توظيف الأسطورة في المسرح

د. يحيى البشتاوي

أكاديمي ومخرج وناقد مسرحي أردني

 

على مَرِّ التاريخ أفادَ المسرح من الأسطورة، حيث وظَّفها رمزيًّا أو إشاريًّا، أو بما يشكِّل منها حالات ‏رؤيويّة تفاوتت بين الاستخدام الإبداعي والاستخدام الوظيفي النَّصي بحسب كيفيّة التعامل مع الرَّمز ‏الأسطوري، وكان ممّا هيَّأ الإمكانات لتوظيف الأسطورة في المسرح هو مرونتها التي تسمح ‏بتطويعها لكثير من غايات الفنّ والأدب.‏

 

ارْتَبَطَت ولادة الأسطورة بولادة العقليّة الإنسانيّة وطفولتها؛ حيث تحقَّقت من خلالها أولى مراحل ‏التفكير الفلسفي، فشكَّلت وسيلة للتأمُّل وفهم الطبيعة وظواهرها وكشف أسرارها في الوقت الذي لم ‏يكن فيه الإنسان قادرًا على تحليل الظواهر الكونيّة، والوصول إلى نتائج منطقيّة في تفسيرها، ممّا ‏جعله يصفها في شكل رموز تعبِّر عن خوفه وقلقه الوجوديّ.‏

ولم تتوقَّف عند ذلك، بل أخذت الأسطورة حيِّزًا زمانيًّا ومكانيًّا مهمًّا في تاريخ الحضارات الإنسانية ‏والفكر البشري منذ تشكُّلاته الأولى، لتشكِّل بذلك نتاجًا معرفيًّا جماعيًّا جسَّد وضعًا معرفيًّا ‏أنثروبولوجيًّا، ومرجعًا ثقافيًّا متميِّزًا تنهل منه الكثير من الدراسات الاجتماعية والفكرية والتاريخية ‏والفولكلورية، بل تعدّاها إلى أنواع الفنون كافّة، ومعظم الأجناس الأدبيّة.‏

وإذا كانت الأسطورة قد اتَّخذت من تصوير الأحداث السياسية والاجتماعية وظيفة رئيسة، فإنه لا ‏يمكن تجاوز الوظيفة التعليمية للأسطورة، فمنذ فجر التاريخ تمَّ استخدام الأسطورة من قبل الفلاسفة ‏والحكماء بوصفها وسيلة لتعليم المعرفة للآخرين، وفي إثارة المشاعر الوطنيّة بتذكير الناس بتاريخهم ‏كي يتَّخذوا العِبَر من هذا التاريخ، وبذلك "فقد قامت الأسطورة بإضفاء الحيويّة والديناميكيّة في ‏استحضارها لسيرة الأسلاف، وترسُّخ التفكير الميثولوجي في الوعي الاجتماعي للشعوب -وإنْ كان ‏بدرجات متفاوتة- وتوارثته الأجيال حيث أصبح الماضي مشاركًا في الحاضر، وأصبح الأسلاف ‏الموتى -حتى مَن لم يدفعوا منهم حركة التاريخ في الماضي- هم الذين يتحكّمون ويسيطرون ويديرون ‏دفَّة الزمن الحاضر كنماذج يتوجَّب احتذاؤها"(1). ‏

ومنذ الولادة الأولى للمسرح الإغريقي، سعى روّاده إلى توظيف الميثولوجيا في عملية الخلق ‏الدرامي، فقد اعتمد روّاد التراجيديا الإغريقية (أسخيلوس، سوفوكـلس، ويوربيدس) على ملاحم ‏الشاعـر الإغريقي (هوميروس) في بنائهـم لنصوصهم المسرحيّة؛ ممّا هيَّأ لهم عرض قضايا المجتمع ‏الإغريقي بوعي ونجاح، ويعـود ذلـك للأحداث التي حفلت بها الأسطورة، والتي عبَّرت عن قيم ‏فلسفية وفكرية عميقة، "ولم يكن توظيف الأسطورة في المسرح الإغريقي توظيفًا للأسطورة برمَّتها، ‏وإنَّما كان توظيفًا لجزء معيَّن منها. أي أنَّ المسرحية تُقام على حدث معيَّن من أحداث الأسطورة، أو ‏على موقفٍ من مواقفها. ولعلَّ هذا راجع إلى تأثر التراجيديا بالملحمة، حيث أنَّ الملحمة نفسها لا ‏تتعرَّض لأساطير بأكملها"(2)، وبذلك فقد كان للتوظيف الميثولوجي في المسرح أثره في معالجة ‏العديد من الموضوعات الأسطورية المقاربة في بنائها للبناء المسرحي، إذ اعتمد روّاد المسرح في ‏عملهم المسرحي على المعطيات الأسطورية، لاسيما تلك الأحداث والحقائق التي يمكن تفسيرها دينيًّا ‏ودنيويًّا، وذلك ببنائهم لشكل مسرحي يقوم على رؤية حضارية تتناسب مع الواقع.‏

‏ وكان ممّا هيَّأ للأسطورة إمكانات الخلق الدرامي هو جوانبها الوظيفيّة الغنيّة، فهي تتمتَّع بمستويات ‏مختلفة من الوعي ودرجات من الوضوح تؤهِّلها في عملية تفسير المعتقدات والقيم الاجتماعية، فكل ‏المجتمعات الإنسانية يتأسّس فكرها الإنساني على الأساطير، التي يمكن من خلال تحليلها تكوين ‏وجهة نظر موضوعيّة عن مجتمع معيّن. ‏

‏ وذهب "أرنست كاسيرر" إلى أنَّ الأسطورة تشكِّل تعبيرًا عن قوّة حياة الروح الإنسانية في مرحلة ‏معيّنة من تطوُّرها، وتُعدُّ من أبرز المؤثرات في الحضارة الإنسانية لعلاقتها الوثيقة بالأفعال ‏الإنسانية، فلا يمكن فصل الشعر والفن والتاريخ عنها، إنها تجسيد للتعبير عن المشاعر الإنسانية، ‏ومن ثم فإنها لغة رمزية من المشاعر، تعبِّر عن وحدة وتواصل التجربة من خلال حقيقة ذاتية نفسية ‏تشكل نمطًا من الاعتقاد، والذي قد تكون له وظيفة اجتماعية عامة تتعلق بتكوين توازن داخلي ‏وبإقامة علاقة بين الذات والنظام الاجتماعي من خلال الأسطورة، كما هي الحال في النظرية ‏الوظيفية(3)، وهو يرفض التجريدات العلمية بوصفها انعكاسًا للواقع، ويتعامل مع العالم المادي على ‏أنه مقولات تنتمي للفكر مستبدلًا قوانينه باستقلال وظيفي ذي تفسيرٍ مثالي.‏

‏ لكن "رولان بارت" أكَّد أنَّ الأسطورة يمكن أنْ تعبِّر عن الأشياء ولا تنكرها، "إنها ببساطة تعمل ‏على تطهيرها من الشوائب وجعلها نقيّة وتثبِّتها في الطبيعة والأبدية وتضفي عليها وضوحًا، وليس ‏المقصود بذلك وضوح التفسير، بل وضوح التعبير. وبالتحوُّل من التاريخ إلى الطبيعة توفر ‏الأسطورة جهدًا: فهي تلغي تعقيد الفعل البشري وتسبغ عليه بساطة أوليّة، فهي تتصدّى لكل جدل أو ‏أي شيء من شأنه أن يبتعد بنا وراء ما هو منظور بشكل مباشر. إنها تنظِّم عالمًا دون تعقيدات نظرًا ‏لأنَّ العالم من دون عمق سوف يتكشّف على حقيقته"(4). ‏

لكن قد نجد شمولًا في تعداد وظائف الأسطورة وعلم الأساطير، وذلك من خلال التصنيف الذي ورد ‏في الموسوعة البريطانية، حيث تمَّ تقسيم وظائف الأسطورة إلى:‏

‏1- وظيفة الأسطورة التفسيرية والقصصية، فالأسطورة تتولّى مهمّة شرح الحقائق الطبيعية ‏والاجتماعية والثقافية والحياتية، وهذا لا يعني اقترانها بالقصص السببيّة (التعليليّة).‏

‏2- وظيفة الأسطورة في التبرير والإثبات، فهي تجيب عن الأسئلة المتعلقة بطبيعة وأصل الطقوس ‏الدينية والتعبُّدية.‏

‏3- وظيفة الأسطورة في الوصف، والتي ترتبط بالتمثيل الجازم للحقائق، فبإمكان الأساطير أن ‏تصف أصل العالم ونهايته، وأن تصف ما لا يمكن للأشخاص من مشاهدته في أنفسهم.‏

‏4ـ وظيفة الأسطورة في خلق الكون ونظامه.‏

‏5ـ الوظيفة السحرية والفنية الشعرية للأسطورة(5).‏

‏ لقد أدّى الاختلاف في تحديد ماهية الأسطورة وبواعثها ومكوناتها إلى إخضاعها لمناهج فكرية ‏عديدة تعاملت معها وفسرتها، وقد خضعت هذه المناهج بدورها لنزعات الرؤية الفردية ذات ‏الاتجاهات المتباينة، "وإذا كان علماء الأسطورة قد اختلفوا في تفسيرهم لها من اعتبارها ذاكرة ‏الإنسان (ليسز)، أو علمًا بدائيًا يهدف إلى تفسير الحياة والكون (فريزر)، أو هيكلًا لحدث تاريخي ‏‏(مالينوفسكي)، أو اختزالًا للخبرة البشرية الفكرية (نيتشه)، أو تعبيرًا عن اللاشعور الجمعي (يونغ)، ‏أو لغة الرمز التي تشكل نظامًا فكريًا استوعب قلق الإنسان الوجودي واختزل حياته الروحية ‏والفكرية (فروم)، وتعبيرًا عن حالات الكبت يشبه الحلم (فرويد)، فإنَّ كل تلك التفسيرات تجعلها ‏حقلًا نموذجيًّا للاستلهام المسرحي"(6).‏

وعلى مرِّ التاريخ أفاد المسرح من الأسطورة، حيث وظَّفها رمزيًّا أو إشاريًّا، أو بما يشكل منها ‏حالات رؤيوية تفاوتت بين الاستخدام الإبداعي والاستخدام الوظيفي النصي بحسب كيفيّة التعامل مع ‏الرمز الأسطوري، وكان ممّا هيَّأ الإمكانات لتوظيف الأسطورة في المسرح هو مرونتها التي تسمح ‏بتطويعها لكثير من غايات الفن والأدب، وقد أخذ مفهوم الأسطورة عند بعض المسرحيين مزيدًا من ‏الابتكار، حيث تجاوزت في أحيان كثيرة الجوانب الرمزية والدلالية لتأخذ دلالات أخرى جديدة بعيدًا ‏عن دلالاتها المعرفية السائدة. وإذا كانت الأسطورة قد شكّلت المرجع الرئيس للمسرح عند الإغريق ‏القدماء حينما استقى شعراء التراجيديا (أسخيلوس، سوفوكلس، ويوربيدس) موضوعاتهم من ملاحم ‏الشاعر اليوناني هوميروس، فإنَّ الاهتمام بها قد عاد في عصر النهضة، ثم في العصور اللاحقة، ‏حيث ظهر توظيفها في المسرح الغربي عند عدد من المؤلفين منهم: "أندريه جيد"، "جان جيرودو"، ‏‏"جان بول سارتر"، وغيرهم.‏

وتمَّ توظيف الأسطورة في المسرح العربي المعاصر منذ النصف الأول من القرن العشرين، حيث تم ‏استلهام أساطير إغريقية وفرعونية وسومرية وبابلية وعربية وغربية، وظهر ذلك من خلال كتابات ‏عدد من المسرحيين منهم: عزيز أباظة، علي أحمد باكثير، توفيق الحكيم، محمود تيمور، غسان ‏كنفاني، معين بسيسو، علي سالم، ولد عبدالرحمن كاكي، محمد الكغاط، لطفية الدليمي، معد ‏الجبوري، خزعل الماجدي، سلطان القاسمي، علي الشرقاوي، حمد الرميحي، وغيرهم..‏

‏ ووظَّف توفيق الحكيم الأساطير في عدد من نصوصه المسرحية مثل: "أهل الكهف"، "بيجماليون"، ‏‏"أوديب الملك"، "إيزيس"، و"سليمان الحكيم"، ليعالج من خلالها قضايا شائكة ارتبطت بالواقع ‏العربي، معبِّرًا بذلك عن رؤية حضارية جديدة مهمّتها إدانة نظام سياسي أو اجتماعي معيَّن.‏

واهتمَّ الحكيم بدراسة المسرح الإغريقي ومرجعيّاته الأسطورية، وقدَّم جزءًا منه للجمهور العربي ‏ضمن قيم فكرية استندت للعقيدة الإسلامية، فجاءت مسرحية (بجماليون) عــام 1942م؛ وهي ‏مسرحية ذهنيــة ارتكز الحكيم عـند كتابتها على أسطورة يونانية قديمة؛ حيث طرح فيها مبدأه ‏التعادليّ للوقوف عند مجموعة من القضايا ومناقشة مضمونها الاجتماعي والذهني والفني، أمّا ‏مسرحية (الملك أوديب) عام 1949م، فقد جرَّدها الحكيم من بعض المعتقدات الخرافية التي لا ‏تتوافق مع العقلية العربية الإسلامية. ولم يتوقف توظيف أسطورة أوديب عند (الحكيم) وإنما استلهمها ‏عدد من الكتاب العرب مثل: علي أحمد باكثير في مسرحية (مأساة أوديب)، وفوزي فهمي في ‏مسرحية (عودة الغائب)، وعلي سالم في مسرحية (انت اللي قتلت الوحش- كوميديا أوديب)، وفؤاد ‏التكرلي في مسرحية (أوديب الملك السعيد)، ووليد اخلاصي في مسرحية (أوديب مأساة عصرية)، ‏وغيرهم...‏

 

 

الأديب المصري توفيق الحكيم

‏ ‏

وفي العراق ظهر توظيف الأسطورة الرافدينية عند الشاعر خزعل الماجدي كما في مسرحيات: ‏‏"موزائيك"، "ليليث"، "سيدرا"، "بيرام وتسيبا"، "تموز في الأعالي"، و"نزول عشتار إلى ملجأ ‏العامرية"، وقد اعتمد الماجدي صيغتين في كتابة نصوصه، إحداهما صيغة إبداعية تتمثّل بإعادة ‏إنتاج الأساطير، أو تأويلها دراميًّا وفق رؤية معاصرة أحدثت تغييرًا في أحداثها، أو شخصياتها، أو ‏نواتها الأساسية، أو منظوراتها، لتتناغم ومشاغل عصرنا الحالي، وقضاياه الاجتماعية والسياسية ‏والاقتصادية والثقافية، انطلاقًا من منظومة الأفكار والتصوُّرات التي يحملها‎.‎‏ والثانية صيغة ‏افتراضية انتزع فيها الشخصيات الأسطورية من محاضنها وزرعها في الحاضر، وافترض لها ‏وجودًا ومواقف وأفكارًا متخيّلة، ووضعها في فضاءات معاصرة، وزجّها في صراعات مع ‏شخصيات معاصرة، وفي كلا الصيغتين نسف الماجدي البنية النصيّة للأساطير، بعد امتصاصها، ‏ليؤسّس نصوصه الدرامية، وإظهار رموز لها وظائف جديدة تنسجم مع أفكاره ورؤاه(7).‏

ومن الأساطير الخالدة في التراث الإنساني، والتي تم توظيفها في المسرح العربي، تبرز أسطورة ‏شمشون بأبعادها الدينية، والتي أخذت اهتمامًا خاصًا في الأدب المعاصر على اختلاف أجناسه، ‏وجاء توظيفها في النص المسرحي العربي للوقوف على طبيعة الصراع بين الفلسطينيين ‏والإسرائيليين، وتم توظيفها في مسرحية (شمشون ودليلة) عام ‏‎1979‎م للأديب والشاعر الفلسطيني ‏‏(معين بسيسو)، وجاء استخدامه للأسطورة استخدامًا سياسيًا واجتماعيًا لمناقشة قضية معاصرة ‏ترتبط باحتلال الكيان الصهيوني لفلسطين وللأراضي العربية الأخرى، ثم أنّ المؤلف قد وظّف في ‏مسرحيته عددًا من القصص من التراثين الإسلامي والمسيحي مثل:‏‎ ‎قصة سيدنا يونس عليه السلام ‏الواردة في القرآن الكريم، وقصة العذراء مريم بوصفها رمزًا معبِّرًا عن كثير من القيم الفكرية على ‏الصعيد الإنساني، إضافة إلى توظيفه للتراث الشعبي كسيرة عنترة بن شداد، وللتراث التاريخي ‏كقصة طارق بن زياد حينما أحرق السفن لإجبار جنوده على قتال الأعداء بكل شجاعة، إضافة إلى ‏ذكر مأساة الحسين في كربلاء، ونضال بعض الشعوب المقهورة مثل الشعب الفيتنامي(8)‏‎.‎

 

 

الأديب والشاعر الفلسطيني معين بسيسو

‏ ‏

تقاسمت الأحداث في المسرحية عدد من الشخصيات الرئيسة مثل: شخصية شمشون، دليلة، الأب، ‏مازن، عاصم، ريم، وعدد من الشخصيات الثانوية منها‎:‎‏ الوجه الأول، الوجه الثاني، الوجه الثالث، ‏الرجل ذو الأربطة البيضاء، الكمساري، المرأة، السائق، الراكب، الرجل البانيو، الرجل ذو المعطف، ‏الجوقة، راحيل، الحارس، وجاءت المسرحية على جزئين، وإذا كان الجزء الأول منها قد اقتصر ‏على عرض الراهن الفلسطيني ضمن سياق رمزي، فإنَّ ظهور شخصية "شمشون" قد جاء في ‏اللوحة الثانية من الجزء الثاني، وهو ظهور متأخر نوعًا ما؛ حيث أراد المؤلف من خلاله أن يحيلنا ‏إلى أنَّ الراهن لا ينفصل في حقيقته عن الماضي، وأنَّ الإرهاب الصهيوني هو صورة عن إرهاب ‏شمشون‎.‎

 

شمشون يقتل أسدًا بيديه العاريتين- لوحة للفنان بيتر باول روبنس

‏ ‏

‏ وجاء توظيف أسطورة شمشون في مسرحية (شمشون الجبار) عام 2008م للشيخ سلطان بن محمد ‏القاسمي حاكم الشارقة، حيث اقتبس مادة مسرحيته من نصوص الإنجيل، وإذا كان قد استلهم أحداث ‏مسرحيته من مصدر ديني، فإنه قد كان أمينًا ودقيقًا في تناول معطيات هذا النص، إذ استثمرها ‏بوعي فني وإتقان عبّر عن إمكانات فنية فائقة في الكتابة المسرحية.‏

 

الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي

 

‏ لجأ (القاسمي) في جميع نصوصه المسرحية التي كتبها إلى استلهام شخصيات قديمة وأحداث ‏تاريخية وأسطورية معروفة لدى الذاكرة الثقافية العربية، منطلقًا من معرفة عميقة بقدرة هذه التقنية ‏الدرامية على الوصول إلى المتلقي بعيدًا عن متاهات التعقيد ودروب التفسيرات الوعرة، وقد جاءت ‏المسرحية في ثلاثة فصول، وشخصياتها هي: شمشون، دليلة، حشود من اليهود، حشود ومجاميع من ‏الفلسطينيين وحكامهم ومرافقيهم، القاضي صموئيل، الملك شاؤول وأبناؤه الثلاثة، جنود إسرائيليون، ‏جنود فلسطينيون، محاربون فلسطينيون، وغيرهم.‏

إنَّ رؤية القاسمي لجوهر الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين قد عبَّرت عن موقفه من الواقع الذي ‏تفرضه طبيعة الأحداث السياسية والاجتماعية المرتبطة بالإنسان الفلسطيني، وهو بذلك يقدِّم رؤية ‏شمولية واعية بجوهر القضية، وظروفها الموضوعية ضمن حركة التاريخ والصراعات الناشئة بين ‏القوى المختلفة، فمسرحية (شمشون الجبار) ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالظروف التاريخية التي كُتبت فيها، ‏والتي تحدِّد مجموعة المظاهر المعكوسة ومبدأ انتقاء المؤلف لهذه المظاهر وتقييمها ووجهة نظره ‏فيها، أي أنها تحدِّد نظرة المؤلف والنَّهج الذي انتهجه وطبيعة الفن الذي اختاره، ومن هنا تتأسس ‏ضرورة الفهم التاريخي الصحيح لكافة جوانب الشكل والمضمون في المسرحية، وإدراك الأسس ‏الفكرية والتكوينية لها، ودراسة الشخصيات الأدبية التي تتقاسم الأحداث فيها(9). وبذلك فإنَّ القاسمي ‏قد وظَّف الأسطورة التي تلتصق أحداثها بوجدان الجماهير العربية، وقدَّمها لنا ضمن منهج نقدي ‏ملتزم يقوم على الجدل، الذي يؤسِّس لوعي الجماعة ومدركاتها للأحداث اليومية والمستقبلية.‏

 

الهوامش

‏1ـ أبو السعود، عطيات، الوعي التاريخي بين الماضي والمستقبل، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون ‏والآداب، مجلة عالم الفكر، المجلد29، العدد4، نيسان- أيار/ إبريل- مايو 2001، ص92.‏

‏2ـ لوليدي، يونس، الأسطورة الإغريقية والمسرح، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب مجلة ‏عالم الفكر، المجلد29، العدد4، نيسان- أيار/ إبريل- مايو 2001، ص261. ‏

‏3ـ انظر: كاسيرر، أرنست، الدولة والأسطورة، ترجمة أحمد حمدي محمود، القاهرة: الهيئة المصرية العامة ‏للكتاب، 1975، ص41. ‏

‏4ـ رايتر، وليم، الأسطورة والأدب، ترجمة صبار سعدون، بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 1992، ‏ص(25-26).‏

‏5ـ انظر: الموسوعة البريطانية، الأسطورة وعلم الأساطير، ترجمة عبدالناصر محمد نوري، بغداد: دار ‏الشؤون الثقافية العامة، 1986، (ص23-30).‏

‏6ـ عطية، حياة، المؤثر الأسطوري في المسرح، في: المسرح الأردني واقع وتطلعات، عمان: وزارة الثقافة، ‏ملتقى عمان الثقافي الرابع، 1999، ص100.‏

‏7ـ عواد، علي، أساطيرنا والمسرح، صحيفة العرب، بتاريخ 15/ 4/ 2018.‏

‏ 8ـ انظر: يحيى عيسى البشتاوي، توظيف أسطورة شمشون في النص المسرحي العربي، الشارقة: مجلة ‏شؤون اجتماعية، العدد127، 2015، ص192.‏

‏9 ـ المصدر نفسه، ص208.‏