مِن معين أمَّهات اللُّغة العربيّة الأربع

د. أحمد عودة الله الشقيرات

كاتب أردني

 

جَعَلَ كلُّ واحدٍ من مؤلِّفي أمَّهات اللغة العربيّة الأربعة كتابه على نمط مخصوص؛ ‏فالجاحظ خصَّ كتابه بالبلاغة، وأبو علي القالي جعله مطالب، والمبرد النحوي جعل ‏كتابه أبوابًا، وابن قتيبة الدينوري جعل كتابه أربعة كتب. ويرى صاحب هذا المقال أنَّ ‏مناهجنا ينبغي أن تعود إلى هذه الكنوز لتختار منها ما يعزِّز مكانة لغتنا لدى الجيل ‏الذي ابتعد كثيرًا عن لغته التي جسَّدت معاني البطولة والكرم والنخوة وغيرها من القيم ‏الإيجابية في نفس العربي قديمًا.‏

 

 

مِنَ المعلوم أنَّ أمّهات العربية أربع هي: "الأمالي" لأبي علي القالي، و"أدب الكاتب" ‏لابن قتيبة الدينوري، و"البيان والتبيين" للجاحظ، و"الكامل" للمبرد. وقد وُفّقتُ ‏لقراءتها جميعًا خلال ثلاث سنوات، رأيتُ فيها العقل العربي بتجلّياته في بيئة ‏صحراوية تكثر أوابدها، وتقسو عليه، فيزداد تمسُّكًا بها وحبًّا لها، يصف كل ما فيها ‏من نبات وحيوان ورياح وسماء تفنّن في تسميتها وعرف أسرارها وتغنّى بها في ‏شِعره، وَوَصَفَها وصفًا دقيقًا ينمّ عن عقل منفتح وذكاء رفيع. ‏

ولهذا، فإن قارئ هذه الكنوز لا بد له من صبر كثير ليعلم ما كان يختلج في نفس ‏العربيّ من هواجس وأحاسيس وفطنة جعلته يستجيب لمؤثرات الصحراء سلبًا وإيجابًا. ‏وإني أتمنى على مناهجنا أن تعود إلى هذه الكنوز لتختار منها ما يعزِّز مكانة لغتنا لدى ‏هذا الجيل. هذا الجيل الذي ابتعد كثيرًا عن لغته التي جسَّدت معاني البطولة والكرم ‏والنخوة وغيرها من القيم الإيجابية في نفس العربي قديمًا.‏

‏ يقول ابن خلدون في المقدمة: "وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا ‏الفن وأركانه أربعة دواوين، وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، ‏وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي، وما سوى هذه ‏الأربعة فتوابع لها، وفروع عنها(1).‏

 

التَّعريف بأمّهات العربيّة الأربع

 

أولًا: البيان والتبيين للجاحظ ‏

وهو أربعة أجزاء، يقول محقق الكتاب عبدالسلام هارون: "...وهو لا جرم، أسْيرُ ‏كتب أبي عثمان وأكثرها تداولًا، وأعظمها نفعًا وعائدة، فيه تخرّج كثير من الأدباء، ‏واستقامت ألسنتهم على الطريقة المثلى، فهو أستاذ أرهاط متعاقبة من المتأدبين، وهو ‏شيخ جماعات متتابعة، ممّن صقلوا ذوقهم بصِقال الجاحظ، ورفعوا متنهم بالتأمل في ‏فنه وعبقريته"(2).‏

‏ ويقول أبو هلال العسكري في الصناعتين عند الكلام على كتب البلاغة: "وكان ‏أكبرها وأشهرها كتاب البيان والتبيين، لأبي عثمانَ عمروِ بن بحرٍ الجاحظ، وهو ‏لعمري كثير الفوائد، جمّ المنافع، لِما اشتمل عليه من الفصول الشريفة، والفقر اللطيفة، ‏والخطب الرائعة، والأخبار البارعة، وما حواه من أسماء الخطباء والبلغاء، وما نبّه ‏عليه من مقاديرهم في البلاغة والخطابة...."(3).‏

 

ثانيًا: أدب الكاتب لابن قتيبة الدِّينوري

وهو أربعة كتب، هي: كتاب المعرفة، وكتاب تقويم اليد، وكتاب تقويم اللسان، وكتاب ‏الأبنية. وقد قال فيه أحد شعراء اليتيمة أبومنصور العبدوني شعرًا:‏

أدب الكاتب عندي                              ماله في الكتب ندُّ

ليس للكاتب منه                                إن أراد العلم بُدّ(4).‏

 

ثالثًا: الكامل للمبرد النحوي

وهو ثلاثة أجزاء، وقد قسّم كل جزء إلى أبواب، فالأول له واحد وثلاثون بابًا، والثاني ‏له خمسةَ عشرَ بابًا، والثالث له عشْرة أبواب. وقد قال أبوالعباس محمد بن يزيد: "هذا ‏كتاب ألفناه يجمع ضروربًا من الآداب ما بين كلام منثور وشعر مرصوف ومَثَل سائر ‏وموعظة بالغة واختيار من خطبة شريفة ورسالة بليغة. والنيّة فيه أن نفسر كل ما ‏وقع في هذا الكتاب من كلام غريب أو معنى مُستغلق وأن نشرح ما يعرض فيه من ‏الإعراب شرحًا شافيًا حتى يكون هذا الكتاب بنفسه مكتفيًا وعن أن يُرجع إلى أحد في ‏تفسيره مستغنيًا وبالله التوفيق والحول والقوة..."(5).‏

 

رابعًا: الأمالي لأبي علي القالي

وهو جزءان والذيل والنوادر. يقول ياقوت الحَمْوي في معجمه عن أبي علي القالي ‏ومؤلفاته: "وانقطع بالأندلس بقيّة عمره، وهناك أملى كتبه، أكثرها عن ظهر قلب، ‏منها: كتاب "الأمالي" معروف بين الناس، كثير الفوائد، غاية في معناه، قال أبومحمد ‏ابن حزم: كتاب نوادر أبي علي مُبارٍ لكتاب الكامل الذي جمعه المبرد، ولئن كان كتاب ‏أبي العباس (الكامل)، أكثر نحوًا وخبرًا، فإن كتاب أبي علي أكثر لغة وشعرًا(6).‏

 

لماذا وكيف ألَّف أصحاب أمّهات العربيّة كتبهم؟!‏

‏ لقد كان من أهم بواعث هؤلاء العلماء الأفذاذ أن يجعلوا اللغة والشعر والأخبار في ‏متناول طبقة الكتاب الذين بدأ شأنهم يعلو بما كان لهم من المنزلة المرموقة في ‏تصريف أمور الدولة يومذاك. فقد ألف ابن قتيبة الدينوري كتبه ومنها "أدب الكاتب" ‏ليحذو حذو المبرِّزين من أهل عصره أمثالِ أبي عثمانَ عمرو بنِ بحرٍ الجاحظ... ‏يقول ابن قتيبة: "فإني رأيت أكثرَ أهلِ زماننا هذا عن سبيل الأدب ناكبين، ومن اسمه ‏متطيّرين، ولأهله كارهين.."(7).‏

ثم يقول: "فلمّا أن رأيت هذا الشأن (الأدب) كل يوم إلى نقصان، وخشيت أن يذهب ‏رسمه ويعفو أثره، جعلت له حظًا من عنايتي، وجزءًا من تأليفي، فعملت لمغْفل ‏التأديب كتبًا خفافًا في المعرفة، وفي تقويم اللسان واليد، يشتمل كل كتاب منها على ‏فن، وأعفيته من التطويل والتثقيل، لأنشِّطه لتحفُّظه ودراسته إن فاءت به ‏همّته..."(8).‏

أمّا الجاحظ فقد كان يرسل نفسه على سجيّتها، فهو لا يتقيد بنظام محكم يترسّمه، ولا ‏يلتزم نهجًا مستقيمًا يحذوه، ولذلك تراه يبدأ الكلام في قضية من القضايا، ثم يدعها في ‏أثناء ذلك ليدخل في قضية أخرى، ثم يعود إلى ما أسلف من قبل، وقد كانت هذه سبيل ‏كثير من علماء دهره، فهو يقول عند الكلام على البيان: "وكان في الحق أن يكون هذا ‏الباب في أول هذا الكتاب، ولكنا أخرناه لبعض التدبر"(9).‏

ويقول صاحب كتاب (الكامل) محمد بن يزيد المعروفُ بالمبرد النحوي عن أسلوب ‏كتابه: "... والنيّة فيه أن تفسر كل ما وقع في هذا الكتاب من كلام غريب أو معنى ‏مستغلق وأن تشرح ما يعرض فيه من الإعراب شرحًا شافيًا حتى يكون هذا الكتاب ‏مكتفيًا وعن أن يُرجع إلى أحد في تفسيره مستغنيًا. بالله التوفيق والحول ‏والقوة..."(10). ‏

وأمّا أبو علي القالي فيقول عن سبب تأليف كتابه (الأمالي): "لمّا رأيت العلم أنفس ‏بضاعة، أيقنت أن طلبه أفضل تجارة، فاغتربت للرواية، ولزمت العلماء للدراية، ثم ‏أعملت نفسي في جمعه، وشغلت ذهني بحفظه، حتى حويت خطيره، وأحرزت رفيعه، ‏ورويت جليله، وعرفت دقيقه، وعقلت شارده، ورويت نادره، وعلمت غامضه، ‏ووعيت واضحه... فأمللت هذا الكتاب من حفظي في الأخمسةِ بقرطبةَ، وفي المسجد ‏الجامع بالزهراء المباركة، وأودعته فنونًا من الأخبار، وضروبًا من الاشعار، وأنواعًا ‏من الأمثال، وغرائب من اللغات، على أني لم أذكر فيه بابًا من اللغة إلا أشبعته، ولا ‏ضربًا من الشعر إلا اخترته، ولا فنًا من الخبر إلا انتخلته، ولا نوعًا من المعاني ‏والمثل إلا استجدتُه...إلخ"(11).‏

‏ ‏

قطوف من أمّهات اللّغة تصوِّر تجلِّيات العقل العربيّ

ولنا أن نبدأ بصفة البيان: ‏

يقول الجاحظ في الجزء الأول من كتابه (البيان والتبيين) وهو يتحدث عن البيان: ‏‏"والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناعَ المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، ‏حتى يُفْضِي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائنًا ما كان ذلك البيان، ومن ‏أي جنس كان الدليل، لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع، إنما هو ‏الفهم والإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ‏ذلك الموضع"(12).‏

يقول أبو عثمان: "وقالوا: البيان بصير والعيّ عمى، كما أن العلم بصر والجهل عمى، ‏والبيان من نِتاج العلم، والعي من نتاج الجهل"(13).‏

‏ وقد قال الشاعر في دلالات الإشارة: ‏

أشارت بطرف العين خيفة أهلها إشارة مذعورٍ ولم تتكلم ‏

فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبًا وأهلًا وسهلًا بالحبيب المتيّم(14)‏

‏ ‏

‏ ومن كتاب المعرفة لابن قتيبة نختار من باب الدعاء في الكلام: ‏

يقول ابن قتيبة: "ويقال: أرغم الله أنفه" أي: ألزقه بالرَّغّام، وهو التراب، ثم يقال ‏‏"على رغمه" و"على رغم أنفه" وإن رغم أنفه". ويقولون" قمقم الله عصبه" أي جمعه ‏وقبضه، ومنه قيل للبحر "قمقام" لأنه مجتمع الماء. ‏

ويقال: "أباد الله خضراءهم" أي سوادهم ومعظمهم، ولذلك قيل للكتيبة خضراء. وقوله ‏‏"بالرِّفاء والبنين" يدعى بذلك للمتزوج، والرِّفاء: الالتحام والاتفاق، ومنه أخذ "رفُ ‏الثوبِ". ويقال بالرِّفاء من "رَفَوْتُ الرجل" إذا سكّنته. قال الهذلي: "أبو خِراش، وهو ‏خويلد بن مُرّة، أحد فرسان العرب (أسلم وهو شيخ كبير وحسن إسلامه):‏

‏"رفوني وقالوا يا خويلد، لا تُرَعْ، فقلت وأنكرت الوجوه: هُمُ هُمُ"(15).‏

ومن الكامل للمبرد النحوي نختار بابًا عن الاختصار في الكلام: ‏

يقول أبو العباس محمد بن يزيد المبرد النحوي: "من كلام العرب الاختصار المفهم، ‏والإطناب المفخم، وقد يقع الإيماء إلى الشيء، فيغني عند ذوي الألباب عن كشفه، كما ‏قيل لمحة دالة. وقد يضطر الشاعر المعلّق، والخطيب المصْقع، والكاتب البليغ، فيقع ‏في كلام أحدهم المعنى المفلّق، واللفظ المستكره، فإن انعطفت عليه جنبتا الكلام غطتا ‏على عواره وسَتَرَنا من شينه، فمن ألفاظ العرب البيّنة القريبة المفهمة الحسنة الوصف ‏الجميلة الرصف قول الخطيئة: ‏

وذاك فتىً إن تأته في صنيعة إلى ماله لا تأته بشفيع

وقول عنترة: ‏

يخبركِ من شهد الوقيعة أنني ‏ أغشى الوغى وأعِفُّ عند المغنم ‏

ومن الإيماء أو ما يشبهه قول الفرزدق عن جرير: ‏

ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المُنزل(16).‏

 

ومن الأقوال الرائعة للسلف الصالح: ‏

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "مَن يئس مِن شيء استغنى عنه". ‏

وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رحمهم الله: "إني لأسارع إلى حاجة عدوّي ‏خوفًا من أن أردّه فيستغني عني"، وقال رجل من العرب: "ما رددت رجلًا عن حاجة ‏فولّى عني إلا رأيت الغنى في قفاه". وقال عبدالله ابن العباس بن عبد المطلب: "ما ‏رأيت أحدًا أسعفته في حاجة إلا أضاء ما بيني وبينه. ولا رأيت رجلًا رددته عن ‏حاجة إلا أظلم ما بيني وبينه"(17).‏

وعن سؤال زعيم الأزارقة (نافع بن الأزرق) لعبدالله بن عباس من آيات القرآن الكريم ‏وطلبه منه الاحتجاج باللغة، يقول صاحب الكامل: "حدّث أبو عبيدة معمّر بن المثنى ‏اليتيمي النسّابة عن أسامة بن زيد عن عكرمة قال: "رأيت عبدالله بن العباّس وعنده ‏نافع بن الأزرق وهو يسأله ويطلب منه الاحتجاج باللغة، فسأله عن قول الله جلّ ‏ثناؤه: "والليل وما وسق"، فقال ابن عباس: وما جمع، فقال نافع: أتعرف ذلك العرب؟ ‏قال ابن عباس: أما سمعت قول الراجز:‏

إنَّ لنا قلائصًا حقائقا مستوسقات لو يجدن سائقا

 

أي أنّ هذه النوق استحقَّت أن يُحمل عليها. وهي قد وُسقت بالأحمال وجُمعت عليها. ‏كما سأله عن قول الله عزّ وجلّ: "قد جعلَ رَبُكِ تحتك سريّا". فقال هو الجدول. وعن ‏قوله تعالى: "عُتُلٍّ بعد ذلك زنيم". قال نافع لابن عباس: ما الزنيم؟ قال ابن عباس: هو ‏الدّعي المُلَزق أما سمعت قول حسان بنِ ثابت: ‏

زنيم تداعاه الرجال زيادةً كما زِيدَ في عرض الأديم الأكارع(18)‏

 

أمّا أبو علي القالي فقد أورد في الجزء الثاني من كتابه "الأمالي" شَذْرةً من أمثال ‏العرب، يقول: قال أبو زيد: (ومن أمثال العرب: "لأنا أحذرُ من ضَبٍّ حرشتُهُ"). ‏حرشتُ الصيد إذا صدته، ويقال: "إنه لأسْمَعُ من قُراد. وأبصرُ من عُقاب. وأحذر من ‏غُراب. وإنه لأنومُ من فهد. وأخفّ رأسًا من الذئب ومن الطائر. وإنه لأحزق من ‏حمامة". وذلك أنها تبيض بيضًا على الأعواد البالية فربّما وقع بيضها فتكسّر.‏

ومن أمثالهم: "لا تهرِف بما لا تعرف" والهرْفُ: الإطناب في الثناء والمدح(19).‏

وقال أبو علي القالي عن تقسيم النساء إلى ثلاثة أضرب، والرجال إلى ثلاثة مثلها: ‏حدَّثنا أبو بكر رحمه الله (ابن دريد)، قال حدَّثنا عبدالرحمن عن عمّه قال أخبرنا شيخ ‏من بني العنبر قال: "كان يُقال: النساء ثلاث؛ فهيّنه ليّنة عفيفة مسلمة، تعين أهلها على ‏العيش ولا تعين العيش على أهلها، وأخرى وعاءٌ للولد، وأخرى غُلٌ قمِلٌ يضعه الله ‏في عنق من يشاء، ويفكّه عمّن يشاء، والرجال ثلاثة، فهيّن ليّن عفيف مسلم، يُصْدِر ‏الأمور مصادرها ويوردُها موارِدَها، وآخر ينتهي إلى رأي ذي اللُّب والمقدرة فيأخذ ‏بقوله وينتهي إلى أمره، وآخر حائربائر لا يأتمر لرشد ولا يطيع المرشد"(20).‏

ومن كتاب (الذيل والنوادر) للقالي نقتطف بعضًا من دُرره. مطلب إتيان أبي جبيل ‏البُرجُمي حاتم طيءٍ في دماءٍ حملها عن قومه ومدْحِه.‏

يقول البُرجُمي عبد قيس بن جُفاف يمدح حاتمًا:‏

 

‏        حملت دماءً للبراجم جَمّةً فجئتك لما أسلمتني البراجم

وقالوا سفاهًا لم حملت دماءنا ‏ فقلت لهم يكفي الحمالة حاتم ‏

متى آته فيها يقُل لي مرحبًا وأهلًا وسهلًا أخطأتْكَ الأشائم

فقال حاتم:‏

أتاني البُرجُمي أبو جبيل لِهَمٍّ في حمالته طويل

فقلت له خذِ المرباع رَهْوًا ‏ فإني لست أرضى بالقليل

على حال ولا عوّدت نفسي على علاِّتها علل البخيل ‏

فخذها إنها مئتا بعيرٍ سوى الناب الرذيّة والفصيل

فلا منٌّ عليك بها فإني ‏ رأيت المنّ يزري بالجزيل ‏

فآب البُرجُمي وما عليه من أعباء الحمالة من فتيل

يجر الذيل ينفض مذرويه خفيفَ الظهر من حمل ثقيل(21)‏

 

خلاصة وتقويم

 

‏ يقول النابغة الذبياني عن لفظة (المجلّة): ‏

‏ ‏

مَجَلّتُهم ذات الإله ودينُهم قويمٌ فما يرجون غيرَ العواقب

 

لأن لفظة (المجلة) تعني: صحيفة يُكتب فيها كلُّ شيء من الحكم، كما جاء في كتاب ‏‏(الأمالي) لأبي علي القالي في جزئه الأول، وإذا ما طبقنا هذا المعنى على كتب ‏الأمهات الأربعة، فإنّا واجدون ذلك في كل كتاب منها. فاللغة تحوي الحكمة في ‏شعرها ونثرها. وقال صلى الله عليه وسلم وهو العربي الفصيح: "إنّ من الشعر ‏حكمةً، وإنَّ من البيان لسحرًا". ‏

وقد جعل كل واحد من المؤلفين الأربعة؛ الجاحظ، وأبو علي القالي، وابن قتيبة ‏الدينوري، والمبرد النحوي، كتابه على نمط مخصوص. فالجاحظ خصَّ كتابه بالبلاغة ‏والقالي جعله مطالب، مثلًا مطلب الكلام على مادة "نسأ" وهكذا. والمبرد جعل كتابه ‏أبوابًا، وابن قتيبة جعل كتابه أربعة كتب: كتاب المعرفة، وكتاب تقويم اليد، وكتاب ‏تقويم اللسان، وكتاب الأبنية. ‏

وعلى الرغم من جهبذة هؤلاء العلماء الأفذاذ وتمكُّنهم من اللغة إلا أنهم ليسوا ‏معصومين عن الخطأ والزّلل. فهذا أبو علي القالي يقع في بعض الأوهام في نسبة ‏بعض الأبيات الشعرية أو القصائد إلى غير قائليها حتى تنبّه العالِم الفذ أبو عبيد عبدالله ‏بن عبدالعزيز بن محمد البكري الوزير من مُرسِيه (مدينة بالأندلس) إلى ذلك، فألف ‏كتاب "التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه". والجاحظ يقدِّم ويؤخِّر كما بيّنا في سبب ‏تأليف هذه الكتب الأربعة، وهكذا دواليك، إلا أنّ ذلك لا يقدح في علمهم، ولا يضرّهم ‏إذا ما عرض علمهم هذا على ميزان العقل. ‏

 

الهوامش:‏

‏(1)‏ ابن قتيبة: أدب الكاتب، ط4، مطبعة السعادة بمصر، 1963، ص3.‏

‏(2)‏ الجاحظ: البيان والتبيين، ج1، ط4، دار الفكر، بيروت، دون تاريخ. مقدمة المؤلف ‏ص5.‏

‏(3)‏ المرجع نفسه، الصفحة نفسها.‏

‏(4)‏ ابن قتيبة: أدب الكاتب، ص3.‏

‏(5)‏ أبو العباس المبرد: الكامل، مقدمة المؤلف، دار الفكر، بيروت، دون تاريخ، ص2. ‏

‏(6)‏ أبو علي القالي: الأمالي، ج1، مطبعة السعادة بمصر، 1953، ص4، ترجمة المؤلف. ‏

‏(7)‏ ابن قتيبة: مرجع سابق، ص11، المقدمة.‏

‏(8)‏ المرجع نفسه، ص8-9.‏

‏(9)‏ الجاحظ: مرجع سابق، ج2، ص9.‏

‏(10)‏ أبو العباس المبرد: مرجع سابق، ص2-3. ‏

‏(11)‏ أبو علي القالي: مرجع سابق، ص(ت).‏

‏(12)‏ الجاحظ: مرجع سابق، ج3، ص76. ‏

‏(13)‏ مرجع سابق، ص77. ‏

‏(14)‏ المرجع نفسه، ج4، ص87. ‏

‏(15)‏ ابن قتيبة: مرجع سابق، ص40-41. ‏

‏(16)‏ المبرد النحوي: الكامل ج1، مرجع سابق، ص22-23. ‏

‏(17)‏ المرجع السابق، ص104.‏

‏(18)‏ المرجع السابق، ص122-123.‏

‏(19)‏ الأمالي: مرجع سابق، ص11. ‏

‏(20)‏ المرجع السابق، ص153. ‏

‏(21)‏ أبو علي القالي: كتاب الذيل والنواجر، ط3، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1954، ‏ص21-22. ‏