اللُّغة العربيّة والمثاقفة العالميّة

د. راشد عيسى ‏

شاعر وأكاديمي أردني

 

كان "غوته" أشجع أديب تحدّث عن جماليات اللُّغة العربيّة وتمكُّنها من الخلود من ‏جهة، ومن الانتشار في مختلف البيئات العالميّة، من جهة أخرى. فقد وصفها بأنها لغة ‏الشِّعر الأولى لمقدرتها على رسم المجازات ومجاراة التَّخييل وسائر أصناف الأشكال ‏البلاغيّة اللازمة للأدب، كما أكّد تمكُّنها وفرادتها في إنجاح الاتِّصال الكلامي بأنواعه ‏المختلفة، ولا سيّما القدرة الوظيفيّة فيها ودقّتها في التَّعبير عن أيّ معنى تعبيرًا دقيقًا لا ‏لبس فيه.‏

 

لا أحسب أنَّ لغةً في العالم نالت من التقديس والاحترام ما نالته اللُّغة العربيّة منذ ‏ميلادها. فهي في زمن ما قبل الإسلام أوقعت الشعراء في فتنتها الجماليّة التي منتحها ‏صفة السِّحر، وأكسبتها منزلة رفيعة من الإلهام، فتطايرت عقول الشعراء ذهولًا حين ‏نسبوا القول الشعري إلى الشياطين والجنّ والقوى الخفيّة الأخرى، فكانت اللُّغة ‏الشعريّة هي الوسيط الخيالي الخارق مجهول المصدر بسبب فاعليَّتها العجيبة في ‏التَّعبير عن مكنون النَّفس ووصف المظاهر الصحراويّة في تلك البيئة الصَّعبة ‏المُستعصية على تفسير جماليّات غموضها.‏

وحينما جاء الإسلام نالت العربيّة عبقريّة أخرى من قداسة منابعها؛ فالوليد بن ‏المغيرة، الرّائد الخبير بأسرار لغة العرب، حينما سمع آيات من القرآن الكريم تشاهَقَت ‏مشاعره، وارتبك لبّه، وقال عبارته الشهيرة عن حلاوة القرآن وطلاوته.‏

ثم تسامت قداسة اللُّغة دينيًّا حينما رأى نفرٌ من اللغويّين القدامى أنَّ اللُّغة توقيفيّة من ‏لدن السماء مستندين برأيهم إلى قوله تعالى: "وعلّم آدم الأسماء كلها"، فأكسبوا اللُّغة ‏قيمة سماويّة علويّة؛ ساعدهم في ذلك قوله تعالى: "إنّا نحن نزَّلنا الذكْر وإنّا له ‏لحافظون"، فأيقنوا أنَّ اللُّغة العربيّة وهي لغة التنزيل خالدة لا خوف عليها، لأنّها اللُّغة ‏التي نزلت على سيّد البشر. فاتَّخذت بذلك بُعْدًا كونيًّا بصفتها لغة كتاب سماويّ.‏

ومع انتشار القرآن الكريم في الدول غير العربيّة؛ تلك التي انتشر فيها الإسلام في كل ‏بقاع الدنيا، صار المسلم غير العربيّ متقنًا للغة العربيّة ومتذوّقًا لها. ومن هنا انتشرت ‏العربيّة نحو العالمية بالتدريج وكثر المتكلمون بها ولا سيّما في الآثار العالمية الكبرى ‏التي تركتها الحضارة العربيّة الأندلسية في أوروبا انطلاقًا من إسبانيا وما حولها.‏

وبعد ترجمة حكايات "ألف ليلة وليلة" على يد "أنطوان جالان" تغيّر اتجاه الأدب ‏الغربي وسُحِرَ بالحكايات العجيبة على صعيد المضامين والأشكال. فقد أفاد منها أدباء ‏الغرب في تطوير شخوص رواياتهم وقصصهم إلى درجة التقليد والمحاكاة الكبيرة، ‏وفُتنوا بالعجائبية والغرائبية واللامعقول في تلك الحكايات التي بعثت النشاط في الخيال ‏الثقافي الأوروبي عامة. وتمَّ الإفادة ممّا جاء في الحكايات من أساليب جمالية خارقة ‏من التشويق والجاذبية والدهشة الفنية والانفعالية.‏

لقد كوّنت "ألف ليلة وليلة" عند الأمم الأخرى فكرة عظيمة عن عبقريّة اللُّغة العربيّة ‏في توصيل الفكر الأدبي العربي إلى العالم. وسوى "ألف ليلة وليلة" رأينا كيف أثرت ‏قصة حي بن يقظان لابن طفيل في نشأة القصص الأوروبي عبر الواقعيّة السحريّة.‏

وحسب اللُّغة العربيّة حضورًا في المثاقفة تأثيرها الكبير والتاريخي في الثقافة ‏الفارسيّة التي تكتب بحروف عربيّة.‏

إنَّ قدرة اللُّغة العربيّة الفذَّة جعلت رموزًا عالمية كماركيز وغوته وشكسبير يتأثرون ‏أيّما تأثر بالمنجز الأدبي العربي، ويحاكونها محاكاة فنيّة عالميّة بعد استيعابهم الفني ‏لأساليب السرد في ألف ليلة وليلة.‏

ومن نافلة القول إنَّ المستشرقين الدارسين للغة العربيّة وآدابها عادوا لبلادهم بثروة ‏هائلة من الثقافة العربيّة ونشروها في العالم ابتهاجًا لعبقرية اللُّغة وتفرُّدها في أن تكون ‏فنية وموضوعية في آن واحد. ولعلّ الأديب الألماني الأوروبي العالمي "غوته" كان ‏أشجع أديب تحدّث عن جماليات اللُّغة العربيّة وتمكُّنها من الخلود من جهة، ومن ‏الانتشار في مختلف البيئات العالميّة، من جهة أخرى. فقد وصفها بأنها لغة الشعر ‏الأولى لمقدرتها على رسم المجازات ومجاراة التخييل وسائر أصناف الأشكال ‏البلاغية اللازمة للأدب، كما أكّد تمكُّنها وفرادتها في إنجاح الاتصال الكلامي بأنواعه ‏المختلفة ولا سيّما القدرة الوظيفية فيها ودقتها في التعبير عن أيّ معنى تعبيرًا دقيقًا لا ‏لبس فيه.‏

وحسبنا هنا الإشارة إلى الأثر التاريخي المكين للغتنا التي أثبت المُعجبون الأوروبيون ‏بها فضلها على لغات رئيسة في العالم كاللُّغة الإنجليزية مثلًا.‏

ولا شيء أفضل من التمثيل على ذلك بمعجم صدر قبل عشر سنوات تقريبًا احتوى ‏على ما يزيد على ألفي كلمة إنجليزية من أصل عربي مثل:‏

سكّر Sugar

قطَّ Cat

الغزال algazal

وَيْن Wine

نضو (الثوب)‏ Nude

صَلْد Solid

صابون Soap

زعفران Saffron

صقر Saker

تحية Salaam

سحلب Salep

صالون ‏ Salon

سمِيّ Same

قهوة Coffee

 

ومئات الكلمات التي يعرفها المختصّون باللُّغة الإنكليزية. لقد استقرضت اللُّغة ‏الإنجليزية من العربيّة ما جعل الإنجليزية ثريّة قويّة منتشرة في جميع بقاع العالم ‏يساعدها في ذلك قوّة الإمبراطورية البريطانية، فكلما قويت الأمة قويت لغتها ‏وانتشرت على غرار قوّة اللُّغة العربيّة عندما ساد العرب في جنوب أوروبا وصولًا ‏إلى حدود الصين.‏

والمتأمل في المصطلحات العلمية التي أنجزها العلماء العرب القدامى كالخوارزمي ‏وابن الهيثم يجد أنَّ الأوروبيين أبقوا على الكثير من المصطلحات العربيّة كما سمّاها ‏علماؤها الأوائل. كما ثبت في الدرس العلمي أنَّ أغلب الابتكارات الغربيّة في مجال ‏الطب إنَّما هي محاكاة لمسمّيات علميّة عربيّة قديمة.‏

ولعلَّ وصول اللُّغة العربيّة مؤخرًا إلى رقم (4) بين اللغات غير قابلة للاندثار يدلّ ‏على مدى عبقريّتها في الصُّمود والتحدّي والاستجابة لمفاهيم المخترعات الحديثة ‏بسهولة، الأمر الذي دعا بعض الدول العربيّة كسوريا لتعليم الطب باللُّغة العربيّة وقد ‏نجحوا في ذلك أيّما نجاح.‏

لقد أصبحت اللُّغة العربيّة الآن آخر رهان حضاري على صلاحيّة الأمة العربيّة للعيش ‏بعد أن انهارت شخصيّتها على كلّ الصُّعد، واستلب المستعمرون الدائمون خيراتها ‏وثقافتها وإنجازاتها العلمية وإبداعاتها التي كانت مادة خامًا للثقافة الأوروبية.‏

يثبت يومًا بعد يوم أنَّ جميع مدارس النقد الأدبي واتجاهاته الغربية قد اشتقّت مادتها ‏الأساسية الأولى من النقد العربي القديم؛ من آراء الجاحظ والجرجاني وغيرهما، ‏فأغلب قضايا التناص والبنية النحوية العميقة والسيمائيات والنقد البيئي والتاريخي ‏والاجتماعي والنفسي نجد لها موارد في الثقافة النقدية العربيّة. الغرب يأخذ المادة ‏الخامة من العرب مثل البترول ويعيده لهم مشتقات من الكاز والبنزين والسولار وسائر ‏أشكال المشتقات البترولية. لقد أثبت الأدب المقارن أنَّ أهم إنجازات الأدب العربي ‏قامت على عبقرية اللُّغة العربيّة وآدابها، فلنتأمّل تأثير المعرّي وقصة الإسراء ‏والمعراج في "الكوميديا الإلهية" لـِ"دانتي" أو في "الفردوس المفقود" لـِ"جون مليتون".‏

العربيّة لغة الحياة والعلم والشعور والفكر، ولا تضاهيها في ذلك لغة في العالم، لكن ‏ضعف الشخصية القومية الآن أضعف معه فاعلية اللُّغة وأقصاها عن دورها الرئيس ‏في صناعة الحضارة المأمولة.‏

يملك العرب الآن أعظم ثروة من لغة القرآن الكريم وأهم ثروة من لغة الشعر، ألم يقل ‏‏"غوته": (الشعراء العرب أشعر منّا، ونحن أشعر منهم في الكراهية)؟

ثم ألم يحن الحين لنعيد للعربيّة سيرورتها أمام الصيرورات والتحوُّلات المستجدّة، ألا ‏يجوز أن نثق بها كامل الثقة في مقدراتها التي لا تملكها لغة أخرى؟ إنها سبيلنا إلى ‏إسماع صوتنا وإبراز مكانتنا وإظهار دورنا الحقيقي في الشراكة العالمية الثقافية ‏المعاصرة. وما دمنا لا نقدِّر لغتنا ولا نعلم بفذوذيّتها الخارقة، فلن يقدِّرنا الآخرون ‏وسنبقى على هامش التاريخ الحضاري المعاصر، إنْ لم ننحدر إلى باطن الأرض.‏