‏"فاكهة للغربان" للرِّوائي اليمني أحمد زين أحلام اليسار العربي المُجهضة

جميلة عمايرة

كاتبة أردنية

 

في رواية "فاكهة للغربان" جَذَبَ الرِّوائي أحمد زين القارئ معه وحاز اهتمامه، بتتبُّع حيوات ‏وشخوص الرِّواية، وخاصة البطل "جياب" قبل اختفائه الغامض، وعشيقته البطلة "نورا" قبل أن ‏تنعطب قدميها؛ قبل أن تبدأ بسرد ذكرياتها، وقبل أن تنعق الغربان أمام نافذتها، قبل أن تصبح ‏‏"اليمن" كلها فاكهة للغربان، في إشارة لا تخلو من ذكاء سردي امتلكه الرِّوائي بمهارة ودربة، ‏سردٌ موارب حينًا ومباشر حينًا آخر. ‏

 

في البدء كانت الكلمة، وفي النِّهاية ستكون.‏

على الرّغم من الحروب؛ سواء أكانت حرب متَّصلة أم متقطِّعة، عاشها أو عايشها "اليمن" على ‏مدار نشأته وحتى يومنا هذا، فقد بقيَت الكلمة مدوّية، ولم تستطع حجبها كثافةُ السُّحُب الدخانيّة ‏السوداء، والقنابل المدمِّرة التي لم تتوقّف إلا لتظهر ثانية بعنوان مختلف وبمسمّى جديد.‏

منذ أكثر من خمس سنوات والحرب مشتعلة هناك "اليمن" وقودها الأرض والدماء والأشلاء ‏المتناثرة، والفقر والجوع والمرض والحصار والمليشيا، ولم تتوقف بعد، ولا أحد يعلم متى ‏ستتوقف أو إلى أين ستقود اليمن التاريخ والحضارة والإنسان! ‏

أمام كل هذا الخراب والتَّدمير، ما هو وضع الكاتب والقاص والروائي اليمني أزاء هذا كله؟ وما ‏مدى مقاومته وفضحه لهذه المنظومة المُرعبة التي ابتُليت بها اليمن وما تزال تعاني منها؟ ما هو ‏واقع الرِّواية اليمنيّة ودوْر الرِّوائي اليمني اليوم؟ قد يبدو السؤال مضافًا وفي غير مكانه أو ‏زمانه، أمام هذا الواقع الذي يعيشه الكائن/ الفرد اليمني وحيدًا معزولًا وهو يرى بلاده تُقضم ‏قطعةً قطعة!‏

على كل حال هي تساؤلات راهنة، وعلى الناقد المتابع للمشهد الثقافي اليمني أن يجيب ويتوقَّف ‏أمام هذه التساؤلات الملحّة بالحالة اليمنيّة الراهنة. ‏

يتبقى عليّ القول، ومن خلال متابعتي لزملاء وزميلات كُتاب وشعراء وروائيين: إنَّ المشهد ‏يبشِّر بالخير. فما يزال ملتقى القصة يعقد ندواته الأسبوعيّة برعاية الروائي "محمد الغربي ‏عمران" وزميلاته. بمعنى ثمّة مقاومة لكل هذا الخراب والبشاعة بالكلمة؛ قرأنا للشاعر جلال ‏الأحمدي وأسماء سليمان، والغربي عمران وحبيب سروري، وأحمد زين الذي تعرَّفنا إليه في ‏عملِه المتمِّيز"قهوة أمريكية" منذ سنوات عديدة... وأسماء أخرى لا تقلّ تميُّزًا لم يصلنا نتاجها ‏بعد.‏

‏"فاكهة للغربان": أحمد زين‏

واليوم يطالعنا الرِّوائي أحمد زين برواية بهذا الاسم الذي يحيل لدلالات تأويليّة "فاكهة ‏للغربان"(منشورات المتوسط)؛ حين تؤول فاكهتكَ للغربان الجارحة السوداء، وتنهشها وكأنّها ‏جسدكَ أو جسد المدينة. فاكهة عدن.‏

تبدأ الرِّواية عن المدينة "عدن" وتنتهي بها. يتحدَّث عن ثورتها المجهضة، عن تأميم المباني ‏والأراضي، عن اشتراكيّتها النّاقصة، وعن تحوُّلها لملاذ وحاضنة لثوار العالم ويساريّيه. يكتب ‏عن المرأة "العشيقة" وكيف خُذلت وتمَّ كسرها وتهميشها وقُتل حبيبها "جياب" الثائر الذي قُتل ‏على أيدي رفاقه الثوّار.‏

يكتب أحمد زين بلغة سرديّة آسرة، مستخدمًا تقنيات وأساليب سرديّة حديثة على الرّغم من تعدُّد ‏الشخوص ومواقعهم ومواقفهم ممّا يحدث بالحزب والثورة، فينهض السرد بشخوصه من زوايا ‏ووجهات نظر مختلفة مسكوت عنها في حلم الثائر والثورة، إثر خيانة الرفاق قبل الآخرين. هي ‏رواية متميزة ولا تستطيع الإفلات منها قط وأنت تقرأ وتتعرَّف على مدينة "عدن" وثورتها ‏المجهَضة، وحلمها الذي لم تستطع أن تنهض به في سنوات من عمر اليمن وتاريخه فجفَّ ‏ومات. ‏

 

مدينة عدن

عاصمة اليمن الجنوبي، عاصمة جمهورية اليمن الديمقراطية. عاصمة الرفاق الثائرين وملتقاهم، ‏ملاذ للشيوعيين الماركسيين من العرب ومن أقطار شتى. يحلمون بتغيير العالم وباشتراكيّته ‏الحتميّة. اليسار العربي المتين، ثائرون يجتمعون بالمقاهي والزوايا اليمنيّة مع رفيقاتهم في ‏الحزب يدخِّنون السيجار الكوبي الفاخر "من كاسترو" شخصيًّا، أو سجائر "المارلبورو الحمراء" ‏ويحتسون فودكا الرفاق الروس، ويرتدون ملابس باهظة الثمن بماركات إمبرياليّة. ‏

لكن كارثتها والتي أدَّت لفشل ثورتها وسقوطها تتمثّل في أنَّها "المدينة التي ارتكبت أحلامًا تفوق ‏طاقتها على التحمُّل"، بحسب مُفتتح رواية أحمد زين، وبؤرة الحدث الرَّئيس ونهايته الحزينة. ‏عدن ذاتها التي أضحت بعيدة وشاحبة وخالية من الثوّار سوى غربان سوداء تنقر نوافذ بيوتها ‏وتنعق بالخراب، لتغدو مدينة محبطة وحزينة وخالية من وجوه الرفاق والثائرين، الذين اختفوا ‏كل إلى مصيره، مَن تفرَّق ومَن هاجر ومَن بقي حيًّا أو عاد خائبًا لقريته الجبليّة البعيدة، أو ‏اختفى فجأة قبل أن يُصفّى ويُسحل حتى ولو كان رئيسهم، ومَن مُثِّل بجثَّته على أيدي رفاقه ‏الثوّار. ‏

كل هذه المشاهد والأحداث سنطالعها بالرِّواية بحذر وأناة من تاريخ "اليمن الحديث"، لتسير على ‏حبل سردي رفيع متقن ومشغول بدربة روائيّة فذّة، على مدار ما يقارب مئتين وأربعين صفحة ‏من القطع المتوسط، وعبر اثنان وعشرين فصلًا روائيًّا أشرَكَ الكاتبُ المتلقّي معه ليصبح شريكًا ‏بتتبُّع تفاصيل دقيقة وبالغة الحساسيّة والخطورة، في مرحلة من تاريخ اليمن "الجنوبي" وثورته ‏الحزبية الشيوعية في ثمانينات القرن المنصرم.‏

جذب الروائي القارئ معه وحاز اهتمامه، بتتبُّع حيوات وشخوص الرِّواية، وخاصة البطل ‏‏"جياب" قبل اختفائه الغامض، وعشيقته البطلة "نورا" قبل أن تنعطب قدميها؛ قبل أن تبدأ بسرد ‏ذكرياتها للرفيق "صلاح" لكتابتها، وقبل أن تنعق الغربان أمام نافذتها، بل وتقرع بابها بأجنحتها ‏القوية، قبل أن تصبح "اليمن" كلها فاكهة للغربان، في إشارة لا تخلو من ذكاء سردي امتلكه ‏الروائي بمهارة ودربة، سردٌ موارب حينًا ومباشر حينًا آخر. كل هذا وغيره الكثير ممّا اقترفه ‏‏"الرِّفاق الحزبيون" ورفاق آخرون تجمَّعوا من أقطار مختلفة، من فلسطين وبيروت والعراق ‏والجزائر وكوبا وروسيا وألمانيا وبولندا وغيرها.‏

إلا أنَّ ما يشفع للرِّوائي -وعلى الرّغم من وعورة وسخونة المشاهد والأحداث والوقائع السياسية ‏والحزبية بكل ثقلها من رموز ودلالات سادت آنذاك في شطر اليمن الجنوبي- ما يشفع له هنا ‏استخدامه طرق وأساليب سرديّة حديثة وبلغة شفيفة آسرة تجنح للتخييل والصور الجميلة في ‏مشاهد الحب والحزب والثورة والخذلان والخيانة في هذا العمل المتميّز بحق. ليخرج المتلقّي ‏وليس أمامه من حقيقة، كما هي "نورا" بطلة الرِّواية التي ستقول في النهاية وهي تتحسَّس قدميها ‏المعطوبتين بلا حراك في منزلها الحزبيّ قبل أن تُطرد منه: "ما حياتي وقد أمْسَت خالية من هذا ‏كلّه؟". ‏

نورا- جياب: "نحن الذي خُذلنا بالثورة وبالحُب"‏

ابنة تاجر برجوازي، وشيخ قبيلة أمضى عمره في تجارة الماشية لصالح المُستعمِر الإنجليزي، ‏وفوق هذا لها شقيق ضابط في الجيش درَّبه وعلَّمه المُستعمِر.‏

تعيش في ترف، إذْ تربَّت تربية إنجليزية حين تركها الأب خلال سفراته الطويلة لتعيش وسط ‏أسرة إنجليزية مقيمة في عدن وتكتسب عاداتهم. حتى "الشاي" تتناوله على الطريقة الإنجليزية ‏الإمبريالية مع قطع الكيك الصغيرة"، انتمت للحزب في عدن متأثرة بأفكار الاشتراكية والتحرر، ‏وخاصة للمرأة في الجنوب، وصارت راقصة فلكلورية في الفرقة الوطنية في عدن ولتمثِّل ‏بلادها في أكثر من بلد اشتراكي، وخاصّة وجهة وحلم الثائرين العرب وقبلتهم "روسيا". ومن ‏وجهة نظر قائدها الحزبي "جياب" فإنَّ الثورة تعني الانحياز إلى كل ما هو روسي، ويعني هذا ‏‏"الانحياز للكرامة والحريّة والعدالة". لتنضمَّ للفرقة الوطنيّة، ترقص بلوحات فلكلورية وعلم ‏الجمهوريّة اليمنيّة الديمقراطيّة الشعبيّة يغطّي جسدها، والجماهير الغفيرة تصفِّق لها في عواصم ‏بلدان العالم التي تزورها برفقة رئيسها الحزبيّ الثائر "جياب".‏

تقع هذه المرأة "نورا" التي تتوهَّم بأنَّها صارت ثوريّة وحزبيّة في حُبّ رئيسها ورفيقها بالحزب ‏‏"جياب" وتصبح عشيقته التي لا تفارقه في معظم أوقاته داخل اليمن أو خارجها. "جياب" الثائر ‏الرَّئيس الذي تحوَّل من عامل صغير وفقير في مرفأ عدن إلى شخصيّة حزبيّة كبيرة يرتدي "بدلة ‏سوداء" ويلتقي زعماء ورفاق في المعسكر الاشتراكي، ويعقد معهم العقود والاتفاقيّات لدعم ‏وتمكين التجربة الحزبيّة في بلده، حين كان "لا صوت يعلو فوق صوت الحزب".‏

‏"جياب" الذي أخذ اسم المناضل الحزبي الفيتنامي "فون نغوين جياب" وتسمّى به تيمُّنًا ومثالًا ‏والذي هزم الغرب الإمبريالي بصمود لا مثيل له، "جياب" الثائر عشيق "نورا" رفيقته ‏ومرؤوسته في الحزب والرّاقصة المبدعة في الفرقة الوطنيّة لبلادها.‏

تبدَّت مشكلة "جياب" وعقيدته النّاقصة، كما تصفه "نورا" بأنه كان "شديد الإيمان بأحلامه ‏وكافرًا برفاقه"، في حين كانت عشيقته تؤمن بـِ"جياب" أكثر من الثورة والحزب. هذه المعادلة ‏التي أوْدَت بهما إلى مصيرهما البائس، إذ اختفى "جياب" نفسه قبل أن تتمّ تصفيته على أيدي ‏رفاقه، في حين تمَّ الاعتداء على "نورا" ذات ليلة معتمة من قِبَل مجهولين لتصبح امرأة شبه ‏مُقعدة تسرد الأحداث وما تجود به الذاكرة للرفيق "صلاح" ابن بلدها الذي لم يكُن يستوعب هذه ‏العلاقه بين رئيسه وهذه المرأة "نورا" بوصفها ابنة شيخ لقبيلة كبيرة، وبين "جياب" الثائر ‏الماركسي الذي كان في طليعة مَن سَلَبوا شيوخ القبائل وأحفاد السَّلاطين ألقابهم وممتلكاتهم، ومَن ‏شارك في تصفية كبار الضبّاط في الجيش، كما الرَّئيس نفسه الذي أعدم "سالمين"، واستبدلهم ‏بالريفيين والفدائيين بقصد تأمين الحزب والثورة من ما أسماه "القوى الرجعيّة". ‏

لكنَّ الرفيق "صلاح" وبعد اقترابه من "نورا" يُعيد اكتشاف نفسه ثانية "رجل ريفي بسيط يريد أن ‏يكون كامل الإيمان بالثورة وبالحزب"، ويتعرَّف من جديد لرئيسه "جياب"، من خلال ما سردته ‏عشيقته، ويكتشف أنَّ رئيسه الذي كان بالأمس القريب ثوريًّا أمسى عميلًا إمبرياليًّا، مع رفاقه ‏الحزبيين، والمبادئ التي عاينها والأحلام -وبعد فوات الآوان- وهي تتكسَّر بأيديهم قبل الآخرين، ‏وتتكشّف عن صحراء قاحلة جافة، ويلحقه القمع حتى بالحلم، ليجد نفسه في ما يشبه المُحاكمة ‏بمكان يجهله في عراء كالح، ليفرّ تاركًا وراءه كل شيء، ويعود لمسقط رأسه في قريته ‏الجبليّة(الرِّواية، ص94).‏

 

نعيق الغربان

تُسدل السِّتارة بلون أحمر قانٍ، ويتكشَّف السرد منبئًا عن مشهد حزين وكئيب، بنهايات موجعة ‏وصادمة: تنعق الغربان في عدن. وتجهض الأحلام. وتسيل دماء. فالبلاد العظيمة لا تنهض من ‏دون ضحايا"- (ص217)"دماء قليلة ضروريّة". تموت الثورة برصاص ثوّارها، ويموت الحلم ‏بإجهاضه من الحالم الثوري. ويموت الرفاق قتلًا بسلاح رفاقهم، بعد انقلاباتهم الخفيّة، أمين عام ‏جديد للحزب مكتوب بالدّم.‏

يموت الحب ويتكشَّف عن سراب خادع ومضلِّل. تقع "نورا" ضحيّة كل شيء: "جياب"، الثورة ‏والحزب والرفاق والغناء. تُخلي بيتها الحزبي الذي مُنح لها من الحزب في بدايات الثورة، ولا ‏تملك شيئًا سوى ذكرياتها بعد أن تمَّت تصفية "جياب" ذات ليلة مظلمة إثر خيانة الرِّفاق من ‏حرّاسه، وخروج الرائحة على الملأ. ‏

تفشل الثورة وتفتك بأبنائها. تعود ثارات مناطقيّة وضغائن لقبائل لم تؤثِّر بها الأيدولوجيا ‏والحزب والشيوعيّة. "كيف سيكون طعم الرّفاق في أفواه الغربان وبين مخالبها؟!"، ترقص ‏‏"نورا" بطلة الرِّواية، ترقص غير آبهة لشيء لكنَّها رقصة المرأة التي ذُبحت من الوريد إلى ‏الوريد كما الثورة، وعدن والرِّفاق والملاذ. ‏