عرض كتاب: "الحضارة ومضامينها"‏

خالد العبادي

كاتب مغربي

 

موضوع الحضارة من المواضيع المفتوحة على مستويات عدَّة، يناقش كتاب ‏‏"الحضارة ومضامينها" جانبًا منها، وفي هذه المقالة عرْض لأهمّ الأفكار التي أوردها ‏مؤلف الكتاب "بروس مازليش" حول أصول مفهوم الحضارة وأهميّته، والحضارة ‏بوصفها أيديولوجية استعماريّة، وباعتبارها أيديولوجية أوروبيّة، كما يناقش مفهوم ‏العمليّة التحضريّة، والحضارات الأخرى، وحوار الحضارات في عصر عالمي.‏

كتاب "الحضارة ومضامينها" لـ"بروس مازليش" ترجمه للعربية: د.عبدالنور خراقي، ‏وصدر ضمن سلسلة عالم المعرفة، العدد412، ماي 2004، يقع في سبعة فصول. ‏سنحاول تاليًا أن نقدِّم عرضًا لأهمّ الأفكار الرَّئيسة في الكتاب.‏

في مُستهلّ الفصل الأوَّل "أصول مفهوم الحضارة وأهميّته" يذكر "بروس" أنه في ‏عالمنا المعاصر، يتم تلفُّظ كلمة (حضارة) بسهولة، مستخدمة ضمن سياقات لا تعد ‏ولا تحصى؛ "فهي تستعمل للإشارة إلى كل أنواع المجتمعات السابقة بدءًا من بلاد ما ‏بين النهرين، والرومان، والأزتيك، إلى المجتمع الغربي المعاصر ونظرائه. وقد ‏أضحينا نسلم بأن هذه الكلمة كانت متداولة منذ فجر الحضارة"، ولكنَّ "الوجود المادي ‏لاسم (حضارة) باعتبارها مفهومًا لم يظهر قبل عصر التنوير، بل كان لفظة جديدة ‏في ذلك العصر. وإنَّ مهمّتنا الأولى إذن تتجلّى في فهم كيفية حدوث هذه الصياغة ‏اللغوية والأسباب الكامنة وراءها والمضمون الذي تحمله"(ص19). وللقيام بذلك يرى ‏‏"بروس" ضرورة التمييز بين كلمة متحضِّر باعتبارها صفة، وكلمة حضارة ‏باعتبارها اسمًا، والسبب في ذلك هو أنه منذ آلاف السنين ظلت الشعوب تميِّز نفسها ‏عن الآخرين، باعتبارهم همجيين.‏

أمّا عن ثنائية "متحضر همجي"، فقد لعب اليونان –تاريخيًّا- دورًا حاسمًا في ظهور ‏المصطلحين، إذ ذهب "بروس" إلى أنّ "هوميروس" هو أول من استخدم هذه الصفة ‏استخدامًا فريدًا من نوعه. والمعيار في ذلك "أنَّ الوعي التاريخي، والزراعة، والمدينة ‏‏(‏polis‏)، ومعاملة النساء معاملة أكثر تهذُّبًا هي الخصائص التي ميَّز بها اليونانيون ‏أنفسهم باعتبارهم كائنات (متحضِّرة). وتصبح هذه الخصائص عناصر جوهرية في ‏تطور مصطلح حضارة، وتسوِّغ ادِّعاءً لاحقًا يفيد بأنَّ اليونان القديمة كانت مهد ‏الحضارة الغربية..."(ص21). لقد ذهب "بروس" إلى أنَّ مفهوم الحضارة لم يظهر إلا ‏في أواخر القرن الثامن عشر. يقول: "أودُّ أن أشدِّد بقوّة قدر المستطاع على أن كلمة ‏‏(حضارة) التي تم تجسيدها ونحتها أول الأمر من قبل ميرابو في العام 1756 والفكرة ‏التي تمثلها، نشأت مع التفكير الغربي الحديث في الروابط التي أبقت على تماسك ‏الشعوب أو تفتُّتها. وبما أنَّ وتيرة التغير المادي ارتفعت قبيل الثورتين الفرنسية ‏والصناعية، فإنَّ التفكير في أشكال ومراحل مختلفة من "العلاقات" التي تربط البشر ‏فيما بينها، أو الحالات التي تفرّقها، أصبح إلزاميًّا تقريبًا. وبمجرَّد أن يعي البشر بكون ‏علاقاتهم مشكّلة اجتماعيًّا على الرغم من أنَّ ذلك عن غير قصد في أغلب الأحوال، ‏سيصبحون مطاردين بشبح ذلك الوعي. ومن غير المفاجئ أن تكون الحضارة جزءًا ‏من ذلك الهاجس الحديث، مع ما يصاحبه من عواقب بالغة الأهمية حول كيفية تصوُّر ‏البشر لأنفسهم وكيف يرتبطون بالآخرين"(ص34).‏

في الفصل الثاني "الحضارة بوصفها أيديولوجية استعمارية"، يرى بروس أنَّ مصطلح ‏حضارة كان يعني لدى بعضهم إنجازًا أوروبيًّا فريدًا من نوعه، إذ يمكن أن تتوق إليه ‏شعوب قليلة جدًا، أو تنسخ منه جزئيًّا، أمّا فيما يخص بعضهم الآخر، فيعني شكلًا من ‏أشكال منظمة ثقافية واجتماعية يمكن أن تأخذ أشكالًا متنوعة. كما أنه يمكن أيضًا ‏للشعوب غير الأوروبية امتلاك حضارات ذات قيمة متساوية إلى حد ما، غير أنَّ ‏بعض الغربيين أنزلوها إلى مرتبة حضارية من الدرجة الثانية على الرغم من امتلاك ‏هذه الشعوب الأخرى حضارات يقرّها الجميع.‏

في حديثه عن صلة الثقافة بالحضارة يقول "بروس": "المصطلحان شبيهان بمحبوبين ‏فشلا في أن يتحابّا لسوء الحظ الذي اعترض سبيلهما؛ إذ ظهر كلاهما بدافع مُلحّ ‏لترميم معنى المجتمعات التي تخوض تجربة انهيار الروابط التي أحدثتها المدنيّة قرابة ‏نهاية القرن الثامن عشر. وكلاهما يصف طريقة من طرق علاقة الشعوب فيما بينهما. ‏ومن ثم، فإنه عادة ما يصير وجودهما معقدًا... وحيثما بدأت الثقافة أساسًا لظهور ‏الحضارة، فإنها ترفض بسرعة أتباع هذه الأخيرة على النحو الذي يجري بين العلم ‏والتكنولوجيا والوعي المتزايد للمدنيّة. بدلًا من ذلك، تقوم الثقافة بالرجوع إلى الأرض ‏‏-الدم والجذور- والإفراط في حبها، وإن أمكن في حب زمرة صغيرة محددة فيها. ‏وعلى مدى القرن التاسع عشر، أصحبت (الثقافة) التعريف الجوهري لتخصص جديد ‏يدعى الأنثروبولوجيا، ليبتعد معناها عن المصطلح المصاحب لها ‏‏(الحضارة)"(ص36،37). كما يرى "بروس" أنَّ مفهوم الحضارة أصبح تصوُّرًا ‏متأصلًا كأيديولوجيا استعمارية، أي استخدام المفهوم لتسويغ السيطرة والاستعلاء على ‏الآخرين.‏

يشير "بروس" إلى مسألة مهمّة؛ وهي أنه منذ نحت مصطلح (حضارة) كانت هناك ‏تلميحات تفيد بأنها شكل من أشكال السيادة، يبرهن "بروس" على ذلك بتقسيم القرون ‏الوسطى بين العالمين الإسلامي والمسيحي. ولهذا الأمر خطورته إذ ينشأ عبر ذلك ‏اعتقاد أنَّ غرس قيم الحضارة في أنفس (الآخر) يكون بالغزو لا بالحوار والاعتراف. ‏والقيام بغزو الهمجيين -وفق تصور الذين يدّعون الحضارة- يستلزم الحاجة إلى فهم ‏أعراف وتقاليد أولئك المحكومين، أي الثقافة بشكل عام، لأنه سواء كان هدف ‏المسؤولين المنشود من وراء ذلك فرض ضرائب على رعاياها أو مبشّريها هو هديهم ‏أو تحويلهم، فإن إدراك المعارف التي كانت تملكها تلك الشعب المحكومة ضروري. ‏ويختم "بروس" هذا الفصل بالتأكيد على أنّ أوروبا كان هدفها السيطرة لاعتبار نفسها ‏حضارة متعالية متفوقة، وبالتالي أيديولوجية استعمارية أكثر وحشية في قناع ‏حضاري.‏

يرى "بروس" في الفصل الثالث "الحضارة باعتبارها أيديولوجية أوروبية" أنَّ ‏الحضارة الأوروبية استندت في تاريخها إلى ثلاثة مصادر؛ المصدر الأول هو ‏الرومان وإرثها من مؤسسات بلدية، وحكم ذاتي، وفكرة الدولة ذات السلطة السيادية. ‏وأما المصدر الثاني فيتجلى في المسيحية التي تنادي بتفوُّق القانون الأخلاقي على ‏القانون التشريعي، وفصلها الملازم بين السلطتين الروحية والدنيوية. والمصدر الثالث ‏في جوهره يستمد من النظام الإقطاعي الذي تجاوز الهمجية التي أعقبت السلطة ‏الرومانية. يقول "بروس": "إنَّ تقلبات هذه العناصر الثلاثة واختلاطها... ضمنت ‏التنوع الذي يميز الحضارة الأوروبية عن غيرها من الحضارات الأخرى. وانطلاقًا ‏من هذه التعددية والتنوع تظهر حقيقة الطبقات الاجتماعية وتمسكها بمصالحها وقيمها، ‏والتي تضمن منافستها عدم بقاء أوروبا ثابتة كما هي الحال في أماكن ‏أخرى"(ص65). كما يذكر "بروس" دَوْرَ الدّين في الحضارة الأوروبية، فهذا "غيزو" ‏يؤكد على أن تفوق الحضارة الأوروبية تقف وراءه عناية الرب أولًا. وبتعبير "غيزو" ‏فإنّ الحضارة تتألف من حقيقتين رئيستين: تنمية المجتمع الإنساني، وتنمية الإنسان في ‏حدّ ذاته. فمن جهة التنمية السياسية والاجتماعية، ومن جهة أخرى، تنمية داخلية ‏أخلاقية، وبالتالي تكون الحضارة قضية مفتوحة ومتاحة إلى شعوب غير الشعوب ‏الأوروبية. ‏

هذا الانفتاح -بحسب "بروس"- كان مغلقًا بفاعلية من خلال تعريف "غيزو" للدين ‏باعتباره أساس الحضارة، وباعتبار الديانة المسيحية المحدد الأساس للغاية لأوروبا، ‏وباعتبار أوروبا سفينة الرب المختارة، يقول "بروس": "على الرغم من أنّ غيزو ‏صرف النظر عن التلميح المغري لقدوم حضارة عامة، فقد اقتصر على القصة ‏الأوروبية، وبتعبير هادئ، معزز بإيمانه بعناية الرب، قدم غيزو دفاعًا أيديولوجيًّا ‏للتفوق الأوروبي كحضارة ستصبح -بطريقة هادئة وبسيطة- الحقيقة السائدة في القرن ‏التاسع عشر"(ص66).‏

يذكر "بروس" أنّ الحضارة الأوروبية في القرن التاسع عشر كانت تقوم على ما هو ‏أيديولوجي عنصري. يقول: "ومن بين أولئك الذين سهروا على رعاية الأيديولوجيا ‏العنصرية الطبقية.. نذكر غوستاف لوبون، إذ أبقى في عمله حول الحشود على الفرق ‏بين العمال المتوحشين على نحو واضح جدًا بحيث أكد أنه بمجرد ما إن يصبح ‏الإنسان جزءًا من حشد منظَّم، ينزل درجات عدّة من على سلّم الحضارة"(ص73).‏

يتوقف "بروس" في الفصل الرابع "العملية التحضرية" مع "جون ستيورات ميل" الذي ‏يرى أنَّ الحضارة لها معنى مزدوج، فهي تعني أولًا التقدُّم البشري بصفة عامة، ‏وتعني ثانيًا بعض أنواع التقدُّم، أي تلك الأنواع التي ترسِّخ الفرق بين الشعوب ‏المتحضرة والشعوب المتوحشة والهمجية، وينتج النوع الأول من التقدم عن العملية ‏التحضرية مع مرور الزمن، في حين أن النوع الثاني حديث العهد، ويعقب "ميل" ‏قائلًا: إنّ العصر الراهن هو عصر حضارة بالمعنى الضيق من دون منازع وتصاحبه ‏رذائل وفضائل"(ص82). ويرى "بروس" أنَّ ما ذهب إليه "ميل" في تعامله مع ‏المتوحش، هو بمنزلة "باروديا" أي محاكاة تهكُّمية ساخرة، يعرض فيها نفسه كأنه لا ‏علم له بالمعرفة الأنثروبولوجية تمامًا. كما يرى "بروس" أنَّ "ميل" يستعمل مصلح ‏حضارة على نحو فضفاض، لكونه يفكر بالأساس في التنمية الاقتصادية باعتبارها ‏قلب الحضارة الحديثة، غير أنّ لهذه التنمية جوانب مقلقة عديدة.‏

وانتقد "بروس" أفكار "ميل" لكونه غير ثابت على مبدأ بشكل دائم، فمرّة يدافع عن ‏حق المورمون في معتقداتهم مثل إيمانهم بتعدُّد الزوجات، حيث يقول "ميل": "لست ‏على علم بأن أي مجتمع له الحق في أن يرغم مجتمعا آخر على التحضُّر"(ص84)، ‏لكن بعد ذلك يدافع عن الحكم الاستعماري قائلًا إنّه: "شرعي مثل أي حكم آخر إذا كان ‏في ظل وجود حضارة تسهل عملية انتقال الشعوب إلى مرحلة أسمى من التطور. ‏هناك ظروف في المجتمع يكون فيها الاستبداد القوي في حد ذاته النموذج الأفضل ‏للحكم، لتدريب الشعب، تحديدًا، على الأمور التي تمكِّنهم من حضارة أسمى"(ص84).‏

ومن "ميل" إلى "فرويد" الذي يرى أنَّ الحضارة عبء قمعي يجلب الشقاء وأنه ثقيل ‏على قلب الإنسان، هذه هي الإشارة السائدة في تفسيراته، وفكرته بشكل مختصر هي ‏أنَّ الحضارة تقوم بالضرورة على الإكراه وإنكار الغريزة. يقول "بروس": "يعلن ‏فرويد وهو يربط فكرته بمفهوم كانطي للروابط الاجتماعية الموسعة بأنه إذا كانت ‏الحضارة طريقًا ضروريًّا نحو التقدم من العائلة إلى البشرية كلها، فإنه سيربط بها ‏بشكل معقد زيادة الإحساس بالذنب، الذي ربما سيبلغ مدى يصعب فيه على الفرد ‏تحمله"(ص86). وعن حضور الدين عند "فرويد" يقول "بروس": "وسع فرويد فكرته ‏ليصبح موضوعها الحضارة، حيث يشكل الدين فيها مجرّد قسم مسكّن للاستياء العام ‏الناتج عن عيشنا في المجتمع. ومع ذلك فإنني أزعم أنّ الدين ما يزال في جوهر ‏اهتمام فرويد وليس فقط جزءًا منه، وسواء اتفق المرء مع هذا التفسير أو لم يتفق، ‏فإنه من الأفضل استحضار تأثير الدين في التصوُّر الأصلي للحضارة عند ميرابو؛ ‏فهذا المفكر عاش في القرن الثامن عشر إلى جانب مفكرين حذوا حذوه من أمثال ‏بورك وغيزو، يشددون على مركزيته وضرورته في تأسيس الحضارة وترسيخها، ‏وتشكيك فرويد في الدين، سيؤدي به منطقيًّا إلى نظرة تشاؤمية عن ‏الحضارة"(ص88).‏

لقد ذهب "بروس" وهو يتحدث عن "فرويد" إلى أنَّ هذا الأخير في سعيه الطويل إلى ‏إحلال العلم محلّ الدين، ومن ثم تمكين البشرية من التطوُّر انطلاقًا من طفولتها، يكون ‏قد أسهم في تآكل خدمات الدين في الحضارة. ويتساءل: إذا "نجح الدين في إسعاد قسم ‏أكبر من البشريّة ومواساته، وسوّى خلافاته، وجعله داعمًا للحضارة، فلا يحلم إذن ‏أحد بالسَّعي جاهدًا إلى تغيير الأوضاع. ولكن ماذا نلاحظ في مقابل هذا؟ سنرى استياء ‏وتذمُّر عدد هائل من الناس من الحضارة. ‏

في الفصل الخامس "حضارات أخرى" ذَكَرَ "بروس" في بداية الفصل قضيّة مهمّة، ‏وهي وجود حضارات أخرى غير الحضارة الأوروبية يقول: "إلى الآن ظلّ تركيزنا ‏الأساسي منصبًّا على الحضارة الأوروبية؛ وكأنَّ ذلك هو المنافس الأوحد للدولة ‏المتحضِّرة. لكن ثمّة مُطالبين آخرين بالوعي بأنَّ مجتمعهم كان مختلفًا عن مجتمع ‏الهمجيّين في الخارج... ومن ثم، فالصينيون يرون أنفسهم شعبًا يقطن المملكة ‏الوسطى، ويتحدَّث الرومان عن باكس روما، ويفكر العرب بقيادة ابن خلدون، انطلاقًا ‏من الفرق بين البدو وأهل المدينة. ومن وجهة نظرنا الرّاهنة، يمكن أن ندرك هذه ‏الصِّيغ إلى حدٍّ ما باعتبارها مرادفات لمصطلح "حضارة". لكن لا ينبغي لهذا الإدراك ‏أن يحجب الفرق الآتي: كون "الحضارة باعتبارها مصطلحًا مُستجدًّا قد ظهر في ‏القرن الثامن عشر في الغرب. ولم يتم تطبيقه بأثر رجعي على حضارات أخرى إلّا ‏لاحقًا"(ص97،98). وعلى هذا يرى "بروس" أنَّ مفهوم الحضارة انبعث خارج ‏أوروبا.‏

يتحدَّث "بروس" كذلك عن اكتشاف الحضارات، كمصر القديمة ثم بلاد ما بين ‏النهرين، مركّزًا الحديث عن الحضارة المصرية باعتبارها نموذج للحضارات القديمة. ‏يتساءل "بروس": "ما الذي يميِّز هذه الحضارة الثابتة والمُعترف بها على مرّ ‏الأزمان، على الرّغم من أنها تعرف أيضًا تغيّرات مطّردة؟"، ويجيب بالقول: ‏‏"سنعرف ذلك من خلال البقايا والأطلال. ولحسن الحظ أنّ ذلك متوافر بكثرة نظرًا ‏إلى أنّ مصر موهوبة بالحجر (مقارنة بجيرانها من بلاد ما بين النهرين)، الذي كان ‏يستخدمه المصريون في نحت التماثيل الضخمة الموجودة إلى يومنا هذا. ووجدوا على ‏هذه التماثيل آثار هيروغليفية.. ومع اكتشاف حجر روزيتا أصبح التوصُّل إلى فهمها ‏أمرًا ممكنًا"(ص102). قضيّة الدين كذلك حاضرة هنا، فالمصريون كانوا يملكون ‏عددًا وافرًا من الآلهة، وكانت هذه الأخيرة وصيّة على النظام القانوني والأخلاقي، ‏وهنا صحَّ أنْ يُقال إنَّ الدين يمارس تأثيرًا حضاريًّا.‏

كان موضوع الفصل السادس "حوار الحضارات في عصر عالمي"، وهو موضوع ‏مهمّ كونه يتعلَّق بالحوار الذي يُعدُّ ركيزةً رئيسةً في كل وقت. يقول "بروس": "إذا ‏كانت حضارة ما تدَّعي أنها متفوقة ولا نظير لها، فسيكون من غير المرجَّح أن ترغب ‏في الدخول في حوار مع المجتمعات الأخرى التي تدَّعي وضعًا مماثلًا. ومن ثم فإنَّ ‏الصين، إلى حدود القرن التاسع عشر، لم تكن لها الحاجة أو رغبة في مقارنة نفسها ‏بالمجتمعات التي لم تعترف بها باعتبارها مجتمعات مساوية لها. وقد تبنّى الإسلام في ‏العصر الوسيط، بعد القرن الثاني عشر، موقفًا مماثلًا، إذْ كان مهتمًّا بالأساس ‏بحضارته الخاصّة؛ ولم يرَ أيّ داع حقيقي للدُّخول في حوار مع ‏الآخرين..."(ص115). إذن الاعتزاز بالتفوُّق الحضاري يعني غياب الحوار مع ‏الآخر. ‏

لكن هذا الانطواء على الذات لم يصمد، إذْ أصبح من اللازم الانفتاح على الآخر ‏لأسباب عدّة، كالرَّغبة في التوسُّع والاستعمار مثلًا. ثم ما فرضته العولمة؛ فكثرت ‏الدَّعوات إلى ضرورة حوار الحضارات سنة 2001. وأخيرًا يأتي الفصل السابع وهو ‏عبارة عن استنتاجات للفصول السابقة.‏

سيبقى موضوع الحضارة من المواضع المفتوحة، ليس على مستوى التفوُّق الحضاري ‏حسب، بل على مستويات عدَّة، خصوصًا اليوم مع العولمة الإعلاميّة وتداخل ‏المصالح بين الدول. وستبقى دعوة الحوار الحضاري دعوة مستمرّة لأهميّتها في وقف ‏التَّصادم الذي لن يتوقف لوجود أهداف لدول بعيْنها.‏

‏- - - - - - - - - - - -‏

‏(*) الحضارة ومضامينها، بروس مازليش، ترجمة: د. عبد النور خراقي، سلسلة ‏عالم المعرفة، العدد412، أيار/ ماي 2004.‏