الأسطورة مكوِّن رئيس في البنية الاجتماعيّة بتفرُّعاتها

يوسف ضمرة

قاص وروائي أردني

 

على الرّغم من تقدُّم الحضارة البشريّة، إلّا أنَّ أثر الأسطورة ما زال ماثلًا في ‏المجتمعات لا يمّحي بسهولة. فمع ما يختزنه اللاوعي الجمعي، صار من السَّهل على ‏العقل البشري أسْطَرَة الكثير من الوقائع والأحداث حتى في المجتمعات الأكثر حداثة‎.‎‏ ‏ولأنَّ الأسطورة تتعلَّق بكل ما هو غير معلَّل، فإنَّ المخيال الشعبي يتدخَّل ليصوغ لنا ‏أفكارًا ومفاهيم لسنا قادرين على دحضِها بالمُطلق، لأنّنا لا نمتلك البديل المعلّل

 

 

ليْسَ هنالك تعريف محدَّد للأسطورة، ولكن التعريفات كلها تُجمع على عناصر أساسيّة ‏فيها، ينبغي توافرها في النص أو الحكاية كي تنتمي إلى الأسطورة. وتعتبر القداسة ‏واحدة من هذه العناصر الأساسية. فبداية ظهور الأسطورة ارتبطت بالغيبي والأرواح ‏الطيِّبة والشريرة وبخلق الأشياء وظهورها، بفضل قوة خارقة تمَّ تقديسها بالضرورة‎.‎

ولكنَّ مكانة القداسة، فيما بعد، أخذت تتراجع شيئًا فشيئًا، مع تقدُّم الحضارة البشريّة، ‏وأصبحت الكثير من الأساطير جزءًا من الماضي البشري، وإنْ احتفظ العديد منها بقوَّة ‏تأثيريّة تبعًا لتقدُّم المجتمعات ومدى الثقافة الذي وصلت إليه. وهو ما يجعل المجتمع ‏الواحد منقسمًا حيال بعض الأساطير ومدى تأثيرها. وهنا يأتي دور العامل الطَّبقي في ‏المقام الأوَّل. فالطبقات الشعبيّة والفقيرة لم تنَل نصيبها من التعليم والثقافة، فظلّت ‏بعيدة إلى حدّ كبير من الحصول على معرفة علميّة بحقائق الأمور، وهو ما يجعلها ‏تتمسّك بمعرفتها الموروثة، وهي معرفة قائمة على مفاهيم أسطوريّة وخرافات شعبيّة. ‏وعلى سبيل المثال، لا تُلصق العرائس الآن كلهنّ في المجتمع الواحد -الأردن نموذجًا- ‏قطعة عجين على بوّابة المنزل الجديد. ويحدث هذا تبعًا للمستوى الثقافي والفوارق ‏الطبقيّة التي أنتجته. فالعروس المنتمية إلى الطبقة العليا لا تفعل ذلك، بل هي لا تدخل ‏بيت الزوجيّة في اليوم الأوَّل، وربَّما لأسابيع. بينما تقوم العروس في المناطق الشعبيّة ‏بالحفاظ على هذا الموروث حتى اليوم. ومَن يشتري سيارة جديدة من الطبقة العليا لا ‏يشعر به أحد، لأنه كثيرًا ما يبدِّل ويغيِّر سيارته بحسب الموديلات الجديدة حينًا، ‏وبحسب رغبة زوجته أو صديقته حينًا آخر، بل وبحسب مزاجه الشخصي في كثير ‏من الأحيان. بينما في الطبقات الشعبيّة، يقوم المُشتري بذبح أضحية على مقدّمة ‏سيارته الجديدة، وتبقى آثار الدماء عليها وقتًا طويلًا، اتِّقاء للحسد وضربة العَيْن وما ‏شابَه ذلك، من خلال أضحية للرَّب ابتغاء مرضاتِه‎.‎

لكنَّ أثر الأسطورة المتبقّي في المجتمعات لا يمّحي ولا يزول بسهولة. ولأنَّ لدينا ‏خبرات قبْليّة مع الأسطورة، فإنه يصبح من السَّهل أسْطَرَة الكثير من الوقائع والأحداث ‏حتى في المجتمعات الأكثر حداثة‎.‎

فاختفاء المهدي عند الشيعة، يعود في جذورِه إلى أساطير متوارثة، كاختفاء "تموز" ‏و"باخوس" و"أوزيريس". واللافت هو أنَّ عودة هؤلاء دائمًا تشكِّل مفتاح الفرج ‏للمظلومين والمقهورين، ما يعني تحقيق العدالة التي جرى انتهاكها على مدى قرون أو ‏عقود أو سنوات أو شهور. من هنا يبدو المهدي هو المنقذ الذي سوف يحقِّق العدل، ‏ويقود الناس إلى الفردوس بعد غيبة مجهولة‎.‎

هذا التَّغييب، قابله في المجتمعات الحديثة، تغييب مُشابه للعديد من الشخصيّات التي ‏كان لها تأثير في الحياة العامة؛ مثل "كندي" و"عبدالناصر" و"بن لادن" و"صدام ‏حسين"‏‎.‎

يتعلّق الأمر هنا بقوّة التَّأثير الذي مارسته هذه الشخصيات في حياتها، وبتحوُّلات ‏اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة، وبأحداث ووقائع غريبة كانوا هم أبطالها وعلاماتها. ‏ويبدو أنَّ العقل البشري لا يستسيغ فكرة موت شخصيّات مثل هذه، بصرف النَّظر عن ‏خيرِها وشرِّها. فمَن كان يتوق إلى التخلُّص من "هتلر" مثلًا، كان ممتلئًا باليأس من ‏زوالِه، وحين يحدث ذلك، فإنَّ أيّ كلمة أو إشارة عن بقائِه حيًّا تفعل فعلها لديه. ‏وكذلك الأمر مع الطَّرف الآخر، الذي لا يريد أن يصدِّق أنَّ حلمه قد انتهى‎.‎

من هنا وُلدت فكرة الشَّبيه في مجتمعاتنا. فصار لبعض الحكّام أكثر من شبيه، وبفضل ‏عمليّات تجميليّة صار من الصعب التفريق بينهم وبين الأصل. وهي فكرة لها جذور ‏أسطوريّة في اللاوعي الجمعي. وهي مستوحاة من التَّنانين والأفاعي متعدِّدة الرُّؤوس، ‏التي كلّما قطعتَ رأسًا منها نبت لها رأسٌ آخر‎. ‎

لقد استعرض "مارسا إلياد" العديد من مظاهر الأسطورة في حياتنا اليوميّة، ولكنه ‏ربَّما بالغ في بعض المواقع، ونقصته الخبرة حول مجتمعات لا يعرفها ولم يقُم ‏بدراسات وأبحاث عنها. كالمجتمعات العربيّة مثلًا‎.‎

تتعلّق الأسطورة بكل ما هو غير معلَّل. وهنا يتدخَّل المخيال الشعبي المتكئ على ‏اللاوعي الجمعي، ليصوغ لنا أفكارًا ومفاهيم لسنا قادرين على دحضِها بالمُطلق، لأنّنا ‏لا نمتلك البديل المعلّل. وهو ما يتيح لهذه الأفكار والمفاهيم فرصة التغلغل في الطبقات ‏الشعبيّة الأقل ثقافة ومعرفة وعلمًا. ونستطيع بسهولة أن نحصي كثيرًا من الحوادث ‏الغريبة التي اضطرَّت الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى إلى ملاحقتها، بالنَّظر إلى ‏شيوعها بين الناس على نطاق واسع لا يمكن التنكُّر لمدى تأثيره البالغ. ونتذكَّر مثلًا ‏في بلد كالأردن حكاية النّار التي تهبُّ فجأةً من جدارٍ عادي، ونتذكَّر كلمات العذراء ‏التي تناقلتها العامّة في إحدى الكنائس، ونتذكَّر الفتاة التي تذرف الزجاج بدلًا من ‏الدَّمع‎... ‎

ولكن اللافت غالبًا، لئلّا أقول دائمًا، هو أنَّ هذه الأحداث ذات الأبعاد الأسطوريّة، ‏تظهر في أوقات مُريبة.. في ظلِّ ارتفاع كبير للأسعار مثلًا، وفي ظِّل قمع السلطة ‏لبعض الحركات أو الأحزاب السياسية، وفي ظلِّ مناخات دولية تهيئ لمشاريع قاسية ‏قادمة. وهنا سيجد منتقدو المؤامرة فرصة لتوجيه انتقاد مباشر بأنَّ ما نكتبه نابع من ‏نظرية المؤامرة. ولكن السؤال –الرد- على انتقاد كهذا هو: كيف تختفي مثل هذه ‏الظواهر فجأة ويغيِّبها النسيان؟ ماذا حلَّ بالفتاة التي تذرف الزُّجاج مثلًا؟ لا أحد ‏يعرف ذلك. ماذا حلَّ بالجدار الناريّ؟ لا أحد يعرف ذلك... هذا الاختفاء المفاجئ ‏يجعل من الظاهرة أقرب ما تكون إلى الافتعال منها إلى الحقيقة. ولكن، وفي الأحوال ‏كلها، فإنَّ مثل هذه الظواهر الغيبيّة شكلًا ومضمونًا، تشكِّل حاضنة متينة في لحظة ما ‏لنوع من الأسطرة‎. ‎

والأسطرة في نهاية المطاف، هي أقدار لا طاقة لأحد على التصدّي لها أو مواجهتها. ‏فحين يأمر إله الريح جيوشه بالتحرُّك، تبدأ الرياح في التلاعب بالسُّفن وراكبيها كما ‏كان يحدث في حروب الإغريق. ولم يكن ثمّة خلاص إلا بتدخُّل إله آخر. أي إنَّ البشر ‏سيظلّون أسرى ذلك القدر ما لم تتدخَّل الآلهة‎. ‎

وفي المجتمعات الحديثة، التي توارت فيها الأسطورة جانبًا، حتى وإن أطلّت برأسها ‏بين حين وآخر، نجد أنَّ دولًا تمكَّنت من احتلال قمّة الأوليمب، والجلوس على عرش ‏أبوللو، ولكن بالقوّة أولًا. ولكن هذه القوّة تحوَّلت تدريجيًّا إلى ما يشبه القدر الإغريقي ‏نفسه، حيث من الصعب أن تجد مَن يصدِّق أنَّ أميركا مثلًا قابلة للهزيمة، على الرغم ‏من كل التحليلات السياسية التي قد تشير إلى ذلك. لقد تحوَّلت دولة كهذه خلال عقود، ‏إلى ما يشبه الأسطورة بالفعل، بحيث نجد دول العالم الأخرى تسارع لاسترضائها، ‏ولا نجد مَن يقف أمامها، حتى لو لم تفوضها الأمم المتحدة في القيام بعمل عسكري ‏ما، كما حدث في العراق. فقد أدارت الظهر للعالم كله وغزت العراق واحتلته دون أيّ ‏تحفُّظ،، بل وسارعت بعض الدول التي تحفَّظت في البدايات، إلى الالتحاق بأشكال ‏عدّة بالمشروع الأميركي نفسه‎.‎

ولا ينبغي لنا أن ننسى أنَّ أسطورة أرض الميعاد، أو الأرض الموعودة، لعبت دورًا ‏بارزًا في استقطاب اليهود وجمعهم حول المشروع الصهيوني الإمبريالي. فقد استغلّت ‏الحركة الصهيونية أساطير التوراة استغلالًا مثاليًّا في هذا السياق، مستفيدة من كوارث ‏الحربين الكونيّتين، وبخاصة الثانية، التي تعرَّض اليهود فيها إلى بعض التنكيل ‏والمضايقات، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من الإثنيّات كالغجر مثلًا، لئلا نقول ‏الأعراق‎!!‎

وفي سبيله إلى المضيّ قدمًا في المشروع الأميركي الإمبريالي الذي وضعه ‏المحافظون الجُدُد في واشنطن، لم يتردَّد الرئيس الأميريكي السابق "جورج بوش" ‏الإبن، في التصريح بأنه يتلقّى أوامر الرَّب مباشرة ودون وسيط، مستغلًّا حادثة ‏البُرجين في الحادي عشر من سبتمبر2001. الأمر الذي جعل كثيرًا من الأميركيّين ‏يصدِّقون خزعبلاته وهذيانه. ولكنَّ الأميركيّين لم يتمكّنوا من التجرُّؤ على هذه ‏الهذيانات والخزعبلات إلا عند رؤيتهم بلادهم تغرق في خسائر ذكَّرتهم بمآسيهم في ‏فيتنام من قبل. وعلى الرغم من ذلك تظلّ هذه الدولة على يقين بأنَّها "أبوللو" الأكبر ‏في آلهة الأولمب، فتذهب في ارتكاب الحماقة تلو الأخرى، ما يعني أنَّ مصيرها آجلًا ‏أو عاجلًا سيكون شبيهًا بمصير "أبوللو" نفسه الذي طواه النسيان‎.‎