اللُّغة العربيّة ‏ من واقعها العربيّ الانحساريّ إلى أُفقها الكونيّ الانتشاريّ

د. هيثم سرحان

أستاذ الأدب والنّقد وتحليل الخطاب- قسم اللُّغة العربيّة- جامعة قطر

 

على الرّغم من مركزيّة اللُّغة العربيّة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة، إلّا أنّ الاعترافَ بالتنوُّع ‏اللغويّ واحترام التّعدديّة اللغويّة والحفاظ على التَّوازن والسَّلام اللغويَّين في العالم، هي أطروحة لها ‏أأصل في التراث العربيّ والإسلاميّ، فهي حاضرة في التَّنزيل: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ‏وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ". وقد وصَمَ ابن حزم الأندلسيّ دعوى ‏المُفاضلة بين اللُّغات بالسُّخف، ورمى دعاتَها بالزّيغ والضّلال، فوجوه الفضل معروفةٌ وإنّما هي ‏بعملٍ أو اختصاصٍ ولا عملَ للّغة، ولا جاء نصٌّ في تفضيل لُغة على لُغة.‏

 

مثّلَت اللُّغة العربيّة -بحسب ابن خلدون (ت 808هـ/ 1406م)- عنوانَ العمران البشريّ الذي خلّدته ‏أعمالُ المسلمين التي لا تزال شاهدة على حضورِهم التاريخيّ، وهويتِهم الإبداعيّة وفعاليّتِهم الإنتاجيّة ‏وخصوبتِهم المعرفيّة. إذ كانت اللُّغة العربيّة -بادئ الأمر- الوسيلةَ التي انتشرَ بها الإسلامُ وتعاليمُه ‏ومبادؤه في بلاد العرب وشبه جزيرتهم، غير أنّ الإسلام غدا، بعد ذلك، حاملًا مباهجَ اللُّغة العربيّة ‏وكنوزَ لسان العرب، ونَاشِرًا علومَهما وآدابَهما في جميع الأمصار التي وصلت إليها حوافرُ خيولِ ‏المسلمينَ، وأخفافُ نياقهم، وصواري سفنهم. ثمّ أصبحت اللُّغة العربيّة بعد ذلك جهازًا في إنتاج ‏المعارف والعلوم والآداب للشعوب والأمم التي تمثّلت العربيّة واكتسبتها بوصفها لغةً ظافرة ولسانًا ‏قابلًا للاستثمار.‏

يُقصد بالعربيّة اللُّغة العربيّة الفصحى التي فرضت سلطانها بوصفها لغة عُليا في التَّواصل، ولغة ‏أدبيّة في الإبداع في مطلع القرن الخامس الميلادي. واللُّغة العربيّة تُنْسَبُ إلى العرب. والعربُ، في ‏أصل الاستعمال، والكلام لأبي المعالي محمود شكري الآلوسي (1857- 1924م)، اسمُ قومٍ جمعوا ‏عدّةَ أوصاف: الأوّل: أنّ لسانَهم كان اللُّغة العربيّة. الثاني: أنّهم كانوا من أبناء العرب. الآخِر: أنّ ‏مساكنَهم كانت أرض العرب، وهي جزيرة العرب من بحر القُلزُم (البحر الأحمر حاليًّا) إلى بحر ‏البصرة، ومن أقصى حَجَرٍ في اليمن إلى أوّل الشام؛ فاليمن داخلة في أرض العرب والشام خارجة ‏منها(1). ‏

على أنّ هذه المُحدِّدات تتَّصل بالعرب وأرض جزيرة العرب حين البعثة النبوية وقبلها؛ إذ سرعان ‏ما امتدّت رقعة الجغرافيا مع فتوح الأمصار التي سكن العرب فيها من أقصى المغرب إلى أقصى ‏المشرق، علاوة على شواطئ الشام وأرمينية، وهذه الأمصار والبلدان كانت مساكن الفرس والروم ‏والبربر وغيرهم، وقد انتشرت في هذا الأمصار اللُّغة العربيّة، وامتزجت الثقافات والدماء(2). ‏

أشار اللساني البريطانيّ "نيقولاس أوستلر" ‏Nicholas Ostler‏ في كتابه الموسوم ‏بــِ"إمبراطوريات الكلمة: تاريخ للُّغات في العالم" إلى أنّ انتشار اللُّغة العربيّة، في العالم القديم، ‏استغرق ثلاثة عقود، وهو زمن قصير في تاريخ اللغات. ولعلَّ استطاعة اللسان العربيّ في أن يُحقق ‏حضورًا بارزًا وباهرًا في الجغرافيّات الثقافية التي انتشر فيها الإسلام ليس عبر القرآن الكريم ‏وتعاليمه السّمحة فحسب وإنَّما عن طريق الأدب العربيّ الذي نجح في بسط نفوذه في خراسان وبلاد ‏فارس والشّام والعراق ومصر وأفريقيا والأندلس في غضون ثلاثة عقود لم تَنْجُ فيها اللُّغة العربيّة ‏من صدام اللّغات الذي يحكمُ قوانين التوسّع الحضاري والمُغالبة البشريّة(3).‏

 

حقوق الإنسان اللغويّة

مثّل الإعلان العالميّ للحقوق اللغويّة(4) (‏Universal Declaration of Linguistic ‎Rights‏) المنشور سنة 1998 مشروعًا حقوقيًّا تمخّضت عنه وقائع المؤتمر الدّولي لحقوق ‏الإنسان اللغويّة الذي عُقد في مدينة برشلونة الإسبانيّة في صيف 1996، ويُشكّل إنجازًا بارزًا ‏ومُتقدّمًا لجهودٍ ونداءاتٍ سابقةٍ دعت هيئةَ الأمم المُتّحدة إلى إقرار إعلان عالميّ للحقوق اللغويّة، ‏نتيجة ظهور التّمييز اللغويّ واللامساواة اللغوية في أجزاء واسعة من العالم لأسبابٍ تتصل بالحروب ‏والنزاعات السياسيّة والعِرقيّة والهيمنة الاستعماريّة، وجرّاء انتشار الدّعوة إلى لغة عالميّة موحّدة ‏صادرة عن نزعة العولمة ومدعومة من الإمبرياليّة اللغويّة. ‏

تضمّن هذا الإعلان الذي وُقِّعَ وصُودِقَ عليه في جامعة برشلونة في السادس من حُزيران سنة ‏‏1996 مطالبةَ الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو بإقرار الإعلان واعتماده رسميًّا ليكونَ دليلًا إرشاديًّا ‏لصياغة سياسات لغويّة وطنيّة وإقليميّة ودوليّة في مختلف المجالات والتّجليات، وميثاقًا أُمميًّا ودوليًّا ‏يقضي بالمساواة بين اللغات، وقانونًا عالميًّا يهدف إلى احترام التنوّع اللغويّ والتّعددية اللغوية ‏والحفاظ على التوازن والسّلام اللغويين في العالم، وبيانًا إنسانيًّا يرمي إلى احترام حقوق الإنسان ‏اللغويّة وحمايتها من جميع أشكال الإقصاء والعنف والهيمنة والتهديد بالإبادة، وعنوانًا عريضًا ينصُّ ‏على توقير حقوق الأفراد والجماعات والمجتمعات اللغويّة في الحفاظ على لغتها والإبقاء عليها ‏واستعمالها في شؤون الحياة المتنوعة وفي مختلف الأماكن التي يعيشون فيها. ‏

 

مقوّمات الحداثة في التفكير اللسانيّ العربيّ

إذا كان التّنوّع اللغويّ مفهومًا عابرًا للّغات والأمم، فإنّ التّعدديَّة اللغويّة تُمثّلُ مفهومًا اجتماعيًّا ‏ومرجعيّةً حقوقيًّة مجال نطاقها الدّولة والإقليم؛ إذ يتعيّن على كلّ دولة الالتزام بها ضمانًا لتحقيق ‏شروط العُمران الإنسانيّ، واحترامًا لحقوق الأفراد والجماعات اللغويّة وهويّاتهم وخلفياتهم الثقافيّة. ‏

وتتمثّلُ مقاصد التّنوع اللغويّ في الاعتراف بلغات العالم كلّها وحمايتها من الزوال والاندثار عن ‏طريق تمكين أصحابها اقتصاديًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا ليتمكّنوا من الصّمود والحفاظ على ‏مذخوراتهم الثقافيّة ومدّخراتهم اللغويّة ووقايتها من الموت الذي يُحدقُ بها. وهذا يعني أنّ لغاتِ العالم ‏كلَّها تملك أقدارًا متماثلة ومتكافئة من جهة تمثيلها الاجتماعيّ وتعبيرها عن هُويّة أصحابها، بصرف ‏النظر عن المساحة الجغرافية التي تنتشر فيها أو عدد الناطقين بها ومستعمليها أو القوة الاقتصادية ‏التي يتمتع بها أصحابها أو السّلطة السّياسية التي تحظى بها الدّول المنتشرة فيها. ‏

ولعلّ ما يؤنسُ أنّ لأطروحة التنوّع اللغويّ أصلًا في التراث العربي والإسلاميّ، فعلى الرغم من ‏مركزيّة اللُّغة العربيّة في الحضارة العربيّة الإسلامية إلا أنّ الاعترافَ بالتنوّع اللغويّ حاضرٌ في ‏التّنزيل العزيز بوصفه مُعجزةً وعلامةً من علامات قدرة الله القائل: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ ‏وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ"(5).‏

كما أنّ نزول الوحي على النبي العربيّ محمد -صلّى الله عليه وسلّم- باللُّغة العربيّة لم يمنع أحد أبرز ‏الأئمة والمحدّثين والفقهاء وهو ابن حزم الأندلسيّ الظاهريّ (ت 456 هـ/ 1064م) من أنْ يَصِمَ ‏دعوى المفاضلة بين اللغات بالسُّخف ويرمي دعاتها بالزّيغ والضّلال قائلًا: "وقد توهّمَ قومٌ في لغتهم ‏أنّها أفضل اللغات. وهذا لا معنى له لأنّ وجوهَ الفضل معروفةٌ وإنّما هي بعملٍ أو اختصاصٍ ولا ‏عملَ للّغة، ولا جاء نصٌّ في تفضيل لغة على لُغة. وقد قال تعالى: "وما أرسلنا من رسولٍ إلاّ بلسان ‏قومه ليُبيّن لهم". وقال تعالى: "فإنّما يسّرناه بلسانك لعلّهم يتذكّرون". فأخبر تعالى أنه لم يُنزل القرآن ‏بلغة العرب إلاّ ليفهم ذلك قومُه عليه السّلام لا لغير ذلك. وقد غلط في ذلك جالينوس فقال: "إنّ لغة ‏اليونانيين أفضلُ اللغات لأنّ سائر اللّغات إنما تشبهُ إمّا نُباحَ الكلاب أو نقيقَ الضّفادع"(6).‏

وإذا كان التّفاضل بين اللغات التي نزلت بها الكُتب السماويّة والوحي مقولة ساقطة، فإنّ التّفاضل ‏ودعواه يسقطان بين مختلف اللُّغات بصرف النّظر عن منزلة كلّ لغةٍ ومَنْشَئِها ومصدرها ورصيدها ‏بما فيها اللُّغة العربيّة التي ذهب بعض المُتعصّبين إلى أنّها أفضل اللغات وأعلاها؛ لأنّ كلامَ الله ‏تعالى قد نزل بها. يقول ابن حزم الأندلسيّ: "وهذا لا معنى له لأنّ الله عزّ وجل قد أخبرنا أنه لم ‏يُرسل رسولًا إلاّ بلسان قومه. وقال تعالى: "وإنْ من أُمّة إلّا خلا فيها نذير". وقال تعالى: "وإنّه لفي ‏زبر الأوّلين". فبكلّ لغةٍ قد نزل كلامُ الله تعالى ووحيه، وقد أَنزل التّوراةَ، والإنجيلَ، والزّبورَ، وكلّم ‏موسى عليه السّلام بالعبرانيّة. وأنزل الصُّحف على إبراهيم عليه السّلام بالسّريانيّة فتساوت اللغاتُ ‏في هذا تساويًا واحدًا. وأمّا لغةُ أهل الجنّة وأهل النّار فلا علم عندنا إلّا ما جاء في النّصّ والإجماع، ‏ولا نصّ ولا إجماعَ في ذلك"(7). ‏

إنّ ما يتضمّنه قول ابن حزم الأندلسيّ هو أنّ التنوّعَ اللغويّ أصلٌ في الاجتماع الإنسانيّ، وأنّه لا ‏مزية للغة على لغةٍ أُخرى حتى إنْ كانت لغة التنزيل والكلام الإلهيّة، لاسيّما أنّ التنوّع اللغويّ ‏حاضرٌ في التّنزيل العزيز بوصفه مُعجزةً وعلامةً من علامات القدرة الإلهيّة.‏

لذلك فإنّ القولَ بأفضليّة لغة على سائر اللّغات يسقطُ لعدم وجاهته، كما أنّ التّنوّعَ اللغويّ يقضي ‏بالفصل بين المُقدّس واللُّغة من جهة والوصل بين المجتمع واللُّغة من جهة أُخرى؛ فكلّ لغة تُعبّر عن ‏مجتمع يملكُ الحقَّ في التّعبير عن حاجاته ومآربه من خلال لغته دون أنْ تمثّلَ حالةُ التوافقِ بين ‏اللُّغة والمُقدّس في بعض اللغات سببًا في هيمنة اللُّغة على اللغات الأُخرى، أو أنْ تُشكّل دافعًا لتفوّق ‏أصحابها على غيرهم. وبالجُملة فإنّ تفوّق اللُّغة الاقتصاديّ أو السياسيّ أو الدينيّ أو الحضاريّ لا ‏يمنحها الحقّ في الهيمنة اللغويّة والقضاء على اللغات الأُخرى وإبادتها.‏

كما تحضرُ التّعدديّةُ اللغويّة في خطاب ابن حزم الأندلسيّ بجلاءٍ؛ إذ يرى أنّ التّعدديّةَ اللغويّة مصدر ‏ثراء وغنىً وإبداع، وأنّ الأُحاديّة اللغويّة تعرقلُ العطاءَ والتّقدّم وتعطّل التّفاهم. يقول ابن حزم: ‏‏"وإنّما ظننّا هذا لأننا لا ندري أيَّ سبب دعا النّاس ولهم لغةٌ يتكلمون بها ويتفاهمون بها إلى إحداث ‏لُغة أُخرى، وعظيمُ التّعب في ذلك لغير معنىً، ومثلُ هذا من الفضول لا يتفرّغُ له عاقلٌ بوجهٍ من ‏الوجوه. فإنْ وُجِدَ ذلك فمن فارغٍ فضوليٍّ سيّئِ الاختيار مُشْتَغلٍ بما لا فائدةَ فيه عمّا يعنيه، وعمّا هو ‏آكدٌ عليه من أُمور مَعاده ومصالح دُنياه ولذّاته وسائر العلوم النّافعة"(8).‏

إنّ تخلي المجتمعات والدّول عن التّعدديّة اللغويّة وفرض الأُحاديّة اللغويّة لا يٌعدُّ انتهاكًا للغات ‏وحقوق الجماعات حسب، بل إنه هَدْرٌ لقوى الإنتاج وتشويه للمتخيّل الاجتماعيّ ومُصادرة للذاكرة ‏الجماعيّة، وتبديد للعلوم ومُنجزات اللغات الثقافيّة ومحو للهويّات وإجهاض للتقدّم والتنمية والتطور. ‏وبعبارة أُخرى فإنّ الأُحادية اللغويّة إبادةٌ لغويّة واجتماعيّة من شأنها تخريق أواصر المجتمع. يقول ‏ابن حزم الأندلسيّ موضّحًا: "ثُمّ من له بطاعة أهل بلده له في تركِ لغتهم والكلام باللُّغة التي عمل ‏لهم؟ ولكنّا لسنا نجعلُ ذلك مُحالًا مُمتنعًا بل نقول: إنه ممكن بعيدٌ جدًّا. فإنْ قالوا: لعلّ ملكًا كانت في ‏مملكته لغاتٌ شتّى فجمع لهم لغةً يتفاهمون بها كلُّهم. قلنا لهم: هذا ضدّ وضع اللّغات الكثيرة، بل هو ‏جمعُ اللغات على لغة واحدة، ثمّ نقول: وما الذي يدعو هذا الملك إلى هذه الكُلفة الباردة الصّعبة ‏الثّقيلة التي لا تُفيدُ شيئًا؟ وكان أسهل له أنْ يجمعهم على لغة ما من تلك اللغات التي كانوا يتكلمون ‏بها أو على لغته نفسه، فكان أخفّ وأمكنَ من إحداث لغة مُستأنفة، وعلم ذلك عند الله عزّ وجلّ"(9). ‏

يعزو ابنُ حزم الأندلسيّ ضعفَ اللغات والتّمهيد إلى موتها إلى مجموعة من الأسباب فيقول: "إنّ ‏اللُّغة يسقطُ أكثرُها ويَبْطُل بسقوط دولة أهلها، ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم، أو بنقلهم عن ‏ديارهم واختلاطهم بغيرهم"(10). إنّها ثلاثة أسباب تجتمع على اللغات فتؤذن بضعفها وتُنذرُ بموتها: ‏السّبب الأوّل منها ذاتيّ يتمثلُ في فساد العمران الإنسانيّ في الدّولة النّاجم عن العصبيّات وغياب ‏التّخطيط واختلال السّياسات، أمّا السّبب الثاني فراجعٌ إلى عامل خارجيّ يتّصل بالغزو والاحتلال ‏الخارجيّ وسيطرة الغُزاة على مقاليد الدّولة والمجتمع سيطرة استعماريّة احتلاليّة إحلاليّة، وأمّا ‏السبب الأخير فيعود إلى السّياقات القسريّة التي تدفع أهل اللُّغة إلى اللجوء والهجرة إلى بلاد ‏ومجتمعات مُختلفة، واختلاطهم بغيرهم من ذوي الألسنة المُهيمنة في منافيهم ومَهَاجرهم ومواطن ‏لجوئهم. ‏

ويكشف تصوُّرُ ابن حزم الأندلسيّ المُتّصل بضعف اللغات وموتها عن عوامل ذاتيّة وموضوعيّة ‏متواشجة منشؤها فساد الدولة السّياسيّ، وانتشار العصبيّات والنّزاعات المؤدّية إلى شيوع الوهن في ‏مؤسسات الدّولة، وإضعاف روابط البنية الاجتماعيّة، وإشاعة الخَوَر في نفوس الأفراد والجماعات ‏ممّا يدفعهم إلى الهجرة واللجوء إلى بلدان أخرى، ويجعل بلادهم عُرضةً للاستعمار والاحتلال.‏

ولعلّ رؤية ابن حزم الأندلسيّ المُتصلة بضعف اللُّغة وقوّتها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمفهومين مركزيين ‏هما: الأُمّة والدّولة، فأمّا الأمّة فتتضمّن النَّسَبَ واللسانَ العربيّين؛ فالعربيّ مَن كان نَسبُه ولسانه ‏عربيّين، أو مَن كان نسبُه غير عربيٍّ لكنه عربيُّ اللسان. وبعبارة أُخرى، فإنّ التّصوّر الإسلاميَّ ‏للأمّة سعى إلى ربط العروبة باللُّغة من أجل توسيع مضمار الهويّة واختراق العصبيّة القبليّة وخلخلة ‏محدوديّة مفاهيمها المُتعالية التي حصرت العروبة بالنّسب، ولم يكن ذلك ليتحقق إلا بإجراء "تحوّل ‏في العلاقات الاجتماعيّة من التأكيد على النّسب إلى التّأكيد على الإمكانيّات المادّية... وقيام حركات ‏تدعو إلى العدالة الاجتماعيّة وإلى تحسين الأوضاع المعاشيّة"(11)، علاوة على التطوّر الاقتصاديّ ‏الذي مثّل رافعة بنيويّة في هذه التحوّلات الجذريّة. ‏

وبهذا المعنى، فإنّ الأمّةَ بناءٌ جامعٌ يستهدفُ بناء مُتخيّل عمرانيّ قائم على المساواة والهويّة الجامعة ‏التي تتجاوز النّسَب والعصبيّات والعرقيّات التي يجب عليها تحييد فوارقها من أجل النّهوض الجمعيّ ‏الكفيل بإحداث الّتقدّم والتحوّل والارتقاء لجميع العناصر والمكوّنات البشريّة التي تنتمي إلى الأُمّة. ‏

وأمّا الدّولةُ فهي الشكلُ الذي يُعبّر عن التّنظيم الاجتماعي المتآلف في الحقوق والواجبات بين مختلف ‏أفراد المجتمع، وهي تترجم المساحة الفعليّة التي يتحقّقُ فيها الوجدان الفرديّ وسعي الأفراد إلى ‏تحقيق غاياتهم وتطلّعاتهم وأهدافهم السّامية التي يحيون من أجل تحقيقها، تلك المُتمثّلة في تمكين ‏الأفراد من تحويل قواهم الكامنة إلى غايات ماديّة تتجلّى في تنمية الفكر والمعرفة والرّفاهيّة ‏والسّعادة، وتحقيق ما يصبون إليه من سدّ الحاجات البدنيّة والفكريّة المُتنامية باستمرار، على أنّ ‏غايات الأفراد وتطلعاتهم وأهدافهم لا يُمكن أنْ تتحقّق إلا بالتّعاون النّاتج عن القوّة الجماعيّة. ‏

وبعبارة أُخرى، فإنّ على الدّولة تهيئة شروط الاجتماع الإنسانيّ المولّد للقوّة والفاعليّة الجماعية ‏الكفيلة بتحقيق الغايات والتّطلّعات والأهداف التي ستثُمرُ التحوّلَ في الإنتاج والرفاهيّة والتّقدّم. أما إذا ‏اقتصر دور الدّولة على توفير الحاجات الماديّة الأساسيّة دون أنْ تنهضَ بتحقيق شروط التّفاعلات ‏الاجتماعيّة فإنّ وجودَها يتناقضُ مع قانون ولادتها فيتعارضُ، إذْ ذاك، حضورُها مع المجتمع ‏والأفراد، نتيجة أخطاء إنسانيّة مُتعمّدة تؤدّي إلى نشوء الدّولة الاستبداديّة الظّالمة التي تشيع فيها ‏المظالم والمفاسد والاضطرابات(12).‏

واستنادًا إلى هذه التصوّرات، فإنّ تصدُّع الدّولة مؤذنٌ بانهيار الأمّة وموت اللُّغة وانحلال عرى ‏الرّابطة الاجتماعيّة وتداعي هِمم الأفراد وفتور عزائمهم وتراخي دافعيّتهم. يقول ابن حزم الأندلسيّ: ‏‏"فإنّما يُقيّدُ لغةَ الأُمَّة وعلومَها وأخبارَها قوّةُ دولتها ونشاط أهلها وفراغهم. وأمّا مَن تَلِفَت دولتُهم، ‏وغلب عليهم عدوُّهم، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذّل وخدمة أعدائهم، فمضمونٌ منهم موتُ ‏الخواطر. وربّما كان ذلك سببًا لذهاب لُغتهم، ونسيان أنسابهم وأخبارهم، وبيود علومهم"(13).‏

امتلاك اللُّغة العربيّة أسبابًا ذاتية للبقاء وقيم ثبوت راسخة وقوة تحوّل فاعلة -بحسب الأستاذ الدكتور ‏نهاد الموسى- لن يشفع لها في الصّمود في حرب اللغات المُرتقبة، ذلك أنّ تصدّع مشروع الأُمّة ‏الحضاري، وتهاوي أنظمة الدّول الوطنيّة، وتعطُّل مشروعي النهضة والتّنمية هي أقوى المخاطر ‏التي تُحْدق باللُّغة العربيّة وأبنائها. ‏

الهوامش:‏

‏(1)‏ ‏ بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، الجزء الأوّل، تحقيق: محمد بهجة الأثري، المطبعة الرحمانية، ‏القاهرة، 1929، ص11.‏

‏(2)‏ ‏ نفسه، ج1، ص11. ‏

‏(3)‏ ‏ نيقولاس أوستلر، إمبراطوريات الكلمة: تاريخ للُّغات في العالم، ترجمة: محمد توفيق البجيرمي، دار ‏الكتاب العربي، بيروت، 2011، ص25. ‏

‏(4)‏ ‏ للوقوف على ترجمتنا موادّ الإعلان العالميّ للحقوق اللغوية ينظر: الإعلان العالميّ للحقوق اللغويّة، ‏مجلة التخطيط والسياسة اللغويّة، ع11- السنة السّادسة، مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز ‏لخدمة اللُّغة العربيّة، الرياض، أيلول/ سبتمبر 2020، ص145-178. ترجمة: هيثم سرحان، ‏وعذبة المسلمانيّ.‏

‏(5)‏ ‏ القرآن الكريم، سورة الرّوم، آية 22. ‏

‏(6)‏ ‏ الإحكام في أُصول الأحكام، ج1، تحقيق: أحمد محمد شاكر، تقديم: إحسان عبّاس، دار الآفاق الجديدة، ‏بيروت، 1980. ص33-34.‏

‏(7)‏ ‏ نفسه، ص34.‏

‏(8)‏ ‏ الإحكام في أُصول الأحكام، ج1، ص33.‏

‏(9)‏ ‏ نفسه، ص33.‏

‏(10)‏ نفسه، ص33.‏

‏(11)‏ انظر: عبدالعزيز الدّوري، الجذور التّاريخيّة للشّعوبيّة: دراسة في الهُويّة والوعي، ط4، مركز ‏دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، 2003، ص96-98.‏

‏(12)‏ انظر: عبدالله العرويّ، مفهوم الدّولة، ط9، المركز الثّقافي العربيّ، الدّار البيضاء- بيروت، ‏‏2011، ص13-17.‏

‏(13)‏ الإحكام في أُصول الأحكام، ج1، ص32.‏