د. سمير مُندي
ناقد مصري
رواية "حصن الزيدي" ليست رواية عن الاستبداد السياسي الذي يستخدم الدين لفرض هيمنته على الناس وحسب، فهي وإنْ كانت تنطوي على هذا المعنى إلّا أنَّها تتجاوزه إلى ما هو أبعد منه وأمضى أثرًا؛ إذْ تسعى الرواية إلى إرهاف شعور القارئ بالسُّبل التي بمقتضاها تصبح الهيمنة ممكنة والخداع واقعًا من خلال بلاغة تتغيَّر أساليبها دون أن تتغيَّر مقاصدها. والكشف، بالمثل، عن السُّبل التي من خلالها يدخل الناس مصيدة السلطة، المرَّة تلو الأخرى، دون أن يتعلّموا الدَّرس.
محمد الغربي عمران أحد أهم كُتّاب اليمن المعاصرين أصالةً وجديّة. فقد استطاعت رواياته، أن تلفت الأنظار بما تثيره من قضايا وما تعمِّقه من وعينا بأنفسنا وبعالمنا. نجح الغربي عمران في بلورة أسلوب خاص به مكَّنه من كسب ثقة القارئ وإعجابه معًا. أمّا الثقة فباعثها شعوره بأنَّ الكاتب يدلي بشهادته حول واقع صادم دون أن يتنازل عن أولويّاته في الكتابة والإبداع. وأمّا الإعجاب فمصدره قدرته على أن يضع لعالمنا صورة عالم مفزع تخلّى إدراكنا عن الشُّعور به لفرط اعتيادنا لقسوته. وفي الوقت الذي يقوّض فيه الكاتب ثقة القارئ بعالمه، فإنه يشحذ لديه سلاح الارتياب ويصقله بما يحصِّنه ضدّ سحر السيطرة وأساليب الخداع. حتى الآن أصدر الغربي عمران خمس روايات هي على التوالي: "مصحف أحمر" 2010، "ظلمة يائيل" 2012، "الثائر" 2014، "مسامرة الموتى" 2016. أمّا روايته الخامسة "حصن الزيدي" الصادرة حديثًا عن دار "نوفل" فهي موضوع هذا المقال.
• "حصن الزيدي" رواية في مواجهة بلاغة السيطرة
سرعان ما سيدرك كل مَن يقرأ رواية "حصن الزيدي" المعنى الأساسي الذي تتناوله الرواية، معنى السلطة التي تستخدم الدين بغرض السيطرة. فلم يكن الدين يومًا خارج حسابات المتطلعين إلى السلطة. ولم يتوقف السَّرد، أبدًا، عن التعريض بدوْر رجال الدين في تثبيت سلطة أو تحريض الناس عليها وقت اللزوم. ومع ذلك فإنَّ رواية "حصن الزيدي" ليست رواية عن الاستبداد السياسي الذي يستخدم الدين لفرض هيمنته على الناس وحسب. فهي وإنْ كانت تنطوي على هذا المعنى إلّا أنَّها تتجاوزه إلى ما هو أبعد منه وأمضى أثرًا. إذ تسعى الرواية إلى إرهاف شعور القارئ بالسُّبل التي بمقتضاها تصبح الهيمنة ممكنة والخداع واقعًا من خلال بلاغة تتغيَّر أساليبها دون أن تتغيَّر مقاصدها. والكشف، بالمثل، عن السُّبل التي من خلالها يدخل الناس مصيدة السلطة، المرَّة تلو الأخرى، دون أن يتعلّموا الدرس.
ومن أجل الكشف عن هذا الإمكان وسبل تحقُّقه يوظف الكاتب استراتجيات بلاغة مضادة أو لنقل "هيرمنيوطيقا نقدية"(*) يحاول من خلالها تحرير القارئ من غوايات السلطة وتحصينه ضد ألاعيبها. سواء من خلال إيقاع الحبكة ككل موقع استعارة كبرى لنزع السحر عن بلاغة السيطرة، أو من خلال خلق ظرف صادم للقارئ بتكثيف سرد شكاوى وشهادات الضحايا بهدف تهيئته للقبول بإدانة السلطة والمشاركة في الحكم عليها، أو إضفاء وظيفة نقديّة على السَّرد بتغليب نبرة التهكُّم والسخرية عليه، أو من خلال نهاية مفتوحة يتنصَّل خلالها الكاتب من أيّ وعود أو ضمانات بخصوص ما قد يظهر مستقبلًا من سلطة جديدة ببلاغة جديدة. أو إضفاء طابع الشهادة على دوْر السارد وما يرتبط به من الإشارة إلى واقع متسلِّط. أو ما يحمله أسلوب تأليف الرواية من رمزيّة تنطوي على نوع من العدالة السَّردية التي تُفسح المجال أمام الاستماع لأصوات المقهورين والضحايا. وفيما يلي سنتناول هذه الاستراتجيّات بالتحليل:
• تعزيز أثر الصَّدمة على القارئ
من البداية يعزز السَّرد شعورًا بالصَّدمة والإنكار لأحداث متشابكة، القاسم الأعظم المشترك بينها هو استعباد شعب بأكمله على يد مجموعة من الشيوخ الذين يقسمونه إلى أودية، على رأس كل وادٍ شيخ يحتكر خيراته ويستعبد أبناءه. و"الشيخ"، في عُرفهم، هو الذي يعرف كيف "يدعس" رعيّته أو يسلخها كما تُسلخ الشاة "وإلا فلن يكون شيخًا". أمام هذا القانون تصبح السلطة هي الغاية التي تبرِّرها أيّ وسيلة حتى لو كانت التضحية بالزوجة، بالأخ، بالأخت أو الابن هي الثمن. ربّما لهذا السبب ولرسم صورة صادمة لوحشيّة السلطة يُفتتح السَّرد بمشهد يطلق خلاله الشيخ "مرداس" رصاصة الرحمة على ابنه "جبار" ذراعه الأيمن التي يقبض بها على الوادي. سرعان ما يُسلِّم السارد السَّرد لصوت والدة القتيل، "شبرقة"، لتستعيد في حزن ونقمة وقائع مصرع ابنيها "عنصيف" ومن بعده "جبار" مُلقية باللوم على والدهما. ووسط استرجاعات الأم المنكوبة ومن منظور "كلنا في الهم سواء" يبدأ السارد في مدِّ حكايات فرعية ذاق أبطالها، على يد شيخ الوادي وابنيه، مرارة السجن أو العبودية أو القتل أو التشريد في أحسن الأحوال. وبفرارهم يتكوَّن هامش خارج على السلطة، أبطاله كل واحد منهم "حكاية من الدموع تمشي على قدمين" بتعبير السارد.
من خلال حشد بداية كهذه مفعمة بالشكوى من ظلم شيخ الوادي وابنيه على لسان زوجته ولسان ضحاياه، ومن خلال حكايات الفارين استطاع السارد، بمكر، أن يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد. من ناحية أضفى السارد على استرجاعات "شبرقة"، زوجة شيخ الوادي، معنى الشهادة التي تشهد فيها شاهدة من أهلها على ظلم زوجها وأولادها للرعيّة. وبالتالي قطع الطريق على ما قد تدَّعيه السلطة بأنَّ ما تُتَّهم به من ظلم هو من افتراءات أعدائها. ومن ناحية أخرى حصَّن القارئ ضد التعاطف مع سلطة لا تأخذها رحمة حتى بأقرب الأقربين إليها، فما بالنا بالرعيّة؟! وبخلاف هذا وذاك فإنَّ مفتتح السَّرد، الذي يقع موقع مقدِّمة كبرى، رسم الأفق الكلّي للحكاية باعتباره أفق طغيان يستوجب المقاومة. ودعا القارئ، من ثمَّ، إلى ضرورة تبنّي ذاكرة الضحايا واحتضانها، بعد أن علّق لديه "عامل عدم التصديق" حتى يصبح جاهزًا لقبول انتقاداتها وشكاواها.
• توظيف السخرية في فكّ رمزيّات التسلُّط
من الآن، فصاعدًا، يستطيع السارد أن يتَّخذ تدابير يُعمِّق من خلالها وعي قارئه بألاعيب السلطة. وذلك بعد أن هيأهُ لفكِّ توريات الهمز واللّمز التي تتخلّل عباراته وحبكته ككل. يرسم السارد ساخرًا، على سبيل المثال، صورًا كاريكاتورية لدعايات يجري توظيف الدين خلالها من أجل إحكام السيطرة على الرعيّة. سواء من خلال خطط الشيخ "شنهاص" أو "الأخ الأكبر" كما يحبّ أن يناديه أنصاره، الذي يسعى لاسترداد سلطته على غرب الوادي، أو خطط "زيد الفاطمي" للاستيلاء على السلطة من الشيخ "مرداس" شيخ شرق الوادي. ومن خلال سرد الحكايتين على التوازي تبرز مفارقة السَّرد الكبرى: لا من خلال الدين أو "الكلام الناعم" الذي تستخدمه إرادة طامعة في السلطة، وإنَّما من خلال التكرار الذي تتمكن خلاله من خداع الناس، كل مرَّة، بالطُعم نفسه. والطريقة التي من خلالها يدخل الناس، كل مرَّة، مصيدة السلطة دون أن يتعلموا الدرس. بمكر يتمكّن السارد من فك شيفرة الخداع بمحاكاته محاكاة ساخرة تكشف عن التسلُّط الرابض خلف بلاغة تتغيَّر عباراتها دون أن تتغيَّر مقاصدها. ينقل إلينا السارد، على سبيل المثال، حسًّا بالسخرية من خطب "شنهاص" المُتخمة ببلاغة تستشهد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، مردفًا سخريته برسم صورة كاريكاتورية لرجل انتهازي يتقمَّص دوْر مجاهد يجاهد في سبيل الله بلا مصلحة أو غرض! يحاكي السارد عبارات "شنهاص" بأسلوب تهكُّمي، بعد أن كتم صوته، معرِّيًا المقاصد والنوايا الحقيقية المستترة تحت غطاء بلاغته. يقول مثلًا: "وأثنى شنهاص على..."، "وأردف مزهوًّا..."، "ثم ختم كلامه بالثناء على ناصبة وحكمتها..."، "واسمحوا لي بأن أقترح...". وبمحاكاته لبلاغة الهيمنة، بعث السارد بإيماءات ساخرة إلى قارئه ليفتح عينيه على السلطة التي تتنكَّر في عبارات بليغة بهدف تخدير السامعين وإخضاعهم.
وبخلاف ذلك فإنَّ مقابلة أصوات تتوثَّب للقفز على السلطة مثل صوت "شنهاص" أو "زيد الفاطمي"، بأصوات ثائرة، مثل صوت "عرام" أو "ناصبة" قد سمح للقارئ أن يميِّز، في الخيال، بين أصوات الطغاة وأصوات المناوئين لهم. وأن يعرف، بوضوح، مع مَن يجب أن يتعاطف. لاسيّما وأنّ السارد قد أخرس أصوات الطغاة، في مقابل ترك المجال مفتوحًا أمام أصوات الساخطين. بالإضافة إلى ما يصطنعه من سخرية إذا ما كان السياقُ سياقَ حديث عن الطغاة، وما يصطنعه من جديّة وحماسة إذا ما كانت الكلمة لمناوئيهم.
• تعليق النهاية
وصول الرواية إلى ختام بوصول سلطة جديدة "بكلام ناعم جديد" إلى سدّة الحكم مكّننا من بلورة حكم كلّي حول الظلم الذي، كرأس هيدرا، كلّما دالت له دولة قامت أخرى. وعمّقت شعورنا "بلانهائية" الحِيَل البلاغية التي يمكن أن تحتال من خلالها السلطة على عقولنا. مرَّة أخرى يستخدم السارد سلاح السخرية ليعرّي زيف بلاغة خطب "جمال مرداس" الناصري الجديد تاركًا للقارئ أن يقارنها ببلاغة التجربة الناصرية وبما أدَّت إليه من قمع واستبداد. ولنلاحظ المفارقة التي تنطوي على المشابهة في الاسم والتجربة بين "جمال مرداس" و"جمال عبدالناصر". يقول السارد: "التفت جمال ملوّحًا بيديه في الهواء موزّعًا ابتسامته الناعمة يمينًا وشمالًا، ثم واصل خطبته: أيها الشعب لقد أتينا لإنقاذكم من الكهنوت باسم الله ومن السلالية والدجل فلا مذهبية ولا سلالية بعد اليوم كلنا إخوة سواسية. وأدعوكم اللحظة لتشكيل لجان ثورية لملاحقة أعداء الثورة وتعقب العملاء حتى نطهِّر وادينا من رجسهم، مَن استباحوا كرامتكم واستعبدوكم".
أيضًا اختفاء "جمال مرداس" فجأة ودون أن يقطع السَّرد برأى في أسباب اختفائه، وانقسام الناس فيما بينهم على مَن يتولى زمام السلطة عزّز من معنى نهاية مفتوحة لا تقطع برأي ولا تنتهي إلى حُكم باتٍّ بخصوص أيّ سلطة مستقبلًا. ربَّما لأنَّ المستقبل بطبيعته غامض فعلًا، وربَّما لصعوبة الثقة في أيّ سلطة على الإطلاق. وبالتالي تضاف النهاية إلى جملة الاستعارات التي استخدمها الكاتب للإجهاز على أوهام القارئ. وفوق هذا وذاك فإنَّ نهاية لا تقطع برأي في شيء سوف تباعد، بطبيعة الحال، بين الكاتب وبين أيّ وصاية يمكن أن يفرضها على قارئه. إنَّ القارئ، من هذا المنظور، يجب أن يكون حرًّا ومسئولًا وقادرًا على اختبار حريّته في مواجهة بلاغات السيطرة المُحتملة مستقبلًا. يقول السارد: "تهامس الناس بإشاعات لغياب جمال، منها أنه حين أتى كان مريضًا، وقد اشتد عليه المرض حين رأى والده، ومنها أنّ قارون سامره طيلة الليل، وقبيل الفجر خرجا من الحصن، ولا يعلم أحد أين وجهتهما. انقسمت الجموع، قسم يرى أن تتولى عيشة مواجهة المخاطر المحدقة حتى ظهور ولدها، وقسم رفض أن تقوده امرأة وانسحبوا مستشهدين بآيات القرآن وأحاديث المصطفى "لا ولاية لامرأة". تفرَّق الجمع وظلَّت الدبّابة رابضة جوار أعمدة الساحة في سكون، إلا من عصافير أخذت تبني أعشاشها في داخل مدفعها، وعناكب نشطت تنسج بيوتًا في زواياها".
• سارد أم شاهد عيان؟
سوف يلاحظ القارئ وجوه الشبه التي تجمع سارد رواية "حصن الزيدي" بسارد نجيب محفوظ في رواية "أولاد حارتنا". فكلاهما يحيا واقعًا يهيمن عليه مجموعة من "الشيوخ" أو "الفتوّات" سواء في "الوادي" أو في "الحارة" ينهبون خيراته ويستبدّون بأهله. وكلاهما قرّر أن يسجِّل ما رآه أو سمعه من حكايات الظلم. إمّا خوفًا من النسيان كما صرّح سارد نجيب محفوظ، إذ إنَّ "آفة حارته النسيان" كما قال. وإمّا رغبةً في توعية أهل الوادي وتحذيرهم من الوقوع في فخ الاستبداد كما هو لسان حال سارد رواية "حصن الزيدي". غير أنَّ ساردنا، بخلاف سارد محفوظ، لم يعلن عن نفسه، ولم يحدِّد لنفسه مهمةً أو غرضًا، ولم يربط بين ما يحكيه وبين أيّ رسالة من أيّ نوع. إنه يتحدث ويتكلم إلينا دون أن نتمكّن من معرفة شيء عنه، أو عن شخصيّته، أو عن الأسباب التي دفعته لتسجيل حكايات واديه. خصوصًا وأنَّ مثل هذا التسجيل يُعدُّ مغامرة غير مأمونة العواقب في ظروف كالتي يحياها. ومع ذلك فإنَّ اضطلاع السارد بسرد قصة واديه وسرد الأحداث التي تجري على أرضه، وتبنّيه للهجة ساخرة حادّة تجاه شيوخ الوادي وحكّامه وتجاه المتطلعين للسلطة عمومًا، يكشف لنا الكثير عن شخصيّته. ربّما يكون السارد، وهذا هو المُرجّح، أحد القلائل الذين حصلوا على قسط وافر من التعليم في يمن الخمسينات والستينات. يحملنا على مثل هذا الظن معرفة السارد بتاريخ واديه، وما يجري على أرضه من صراعات. يقول مثلًا في مفتتح حكايته: "حتى يوم مقتل عنصيف كانت قرى الوادي مقسمة إلى مشيختين: فقرى مشرق الوادي تتبع حصن مرداس وقرى مغربه تتبع شنهاص في قرية الجفنة". أو من خلال إلمامه بما يجري من تحوُّلات تاريخيّة في بلده ككل، مثلًا: الظروف التي واكبت رحيل الاستعمار الإنجليزي وبزوغ سلطة عسكرية جديدة تعيد تسمية أدوات الهيمنة بطريقتها. أو من خلال إلمامه بتاريخ الصراعات السياسية والدينية في ثقافته العربية ككل: إبرازه لشخصية "زيد الفاطمي" وما يتبعه من الإشارة إلى "الزيدية" بخلفيّتها الدينية والسياسية المعروفة في تاريخ الإسلام، على سبيل المثال. وبالتالي فهو قادر على تشخيص أمراض واديه، وأمراض بلده ككل. وقادر، من خلال هذه الدراية الواسعة بالتاريخ، على انتقاد "الأيديولوجيا" التي من خلالها يمكن أن تكون سلطة ما ممكنة. على سبيل المثال تمكّن السارد، من خلال التعريض بخطبة "جمال مرداس" الناصري الجديد، من كشف الهيمنة القارة في خطابه الواعد بأدواتها التقليدية: الرمزية الدينية والوصاية الفردية التي تُقصي خصومها بأساليب تتغير مسمياتها وتتوحد مراميها. يقول السارد على لسان "جمال مرداس": "أدعو كل الأحرار للاجتماع هنا أمام الحصن، الذي سيتغيَّر اسمه إلى "حصن الثورة"، لا حصن الزيدي، وهذه الساحة ساحة الثورة، هنا سننشئ ضريحًا رمزًا للثورة، ومنكم سنشكل لجانًا ثورية لتنطلق لملاحقة من يُشتبه في مناصرته للخونة أعداء الثورة واقتيادهم لينالوا جزاء خياناتهم".
غير أنَّ ساردنا، مع ذلك، ليس مؤرِّخًا ولا يتغيّا، ببساطة، مجرّد تسجيل الوقائع أو التعليق عليها. إنه سارد حَذَقَ فن الحكاية وتمرَّس في فنونها، قبل أي شيء، لاسيما في ظروف اضطرارية كالتي يحياها. لقد فهم ووعى الدور الذي يمكن أن تلعبه الحكايات في تغيير الناس. ما غيّرته حكايات "شادن"، في "زهرة"، مثلًا، وما غيّرته حكايات "المحابيس" في "قارون" وكيف "رتبت عقله وقلبه". وبالتالي فالحكاية، كما يفهمها، ليست بسيطة ولا هي مجرد تسلية. إنها بمثابة سلاح ماضٍ وفعال. والسارد كما يعكس السَّرد ملامحه، شخصية تتمتع بالكثير من الدهاء وسعة الحيلة. فهو يعرف كيف يبدأ حكايته وكيف ينهيها، وكيف يُضمِّن حكايته من التوريات الدالة ما يحقق أهدافه دون أن يستفز خصومه، ودون أن يثير الشكوك حوله. فقد تعمَّد، على سبيل المثال، أن يوظِّف لغة مباشرة وشفافة ليوهم المستمعين أو القراء غير المقصودين برسالته بحياديّته وتجرُّده تاركًا للحبكة ككل أن تكون استعارته لما يريد إبلاغه لقرائه المقصودين برسالته. غير أنَّ لغة محايدة لا تتجنّب وحسب قرّاءً غير مقصودين وتخاطب آخرين مقصودين، ولكنها تنتقد، من طرف خفي أيضًا، أصحاب البلاغة المجانية الذين لا يملكون إلا الكلام، الكلام وحسب. وتحاول جاهدة أن تكشف زيف هذه البلاغة. هذا بالإضافة إلى ما يتيحه الحياد المزعوم من توسيع فضاء الصمت في الحكاية. والصمت فضاء الأصوات المقهورة. إذ يدفع الحياد الذي تعلّقه الحبكة وتؤشّر على ما يخفيه من معانٍ إلى تدبُّر فجوات السَّرد، وربط الأجزاء بالكل والبداية بالنهاية لإنطاق المسكوت عنه. ممّا يطلق العنان، بالتالي، لخيال القارئ ليذهب بعيدًا في تأويل الحوادث وتدبُّر معانيها. وبذلك أضفي السارد على حكايته معنى الشهادة، ما دامت الشهادة دائمًا ما تكون مغلَّفة بالصَّمت، كما تقول "شوشانا فليمن".
قد يكون حياد السارد المزعوم، أيضًا، مجرد حيلة احتال بها على شيوخ واديه بعد أن أوهمهم أنه بحكايته هذه يسجل، لا ظلمهم وتسلطهم، وإنما حزمهم وصرامتهم في مواجهة المتمردين والخارجين على القانون. طالما أن المستبدين غالبًا ما يفقدون الشعور بمعاناة ضحاياهم ويكتسبون بالتقادم حق التنكيل بهم. هذا العماء الذي تعززه السلطة في أصحابها يغريهم برؤية ما يريدون رؤيته وحسب في حكايات القمع غافلين عن المعاني الأخرى التي تتبطن المعنى الظاهر وتختفي وراءه. من خلال هذه الحيلة تمكّن السارد، من ناحية، من تعليق دوافع الشك والارتياب لدى شيوخ واديه، ومن ناحية أخرى قلّل من فرص نجاح الواشين في الإيقاع به. فالأمر لا يخلو من مكيدة قد تُدبر له هنا أو هناك. ولا يخلو، بالمثل، من واحد من أبناء واديه يشكك في إخلاصه أو في نزاهة المهمة التي نذر نفسه لها. وبالتالي فإنّ احتياله لاتقاء غضب الشيوخ وشكوكهم احتياط لا بد منه، من أجل ضمان نجاح مهمته وتمرير حكايته للأجيال الجديدة من أبناء واديه. وربما لكل مَن يعاني من ظلم أو استبداد من أبناء الأودية الأخرى.
• رمزيّة عناوين الرِّواية في مقابل أحداثها
غير أنَّ ما يلفت النَّظر، قبل وبعد كل هذا، هو عنوان الرواية "حصن الزيدي". إذْ خلافًا للعادة لم يكن عنوان الرواية من بين العناوين التي حملتها فصولها الثلاثة. كما أنَّ الفصل الذي كان جديرًا بحمل اسم "حصن الزيدي" والذي تجري خلاله أحداث تخطيط "زيد" للاستيلاء على السلطة وتأسيس حصنه الجديد حمل اسم "زهرة" ليُخيِّب الكاتب توقُّعاتنا هذه المرَّة أيضًا بخصوص ما يجب أن نحمله على محمل الجدّ من عناوينه ومن أحداث روايته. وعلى كل حال فليس هذا التبادل بين الاحتفال بشخصية ما وسط الاحتفاء بحدث آخر بلا معنى. فشخصية "زهرة" التي تمنحنا معنى التسامح والتطلع إلى عالم بديل هي بمثابة الضوء الذي يكشف للقارئ وهم أن يكون هذا العالم البديل هو حصن جديد بضريح جديد، "حصن الزيدي". ومن ناحية أخرى فإنَّ إسقاط اسم "حصن الزيدي" من فصول الرواية وإثباته في مركز أحداثها هو، بشكل أو بآخر، استمرار لنهج السخرية الذي يعتمده السَّرد. فإذا كانت حكاية الحصن الجديد قد تكشَّفت عن كذبة كبيرة وضريح فارغ، فإنَّ تسمية الرواية باسمه لا يمكن حمله إلا على محمل السخرية من الحصون وأصحابها. لاسيما وأن مفارقة كذبة الحصن وضريحه الفارغ لا يعادلها إلا مفارقة أن تكون الرواية اسمًا على غير مسمّى.
من جانب آخر فإنَّ اسم "الزيدي" ليس اسمًا بسيطًا ولا عاديًا. إذ يشير الاسم إلى انتساب صاحبه إلى أحد المذاهب الدينيّة المعروفة في تاريخ الإسلام باعتناقها لمبدأ "الخروج على الحاكم الظالم"، والإشارة هنا إلى مذهب "الزيدية". يحاول "زيد الفاطمي" إثبات نسبه لآل بيت النبي مرارًا وتكرارًا، وما يترتب على هذا النسب، على حد زعمه، من تسخير الناس له: "نحن من سلالة أطهر خلق الله، ومن نعيش بينهم من الرعية وغيرهم سخّرهم الله في محبتنا". أو من خلال بناء ضريح يتبرّك به الناس ويضمن له، في الوقت نفسه، إضفاء نوع من القدسية على سلطته. سوف يلاحظ القارئ كيف أدرك "زيد" أهمية الدين في السيطرة على الرعية، وكيف خطط بإحكام لصوغ خطاب ديني لترسيخ أسس سلطة يُعدُّ الخروج فيها على الحاكم خروجًا على الدين. وهو ما يصنع مفارقة أخرى بين الجماعة التاريخية "الزيدية" المناوئة للظلم باعتناقها لمبدأ "الخروج على الحاكم الظالم"، و"الزيدية" الجديدة التي يروّج لها "زيد الفاطمي" والتي تصبح فيها الرعية مُسخّرة، بقوّة المحبّة، لخدمته. من هذا المنظور فتح السَّرد مجالًا أمام قراءة الرواية في ضوء تجارب الصراع على السلطة وعلاقتها بالدين في تراثنا العربي الإسلامي. وأكّد، بالتالي، على فكرتها الأساسية حول الدين، الوسيط الذي لا تخيب وساطته، لكل إرادة طامعة في السلطة.
تقسيم الكاتب روايته، أيضًا، إلى ثلاثة فصول يحمل اثنان منها اسمي "زهرة" و"قارون" في مقابل فصل ثالث يحمل اسم "مرداس" لم يكن، بالمثل، بلا معنى. إذ يحمل مثل هذا التقسيم، في بعض معانيه، تغليبًا سرديًّا لرمزية الخير التي تمثلها "زهرة" و"قارون" على رمزية الشر التي يمثلها "مرداس". ويحمل في بعض معانيه الأخرى معنى توسيع الفضاء السَّردي الذي يمكن أن تنطق من خلاله أصوات الضحايا المكتومة. وبذلك عكس تقسيم الرواية نوعًا من العدالة السَّردية للمظلومين، ومثَّل، في الوقت نفسه، فعلًا من أفعال المقاومة التي أكدّ بها السارد انحيازه للضحايا. ليس من الغريب، بعد ذلك، أن يبرز صوت "زهرة" ابنة الأخدام التي تربت في الحصن مثلما برز من قبل صوت "جبل" ربيب الحارة في رواية "أولاد حارتنا" الذي تربى، بالمثل، في سرايا حضرة الناظر. فلم تستطع عيشة القصور ولا تربية السادة أن تفل من عزيمتهما في مواجهة الشر أو أن تقتل فيهما شعورهما بمعاناة المقهورين. أو أن يبرز صوت "قارون" الذي غيّرته "حكايات المحابيس" وأعادت ترتيب عقله وقلبه، وفارقه، منذ تلك اللحظة، سلامه النفسي ليجد نفسه ممزقًا بين التعاطف مع مروق وثورية صديقه "عرام" الذي اعتبر المشيخة "فاتحة ظلم"، وعدم القدرة على الخروج من عباءة "الأخ الأكبر" "شنهاص" المتوثب للقفز على السلطة. بين عالم الشيوخ الذي نشأ وتربى عليه، وعالم آخر جديد يولد لم يعرفه من قبل. في موازاة هذا المخاض الشخصي يخوض اليمن مخاضًا تاريخيًا باندلاع ثورة العسكر المتطلعين للسلطة مع بداية رحيل الاستعمار الإنجليزي. حيث سلطة قديمة تتمزق وأخرى جديدة ببلاغة جديدة تتهيأ للهيمنة.
- - - - - - - - - -
(*) استفاد المقال من بعض المراجع ذات الصلة بموضوعه:
- بول ريكور، الذاكرة والسَّرد، ت: سمير مندي، دار كنوز المعرفة، الأردن، 2016.
- عبدالفتاح كيليطو، الأدب والارتياب، دار توبقال للنشر، المغرب، 2013.
- Shoshana Felman and Dori Laub, Testimony: Crises of Witnessing in Literature, psychoanalysis and History, Routledge, New York, 1992.