حسام حسني بدار
كاتب ومترجم أردني
لا يتذكّر عامّة الناس اسم السير "آرثر كونان دويْل" لكونه عمل طبيبًا في جيش جنوب أفريقيا رَدحًا من الزمن؛ أو لأنه حاز على لقب فارس Sir نظير خدماته الجليلة لبلاده، إنَّما يتذكّرونه لابتكاره شخصية "شرلوك هولمز"- المخبر الخاصّ الذي طبّقتْ شهرته الآفاق، وقيامه بقتْلِ هذه الشخصيّة لأسبابٍ تُبيّنها هذه المقالة، ثم تَراجُعه عن ذلك فيما بعد.
• نشأة كونان دويْل
وُلد "آرثر كونان دويل" Arthur Conan Doyle في اسكتلندا عام 1859 من أسرةٍ فقيرةٍ، إلا أنه استطاع أنْ يلتحق بمدرسةٍ جيّدة. كان شديد الذكاء ممّا مكّنه فيما بعد من أنْ يدرس الطب في جامعة إدنبرة. وهناك تأثرّ كثيرًا بشخصيّة أستاذه الدكتور"جوزيف بِل" Joseph Bell، الجرّاح الموهوب والمحقّق الجنائي الذي كان يتمتّع بقدرةٍ فائقةٍ على الاستنتاج الجنائي، في وقتٍ كان فيه علم الأدلّة الجنائية حديثًا نسبيًا. وقد ألهمت قدرات الدكتور "بِل" الفذّة "دويل" أنْ يبتكر شخصيّة خياليّة تُحاكي ذكاء أستاذه.. ألا وهي شخصية المخبر الخاص "شرلوك هولمز". ومن الأمثلة التي تدلّ على محاكاة "دويل" لأستاذه في الاستنتاج البارع قول "هولمز" لأحد زبائنه: "يبدو أنّ النافذة الموجودة في المكان الذي تَحلق فيه ذقنك تقع على الجهة اليُمنى!"، فردّ عليه الزّبون بدهشةٍ :"هذا صحيح. كيف عرفت ذلك؟!"، وكان جواب "هولمز": "لأنّ الجهة اليُمنى من ذقنك أكثر نعومةً من الجهة الأخرى، ممّا يعني أنّ ضوء الشمس يتسلّل إليك من الجهة اليُمنى من تلك الغرفة".
بعد تخرُّجه وممارسته للطب لم يكن "دويل" طبيبًا بارعًا، ولم يتردَّد على عيادته سوى أعدادٍ قليلةٍ من المرضى، ممّا أتاح له متّسعًا من الوقت لممارسة هوايته في كتابة القصص... ومع ذلك استمرّ بممارسة الطب ثماني سنوات. لكنه بحلول عام 1891، شعر بثقةٍ عاليةٍ بنفسه دفعته لأن يتخلّى عن الطب ويصبح كاتبًا متفرِّغًا.
ويُقال إنّ "دويل" نفسه قد اكتشف عديدًا من الجرائم بمحاكاته لأسلوب "هولمز" في التحرّي. وفي العام 1899 عمل "كونان دويل" طبيبًا في جيش جنوب أفريقيا لبعض الوقت. وعند عودته إلى بلاده، منحته الملكه فكتوريا لقب ‘Sir’ أي "الفارس" لأعماله الجليلة في بناء مستشفى ميداني في جنوب أفريقيا.
• ظهور شخصيّة "شرلوك هولمز"
قدّم "دويْل" بطله الخيالي "شرلوك هولمز"، وصديقه ومعاونه الدكتور "واطسن" للقرّاء للمرّة الأولى في رواية "دراسة في اللّون القرمزي" A Study in Scarlet. تقاضى "دويْل" مقابل هذه الرّواية 25 جنيه إسترليني، ولاقت قبولًا كبيرًا لدى القرّاء.
ما بين عاميّ 1887 و1927 كتب "دويل" أربع روايات:
"دراسة في اللون القرمزي" A Study in Scarlet
"علامة الأربعة" The Sign of the Four
"كلب عائلة باسكرفيل" The Hound of the Baskervilles
"وادي الرعب" The Valley of Fear
وكتب في الفترة نفسها 56 قصة قصيرة تدور كلّها حول مغامرات "شرلوك هولمز" التحرّي الخاصّ الذي يكرّس وقته لكشف الجرائم ومكافحة المجرمين بقامته الطويلة وقدّه النحيل.. مرتديًا قبعته الشهيرة، مُتلفّعًا بعباءته الأنيقة، مُدخّنًا غليونه المميّز، ومُمسكًا بعدسته المكبِّرة. وهذه الصورة لـِ"هولمز" هي الألصق بأذهان القرّاء.
• "دويْل" ينهي حياة "هولمز"
بفطنته وذكائه، أدرك "دويْل" أنّ أعماله الأدبية والتاريخية الأخرى لم تحْظَ بالاهتمام ذاته الذي حظيت به أعماله المتعلقه بمغامرات "شرلوك هولمز"، وأنّ هذه الشخصية الخيالية أكثر شهرةً لدى القرّاء منه هو- مُبتكر تلك الشخصية. فاعتراه الضيق وانتابته الغيرة وقرّر أنْ يضعَ حدًّا لبطل قصصه، وهو ما فعله في قصة "مغامرة المشكلة الأخيرة" The Adventure of the Final Problem ، حيث جعله يموت على يد خصمه اللّدود البروفسور "موريارتي".
جُنّ جنون القراء من عشّاق "هولمز" ونعتوا "دويْل" بالقاتل، وألغى آلاف منهم اشتراكاتهم في المطبوعة المتخصِّصة بِنشر مغامرات "شرلوك هولمز" (مجلة ستراند) The Strand.
• عودة "شرلوك هولمز"
لم يتوقّع "دويْل" ردود الفعل العنيفة هذه من قِبَل القراء، إلا أنه استمرّ في عناده وأغفل كلّ ذكْرٍ لـِ"شرلوك هولمز" في كتاباته لثماني سنوات متواصلة. لكنه في نهاية الأمر رضخ لتوسُّلات القراء إليه وإلحاحهم عليه بإعادة محبوبهم "هولمز" إلى الحياة... وهذا ما فعله في قصة "مغامرة البيت الفارغ" The Adventure of the Empty House التي نُشرت في عام 1903، حيث أوضح بأنّ "هولمز" تظاهر بالموت كتمويهٍ ماكرٍ منه ليتخلّص من ملاحقة عدوّه الشرير له، وليخطِّط لنزاله من جديد فيما بعد.
واصل السير "آرثر كونان دويْل" كتاباته في مواضيع مختلفة، واحتلّ بين كتّاب عصره مركزًا مرموقًا إلى أنْ تُوفّي في العام 1930 مخلّفًا وراءه شخصيّته الأسطورية "شرلوك هولمز"، التي يتجدّد إعجاب القرّاء بها جيلًا بعد جيل.
* المصادر:
www.en.wikipedia.org.
.www.arthurconandoyle.com