طريقة التَّرشيح للمنصب، والثاني مثَّله خطاب الفوز بالمنصب. فمن جهة، لدينا طريقة ترشيح وانتخاب ومحتوى للتنافس يعكسان جانبًا "واقعيًّا" مُعاشًا من الاجتماع السياسي الأردني، وهو جانب غير رسمي وغير مكتوب وغير معترف به علنًا، ومن جهة ثانية لدينا فكرة رسميّة تعبِّر عنها القوانين والأنظمة والنصوص الرسميّة، وقد عبَّر عنها في المشهد المشار إليه أعلاه، خطابُ الفوز.
غير أنَّ هذه الازدواجيّة، لا تبدأ ولا تنتهي هنا في المجلس المُنتخب، بل تمتدّ إلى أغلب مجريات العمليّة الانتخابيّة، بل وإلى محتوى النقاش العام السائد حول الفكرة النيابيّة ككل.
لا تتبنّى هذه المقالة موقف الإدانة المُطْلقة لهذه الممارسة الاجتماعيّة/ السياسيّة أو لغيرها، إنها فقط ستحاول توصيف الحالة عمومًا، وتدعو إلى الاعتراف بوجودها وعدم إنكارها، فذلك هو الطريق الوحيد أمام كل الأطراف ذات العلاقة (أصحاب القرار، والنُّخب والمثقفون، والقوى السياسية والاجتماعية...) إلى إجراء النقاش الوطني المطلوب، وتحديد الأهداف والتفكير للمستقبل، بما يشتمل عليه ذلك من تحديد عناصر يمكن الاحتفاظ بها، وتطوير أو إلغاء أخرى.
عادت الحياة النيابية في الأردن عام 1989، وأصبح لدينا، منذ ذلك الوقت ولغاية الآن، أكثر قليلًا من ثلاثة عقود شهدنا خلالها ثماني انتخابات بثمانية مجالس. هذا يعني أننا، ومن زاوية أخرى، نتحدَّث عن جيل كامل وأكثر قليلًا، من المواطنين الأردنيين، الذين تتوقف خبرتهم عند هذه التجربة من الانتخاب. ذلك أنَّ آخر انتخابات قبل عام 1989 جرت عام 1967، مارسها مَن كان عمره حينها أكثر من 18 عامًا من الذكور، وهو ما يعني أنَّ الذين مرّوا بتجربة انتخابات مختلفة، من المواطنين الأحياء، هم فقط مواليد عام 1949 فما قبل، وهم اليوم نسبة قليلة من السكان، ومن الذكور فقط.
إنَّ مَن تتاح له فرصة تصفُّح أرشيف الزَّمن الذي سبق انتخابات عام 1989 والزمن الذي تلاها مباشرة، سوف يرى أنَّ البلد عاشت حينها ما يشبه ورشة نقاش سياسي واسع وشامل. فقد كان الجميع، على المستوى الرسمي والشعبي، الموالي والمعارض، في حالة بحث سياسي نشط.
جاءت الانتخابات بعد أهمّ هبّة شعبيّة سميت لاحقًا "هبّة نيسان". لقد اندفعت جميع المكونات الاجتماعية والسياسية للمشاركة وتقديم وجهة نظرها، وسرعان ما استعاد الإطار الوطني حضوره بقوة في اهتمامات الجمهور، وعند إجراء الانتخابات، كانت "مصلحة" كل مكوِّن من المكوِّنات تقتضي البحث عن أوسع دائرة تمثيل تُمَكّنه من تحقيق حضوره الوطني العام؛ فقد كان التنافس والجدال يجري بالفعل حول مجلس نيابي مهمّته التشريع والرقابة (وهما المهمتان الرئيستان لأيّ سلطة تشريعيّة)، وكان استيعاب ذلك شرطًا -ضمنيًّا غير مكتوب ولكنه حاضر ورئيس- للتفكير بالترشيح الجدّي للانتخاب. كان خطاب المرشحين الدعائي يصرُّ على حضور المسائل العامة، وكان أغلب المرشحين، وبمجرَّد اتخاذهم قرار الترشيح، بالتَّوافق مع أنصارهم، ينطلقون نحو ما هو عام، بدرجات متفاوتة طبعًا. كانت البرامج والبيانات الانتخابية ميدان تنافس حقيقي، وكان تبادل النشاط الانتخابي بين المحافظات، والتواصل بين المرشحين وأنصارهم في مختلف المحافظات، حاضرين بوضوح، إلى درجة أنَّ بعض المرشحين البارزين، قاموا بنشاطات دعائيّة وشاركوا في مهرجانات انتخابيّة خارج دوائرهم، ترويجًا لبرامجهم أو دعمًا لمشاركين لهم في هذه البرامج.
استمرَّت تلك "الأجواء" السياسية والثقافية لسنوات، وكان مجلس النواب ساحة رئيسة للنقاش العام، وكانت كلمات بعض النواب تتحوَّل إلى مجال لنقاش الشارع. لكن ذلك أخذ يتلاشى بعد انتخابات عام 1993. ومن الضروري هنا عدم إغفال دور الأحداث السياسية الكبرى الخارجية(1) والداخليّة، التي أثّرت حكمًا على الحياة السياسية في الأردن، إلا أنَّ تغيير قانون الانتخاب، وخاصة اعتماد مبدأ "الصوت الواحد" وفق الصيغة الأردنية، لعب دورًا كبيرًا في توجيه النقاش العام، ومن ثم في توجيه الحياة السياسية بالمجمل، على الأقل فيما يتصل بالعمل النيابي واستحقاقاته، ترشيحًا وانتخابًا.
شكَّلت فكرة "الصوت الواحد" دافعًا للعودة إلى دائرة الانتماء الأضيق، التي يُنتظر أو يُؤمل منها أن تمكّن صاحبها من الفوز. وكان ذلك استجابة طبيعية لمتطلبات القانون، ذلك ببساطة لأنَّ هدف أيّ انتخابات هو الحصول على مقعد في المجلس النيابي، ومن الطبيعي أن يسعى المرشَّح وأنصاره، إلى البحث عن كل العوامل التي توفِّر فرصة النجاح في هذه المهمة، وبدأت فكرة انقسام الناخبين حول مرشحين أفراد، وانقسام مجمل الجدل حول ذلك.
وبالطبع، فإنَّ المجتمع يتفاعل بشكل معقَّد مع مثل هذه التبدُّلات، فقد طوَّر المهتمون وسائلهم الانتخابيّة وفق ظروفهم، وهناك دومًا ما يكفي من "الأذكياء" في تقديم الأفكار؛ فبدأت عمليات مثل: تنظيم دَوْر الترشيح بين أطراف العشيرة أو المنطقة، بحيث تتناوب على اختيار المرشَّحين، ثم بدأت فكرة الانتخابات الداخلية المسبقة، وبدأت المكوّنات الاجتماعية المختلفة تبحث عن أصول وعلاقات قرابيّة (أو علاقات تناحريّة عند اللزوم) بما يخدم هدف المُرشَّح في كل حالة، وبرزت ظواهر مثل "مرشَّح النكاية"، أو مرشح هدفه "ترسيب" مرشَّح منافس، أو مرشَّح يهدف لدفع الحرج عن جماعته عند اضطرارهم لتحديد موقف، كما برزت مفاهيم مثل "ردّ الجميل" الانتخابي، أو "تسديد الدَّيْن" الانتخابي... إلخ.
والملاحظ أنَّ تغييرات القانون في الانتخابات اللاحقة، كانت تستدعي فورًا تبدُّلًا في السلوك الانتخابي (بالطبع مع بقاء مبدأ الصوت الواحد)، فقد أجريت، مع كل موسم انتخابي بعد عام 1993، تغييرات على حجم الدوائر الانتخابية، وهو ما كان يؤثر فورًا على حركة وحدود نشاط المرشحين وأنصارهم، فسعت العشيرة إلى توسيع أو تضييق علاقاتها القرابية (مثلًا: اعتماد تقسيمات العشائر الكبيرة إلى أفخاذ، أو تقسيم المناطق إلى تجمُّعات قرى)، وقد تجلَّت "فعاليّة" الصوت الواحد في صيغة قانون عام 2010، الذي اعتمد فكرة الدوائر الافتراضيّة "الوهميّة"، بحيث أصبح المرشَّح هو مَن يحدِّد دائرته، ثم يتبعه أنصاره نحوها، وهو ما قاد حينها إلى "تقاسم الناخبين" مسبقًا بين المرشَّحين البارزين.
ولمّا كانت العشيرة أو الانتماء القرابي، شرطًا في غالب الحالات، فقد سعت الأوساط التي تنتمي إلى عشائر كبيرة إلى "صناعة عشيرة" عبر اعتماد اسم المنطقة كعنوان قرابي (حصل ذلك بشكل خاص بين تجمُّعات المواطنين من أصول فلسطينية)، فتحوَّل اسم المنطقة إلى ما يشبه العشيرة.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أنَّ ما أعلن عن إلغاء الصَّوت الواحد في قانون 2015 الذي جرت وفقه انتخابات عام 2016 والعام الحالي 2020، كان إلغاءً شكليًّا، فقد حافظ القانون في الواقع على مبدأ الصوت الواحد، لأنَّ تشكيل القوائم أخذ صيغة التفاف كل قائمة حول مرشح رئيس، يتحالف مع آخرين، ولكنه لا ينتخبهم ولا يفضّل انتخابهم وليس من مصلحته انتخابهم، لأنهم يتحوَّلون بعد تسجيل القوائم، من حلفاء إلى منافسين! وقد نالوا فورًا التسمية الشعبية "حشوات" القوائم.
بل إنَّ التطبيق الذي جرى لمرَّة واحدة لفكرة "القائمة الوطنيّة" عام 2012، تحوَّل بدوره إلى قوائم يتنافس أعضاؤها على احتلال المركز الأول في تسجيل الأسماء، وهو مبدأ متَّبع في تجارب دوليّة، لكنه في ظلِّ ضعف الحياة السياسية في البلد، وفي ظلِّ ثقافة انتخابية تشكّلت مع الزمن، جعل تلك القوائم "الوطنية" خالية من البُعد السياسي الوطني، وتشكَّلت غالبًا حول "شخصية" واحدة ذات حضور خاص، اشترط صاحبها أنْ يضَعَ اسمه في المركز الأول في القائمة ليضمن الفوز.
إنَّ التفاصيل التي يمكن إيرادها عن تجربة "الصوت الواحد" كثيرة(2)، ولكن بالمحصلة يمكن بوضوح رصد الميل العام نحو تشتيت الفكرة النيابية (ترشيحًا وانتخابًا) وتوزيعها إلى دوائر ضيقة، وتزداد ضيقًا مع كلِّ جولة.
ما سبق في هذا المقال، تركَّز بالمجمل على المستوى المجتمعي، أو ما يمكن أن نسميه "الثقافة الانتخابية" عند الجمهور، ولكن ماذا عن المستوى الرَّسمي للعمليّة؟
بالعودة إلى المشهد الذي بدأنا فيه هذا المقال، أي مشهد جلسة انتخاب رئيس المجلس، وما رافقها من ازدواجيّة خطاب، يمكن القول إنَّ تلك الازدواجيّة كانت مجرَّد "ازدواجيّة فرعيّة" من ازدواجيّة أكبر تُمارَس على صعيد المجتمع والدولة فيما يتصل بالفكرة النيابيّة ككل.
على المستوى الرَّسمي، هناك قوانين وانتخابات يمكن أنْ نصفها نسبيًّا بالنزاهة، ولكنها نزاهة مشروطة بقانون وإجراءات وممارسات وسلوك انتخابي كالذي وصفناه باختصار فيما سبق. بل لقد تشكّلت في الأردن هيئة مستقلة خاصة بالعمليّة الانتخابيّة، أضفت المزيد من النزاهة الرسمية للعمل الانتخابي، وأبعدت الحكومة (السلطة التنفيذية القائمة) عن التأثير والتحكُّم، وباختصار توجد بالفعل الكثير من العناصر التي تمكِّننا من القول إنَّ هناك انتخاباتٍ برلمانيّةً مُمأسسةً، ولكنَّنا نتجنَّب عادةً السؤال عن محتوى هذه الانتخابات.
تعالوا نقرأ المشهد التالي:
هذا العام، وبمجرَّد حسم موعد الانتخابات، بدأت الهيئة المستقلة للانتخابات بنشر حملة دعائية واسعة في الشوارع وفي وسائل الإعلام، تدعو للمشاركة في الانتخاب. لقد احتلَّت إعلانات الهيئة مواقع مهمّة في شوارع العاصمة والمدن، وفي الواقع لقد حجزت الهيئة لنفسها تلك المواقع قبل أنْ تحتلَّها يافطات وصور المرشَّحين، وعند بدء موعد الحملات الانتخابيّة سارع المرشحون إلى نشر إعلاناتهم، حول وقرب ومقابل، إعلانات الهيئة.
إنَّ النَّظر إلى محتوى إعلانات الطرفين: الهيئة من جهة والمرشحين من جهة أخرى، يُظْهِر بوضوح تلك الازدواجية في الخطاب. فبينما تتحدَّث إعلانات الهيئة عن الوطن، والحقوق، والقوانين، والتشريع، والرقابة، والاستحقاق الدستوي، وأهميّة صوت المواطن... إلخ من خطاب رسمي عالي المستوى، فإننا نجد بالمقابل، وأحيانًا بالمقابل تمامًا، وخاصة في مناطق "الدَّواوير" في العاصمة، الدِّعاية الفرديّة للمرشَّحين على شكل صور فرديّة أو فرديّة محاطة بصور فرعيّة هامشيّة لحلفاء في قائمة واحدة لا ينتخب أعضاؤها زملاءهم فيها، تتميّز بعناية كبيرة في جماليّة الصُّوَر، وإذا رافقتها شعارات فهي في الغالب تركِّز على المرشَّح الفرد أيضًا.
تقع المفردات التي تستخدمها حملات الهيئة المستقلة، على النقيض تمامًا من المفردات التي تستخدمها حملات المرشَّحين. فعند الأولى نجد منظومة مفاهيم "رسميّة" "عصريّة" تنتمي إلى فكرة الدولة الحديثة، بالمقابل تقع منظومة مفاهيم تشكَّلت عبر ثلاثة عقود، تنتمي إلى فكرة أو أفكار مختلفة تمامًا، ولكنها يا للمفارقة! من صناعة الدولة ذاتها والمجتمع ذاته.
- - - - - - - - - - - - - -
* الهوامش:
(1) بشكل رئيس، حرب الخليج وما تلاها من ضغوطات على الأردن، ثم بدء التحضير لعملية السلام.
(2) أجرى الكاتب ثلاث دراسات ميدانية حول تنوُّع طرق اختيار المرشحين شملت كل المحافظات، في ثلاثة مواسم انتخابية هي: 2003، 2007، 2012.