اللُّغة العربيّة في يومها العالميّ

د. حكمت النوايسة

ناقد أردني وباحث في التراث غير المادي ‏

 

 

نَحتفلُ في الثامن عشر من كانون الأوَّل من كل عام، يومًا عالميًّا للُّغة العربيّة، لغتنا التي ‏أصبحت من اللُّغات المحدودة المُتعارف بها دوليًّا، ومن اللُّغات غير المهدَّدة بالانقراض، ‏ومن اللُّغات المُتداوَلَة في أروقة المنظمات الدوليّة المُنضوية تحت مظلَّة المنظمة العالميّة ‏للتربية والثقافة والفنون (اليونيسكو). ومن حقِّ أبنائها أن يتكلّموا بها في المؤتمرات ‏العالميّة، وعلى منظِّمي هذه المؤتمرات أن يوفِّروا التَّرجمة، سواء أكانت هذه التَّرجمة ‏فوريّة، أم مُعدَّة مُسبقًا للأوراق المقدَّمة، وتكون التَّرجمة إلى اللُّغات الحيّة المُعتمدة ‏كالإسبانيّة والإنجليزيّة والروسيّة والصينيّة والفرنسيّة.‏

ولنا عربًا أن نحتفي بهذا اليوم احتفاءً خاصًّا؛ فاللغة هي الهويّة الجامعة التي لا يختلف ‏عليها اثنان من أبناء العروبة في هذا الزمن الصّعب، وفي هذا التشرذم في الأفكار ‏والآراء حول كثير من القضايا الجامعة، ومن هنا يأتي احتفالنا الخاص هنا بإعداد ملفّ ‏عن اللغة العربيّة نطَّلع فيه على بعض الجوانب في هذه اللغة وعنها، ففيها ما لا يستطيع ‏ملف عابر أن يحتويه، وعنها كذلك، ولكنّ هذه المحاولة، تأتي بما قدَّمه الأساتذة الأفاضل ‏من إطلالات جميلة على هذه اللغة، وموقعها في الثقافة الكونيّة ودورها فيها، واهتمام ‏الدّارسين والمستشرقين بها، والقداسة التي تحملها هذه اللغة كونها لغة القرآن الكريم، ‏ومدى تأثير هذه القداسة في حفظِها، ومدى قابليّة دراسة هذه اللغة بعيدًا عن هذه القداسة، ‏وقدرتها على تجاوز الأزمنة مع حفاظها على البنى الرَّئيسة فيها، من النواحي الصرفيّة ‏والنحويّة والمعجميّة، والقدرة على استيعاب الثقافات العصريّة المتتالية، دون أنْ تختلَّ ‏هذه البنى، ودون أنْ تفقدَ سعتها على استيعاب الكثير من المصطلحات الوافدة إليها سواء ‏أكانت وافدة مع التبادل العلمي التقني، أم تلك الوافدة عن طريق التبادل الثقافي، أو ‏التجاري، وحتى في أعتى حالات ضعف الأمة العربيّة، أمّة اللغة العربيّة، فإنّ هذه اللغة ‏قاومت لغة المستعمِر، وإن تأثَّرت بتلك اللغة في بعض الأقطار التي تعرَّضت للاستعمار ‏الثقافي، فإنَّنا نجد اللغة لم تتأثَّر ذلك التأثُّر الذي أراده المستعمِر، وإن أخذ الشعب ‏المستعمَر بتلك الثقافة بطرق التفكير، أو بتقليد المستعمِر.‏

وكم يؤسفني أنْ لا يشمَلَ الملف مبحثًا يتعلّق باللغة وتقنيات العصر، والتجارب الخاصّة ‏التي تحقّقت في هذا المجال، ولكنَّ هذا كان متأتّيًا من أعزّاء وعدوا فأخلفوا، ولات حين ‏مناص، وقد كنتُ أعوِّل عليهم لمعرفتي بما قدّموه في هذا المجال من أطاريح تتعلّق ‏بمجال الحوسبة واستخداماتها الحديثة واستثمارها في مجال تعليم اللغة العربيّة، ولكن، ‏تبقى لدينا هذه الـــ(لكن).‏

في هذا الملف مادّة غنيّة جدًا، يجد فيها القارئ من المتعة ما يجد، ويجد فيها من الجديد ما ‏يجد، سواء أكان في المثاقفة اللغويّة، أم في نقض بعض الدعوات التي عادتِ اللغةَ ‏الفصيحة، وحاولت النَّيل منها، أو التجرُّؤ عليها فباءت بالفشل، ولا يعدم قارئ الملف مِن ‏تعرُّف بعض الوسائل التي تربط الأجيال القادمة بهذه اللغة، وخاصّة آراء الأساتذة الذين ‏لديهم تجربة تعليميّة في مجال تعليم اللغة العربيّة من مضانّها الأساسية، ومن محفوظاتها ‏العابرة للأزمنة، سواء أكانت من الشعر أم من النثر.‏

ولا بدّ من التذكير بأنّ الإعلام يلعب الدَّور الأكبر في الحفاظ على اللغة العربيّة في ‏مستوياتها كافّة، ولنا أن نطمئنّ بأنّ أيَّ دارس للغة العربيّة أو متكلم بها يفهم فهمًا دقيقًا ما ‏يقدَّم بوسائل الإعلام باللغة العربيّة التي هي لغة الإعلام العربيّ، وهو يقدَّم بلغة فصيحة ‏بعيدًا عن اللهجات المحلّية التي صارت بما يشبه اللغة الثانية في كل قطر عربيّ.‏

وأمّا وسائل التواصل الاجتماعيّ في الإطار العربيّ، فإنّ لها ما لها، وعليها ما عليها، إذ ‏يدور التَّداول فيها في إطارين: إطار اللَّهجات المحليّة العربيّة، وإطار اللغة الفصيحة، وقد ‏أصبحت، إضافة إلى كونها مسرحًا للتواصل الاجتماعيّ تأخذ مكان أساليب التَّواصل ‏التقليديّة في الأفراح والأتراح، أصبحت مسرحًا ثقافيًّا أيضًا، تُنشر فيها النصوص الأدبيّة ‏العالية، شعرًا ونثرًا، ويُشار بها إلى النصوص العالية على الشبكة العنكبوتيّة، وفيها من ‏أبناء الأمّة الحريصين على اللغة العربيّة الذين وقفوا صفحاتهم على شرح مبادئ هذه ‏اللغة، نحوها وصرفها، وتقديم الأمثلة الجميلة في هذا الإطار، كما أنّ في هذه الوسائل، ‏وتخصيصًا موقع الـ"فيس بوك"، المجموعات التي نذرت نفسها لخدمة اللغة العربيّة، ولا ‏يُنشر فيها إلا ما يخدم هذه اللغة، ويتابع هذه المواقع مئات الآلاف من أبناء العربيّة.‏

وبعد، فهذا الملف محاولة، واحتفاء، وتذكير، واعتزاز، نأمل أن نكون قد قدَّمنا فيه شيئًا ‏ممّا تستحقّه لغتنا، وهويّتنا المُضمرة في هذه اللُّغة.‏