التربية الأسطوريّة وأثرها في الحياة اليوميّة

مجدي ممدوح

كاتب أردني

 

لا يمكن الادِّعاء أنَّ كل جوانب التربية الأسطوريّة هي جوانب سلبيّة على المجتمعات. ‏فهذه التربية هي التي تشكِّل الصَّمغ اللّاصق للمجتمع، لأنَّ أيّ مجموعة بشريّة لا يمكن ‏أن تتماسك وتتضامن إلّا من خلال الاجتماع على حكاية كبرى تكون قِبلةً لكلِّ أفئدة ‏هذه المجموعة. كما تُسهم التربية الأسطوريّة في شحذ خيال الفرد، وهي ربَّما تكون ‏مفيدة في ظهور عبقريّات شعريّة وسرديّة داخل المجتمعات، لأنَّ الإنتاج الأدبي يعتمد ‏في الأساس على الخيال الجامح.‏

 

ربَّما يكون أفضل وصف للأسطورة هو ذلك الوصف الذي قدَّمه الباحث فراس ‏السواح حين نَعتَها بـِ"مغامرة العقل الأولى". وهذا الوصف يجعلها تفترق عن الخرافة ‏التي هي "لا عقل" محض. وبالرَّغم من أنَّ بعضهم يعرِّف الأسطورة بوصفها المفهوم ‏المُضاد للعقل، إلّا أنَّ هذا الوصف ربَّما لا يكون دقيقًا تمامًا، فالأسطورة هي في ‏جوهرها محاولة عقليّة جريئة في عصر لا تكون معطيات العلم كافية لتفسير الواقع، ‏ومع تقدُّم العلم، فإنَّ هذا العلم يحلّ شيئًا فشيئًا مكان الأسطورة، وهذا يقودنا للاستنتاج، ‏مع بعض التحفُّظات؛ أنَّ العلم في كثير من الأحيان، ينبثق من رحم الأسطورة، ثم ‏ينجح في نقطة ما بالانفصال والاستقلال عندما يمتلك موضوعًا محدَّدًا ومنهجيّة ‏خاصة لمقاربة موضوعه. ‏

فالأسطورة هي المرحلة الأولى والأطوَل من مراحل تطوُّر الإنسان، والتي امتدَّت منذ ‏فجر التاريخ وحتى بزوغ المرحلة الميتافيزيقية في الحقبة اليونانيّة، والتي امتدَّت ‏بدورها لحين انبثاق عصر العلم الحديث قبل خمسة قرون. وقد كان الفيلسوف ‏‏"أوغست كونت" قد قسَّم مراحل تطوُّر الإنسان إلى ثلاث مراحل: الأسطوريّة، ‏الميتافيزيقيّة، والعلميّة. معنى ذلك، أنَّ التصوُّرات الأسطوريّة كانت في حقبة ما بديلًا ‏عن العلم الذي لم يكن قد اشتدَّ عوده بعد. ‏

على الرّغم من دخولنا عصر العلم، إلّا أنَّ الأساطير لم تختفِ تمامًا من حياتنا، حيث ‏ما زالت الأسطورة ببنائها المتماسك ووحدتها وجمالها وسحرها تجتذب العقول في ‏حضارتنا الرّاهنة. ما زال الإنسان لغاية اليوم يحنُّ للعالم القديم الذي كان يلفُّه السِّحر. ‏هذا السِّحر الذي سعت حداثتنا جاهدة لسَحبِه من حياتنا وإحلال التصوُّرات العقلانيّة ‏محلّه، حتى إنَّ تعريف الحداثة اتَّخذ تعبيرًا اختزاليًّا وهو إفراغ العالم من السِّحر. ‏

هكذا إذن، لقد أفلحت الحداثة في إفراغ عالمنا من الأساطير، ولكن ليس تمامًا. ‏فبالإضافة لجمال الأسطورة وسحرها، فإنَّ لها مظهرًا آخر من مظاهر القوّة، وهو ‏كونها تمثِّل النص المؤسِّس لأغلب شعوب الأرض. ‏

عندما نتحرّى البدايات الأولى لنشأة الشعوب، فإنَّنا سنصل حتمًا لبداية أسطوريّة. ‏فالنص المؤسِّس للشعب اليوناني هو النص الهوميري. أمّا النص المؤسس للشعب ‏الروماني، الذي بنى امبراطورية سيطرت على رقعة هائلة من العالم القديم والوسيط، ‏فهو أيضًا نص أسطوري هو ملحمة الإنياذة التي سطرها "فيرجيل". وتقوم هذه ‏الأسطورة على وجود ناجٍ وحيد من الشعب الطروادي الذي أباده الأثينيون في مكيدة ‏الحصان المشهورة، وأنَّ الناجي الوحيد من هذه المجزرة هو "إنياس" الذي هرب من ‏طروادة إلى إيطاليا وبدأ به عصر الرومان. ‏

وهكذا، فإنَّ الأسطورة تتغلغل في الوجدان الشعبي لأغلب شعوب العالم، وتدخل ‏كمكوِّن أساسي في البرامج التربوية والتعليمية. ومما يزيد من قوة الأسطورة وسطوتها ‏لدى بعض الشعوب، أنها دخلت في النصوص المقدسة لهذه الشعوب، مما يشكل ‏سطوة مضافة للأسطورة. إن العقل الحديث، وبالرغم من امتلاكه أدوات جبارة في ‏فحص النصوص وتفكيكها واكتشاف العناصر غير العقلانية فيها، إلا أنه يقف عاجزًا ‏أمام النصوص المقدسة التي لا يجوز وضعها وضع مساءلة أو تحليل أو فحص، لأنَّها ‏‏"دوجما" قطعيّة لا يجوز مناقشتها. ‏

لا يمكن الادِّعاء أنَّ كل جوانب التربية الأسطوريّة هي جوانب سلبية على المجتمعات. ‏فهذه التربية هي التي تشكل الصمغ اللاصق للمجتمع، لأنَّ أي مجموعة بشرية لا يمكن ‏أن تتماسك وتتضامن إلا من خلال الاجتماع على حكاية كبرى تكون قبلة لكل أفئدة ‏هذه المجموعة. فالعلم والعقلانية مهما شاعا بين الأفراد لا يمكن لهما أن يجمعاهم. ما ‏يجمع الأفراد هو العنصر الأيديولوجي الذي هو في جلِّه لا ينتمي للوعي، بل للاوعي ‏الجمعي. وبالرغم من فائدتها السابقة في خلق هوية موحدة للشعوب، إلا أن بإمكان ‏التربية الأسطوريّة أن تكون عاملًا معِّوقًا في نهضة المجتمعات في حالة كانت هي ‏الوعي السائد لدى الأفراد. ‏

ثمّة كتاب مهم في الثقافة العربية عالج هذه المسألة بعمق، هو كتاب الباحث مصطفى ‏حجازي "التخلف الاجتماعي.. مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور". وقد طبَّق ‏حجازي في هذا الكتاب المنهج الفرويدي بكفاءة عالية لتقصّي آثار التربية الأسطوريّة ‏على الفرد في المجتمعات العربية. لقد اكتشف حجازي أنَّ لبّ الفرد العربي هو لبّ ‏أسطوري، وأنَّ العقل الذي يتشكّل لاحقًا في المدرسة والجامعة هو عبارة عن قشرة ‏خارجيّة تحيط بهذا اللب الأسطوري. صحيح أنَّ الفرد العربي المتعلم والمثقف ثقافة ‏عقلانية جيدة يسلك سلوكًا عقلانيًّا مقبولًا في حياته اليوميّة، إلا أنه عندما يتعرَّض ‏لمحنة كبيرة في حياته، فإنه يعود إلى لبِّه الأسطوريّ. وهكذا فإنَّ القشرة العقلانية غير ‏السميكة معرَّضة على الدوام للاختفاء. ويمكن ملاحظة أنَّ الكثير من الأفراد الذين ‏تلقوا تعليمًا جامعيًّا أوليًّا أو عاليًا، قد استعانوا ببعض السحرة والمشعوذين لحلّ بعض ‏المشاكل المستعصية في حياتهم، وخاصة تلك المشاكل المتعلقة بالإنجاب والحياة ‏العاطفية والأمراض المستعصية. وهذا يؤكد المخاوف التي أبانها حجازي في كتابه ‏حول هشاشة التكوين العقلاني للفرد العربي. ‏

تُسهم التربية الأسطوريّة في شحذ خيال الفرد، وهي ربما تكون مفيدة في ظهور ‏عبقريات شعرية وسردية داخل المجتمعات، لأن الإنتاج الأدبي يعتمد في الأساس على ‏الخيال الجامح. استنادًا لتحليلنا السابق، فثمة فرق بين المجتمعات المتقدمة والمجتمعات ‏المتخلفة في الدور الذي تلعبه الأسطورة في هذه المجتمعات. نستطيع القول إنَّ الفرد ‏في المجتمعات المتقدمة يمتلك القدرة، بحكم تربيته العقلانية المبكرة، على فرز ‏العناصر الأسطوريّة من العناصر العقلانية، ووضع كل منهما في السياق الصحيح. ‏

إنَّ التشابك المربك بين الأسطورة والعلم يولِّد خلطًا كبيرًا يسيء للعلم ويعيق تأهيل ‏الأفراد تأهيلًا علميًّا عصريًّا. لقد تشابكت أساطير الخلق تشابكًا مربكًا مع نظريات ‏التطور والعلوم االبيولوجية. لقد تعرَّضت نظرية التطوُّر لهجوم كبير من العديد من ‏المرجعيّات الدينيّة لأنَّها لا تتفق من القصص الدينية التي تقول إنَّ عمر الإنسان على ‏الأرض يقدَّر بسبعة آلاف سنة، بينما تقول نظرية التطوُّر إنَّ وجوده على الأرض ‏يمتد لمئات الألوف من السنين. هذه المشكلة موجودة في كل المجتمعات المتقدمة ‏والمتخلفة، ولكنها في المجتمعات المتخلفة أكثر حدّة، لأنَّ الفرد في المجتمعات المتقدمة ‏يحتكم في نهاية المطاف للسببيّة العلميّة، بينما يحتدم الصراع في الدول المتخلفة وربما ‏يصل للصدام. والحقيقة أنَّ مجتمعنا الأردني شهد هذا النوع من الصراع بسبب بعض ‏التعديلات في المناهج الدراسية. هناك بعض النصوص في المناهج المدرسية حاولت ‏وصف المساعدة العسكريّة التي تلقّاها المسلمون من الملائكة بأنها عبارة عن ‏أسطورة. وهنا علينا الانتباه أنَّ هذا القول يتعارض مع نص ديني صريح. ‏

إنَّ الإشكاليّات السابقة ليست جديدة تمامًا على المجتمعات العربيّة، فثمة قصص ‏مشابهة في التاريخ العربي الإسلامي ظهر فيها تعارض ظاهري بين النص والعقل، ‏وكان الحل الذي اقترحه العقلانيون من أمثال ابن رشد والمعتزلة هو التأويل. نستطيع ‏بواسطة التأويل أن نوفِّق بين العقل والنقل. والتأويل مخرج ممتاز لكل فرد يروم ‏الحفاظ على النص الديني كما هو؛ ثم إعطائه معنى جديدًا يتوافق مع العقلانية ‏المعاصرة. ‏

لقد استطاعت المجتمعات الإسلامية دائمًا ردم الفجوة بين العقل والنقل من خلال ‏التأويل، وقد وصلنا من التراث العربي نصوص لا حصر لها تشير على المعارك التي ‏شهدها التأويل. ولكن توقُّف التأويل في مجتمعاتنا أدّى إلى اتِّساع هذه الفجوة بين ‏النص والعقل حتى وصلنا للنقطة التي نصف فيها النصوص المقدسة بأنها أساطير. ‏

الحقيقة أنّ كافة الإشارات حول تقدُّم المجتمعات تفيد أنَّ الأساطير، وخاصة المرتبطة ‏بالنصوص المؤسِّسة للشعوب، ستبقى حيّة في النسيج الاجتماعي إلى أمد غير منظور. ‏وإذا ما أضفنا لذلك خلوّ الأسطورة من عنصري الزمان والمكان، فإنَّ هذا يجعلها ‏عابرة للأزمان وقادرة على التعايش مع طيف واسع من الحقب الزمنيّة. وهنا يمكن ‏ملاحظة أنَّ الأسطورة أقدر على الصمود في المجتمعات من الحكاية الشعبيّة، لأنَّ ‏الأخيرة مرتبطة بزمان ومكان محدَّدان، وتفقد سطوتها مع انقضاء زمانها وانمحاء ‏مكانها.‏