هل الأدب المحلّي مظلوم نقديًّا؟

‏ د.نبيل حداد

ناقد وأكاديمي أردني- جامعة اليرموك

بدايةً فإنَّ المقصود بالمحليّة هو النطاق الجغرافي لا غير، أو الهويّة ‏التصنيفيّة لغرض الدِّراسة، إنْ جاز التعبير. وليس المقصود هنا ‏‏"الخصوصية المحلية"؛ فهذه قضيّة فنيّة كبرى أوَّلًا وأخيرًا. ولعلَّنا جميعًا ‏نذكر الجدل الذي ظلَّ يلازم مسيرة نجيب محفوظ منذ بدايتها في أواخر ‏الثلاثينات وحتى وفاته سنة 2006، حول معظم شخصيّاته وأعماله، ‏وبيئتها، التي لم تخرج في الأغلب الأعمّ -في فضائها المكاني- عن الحيّ ‏الشعبي، بل عن القاهرة المعزيّة تحديدًا، بتلك الرُّؤية الواقعيّة التي ظلَّت ‏الأنجح والأجمل عبر مسيرة الرِّواية العربيّة في العصر الحديث. ‏

وحتى لا نذهب إلى أبعد من ذلك، نستذكر، بل نستحضر، تجربة عرار ‏شاعر الأردن بمذاقها المحلّي وخصوصيّتها المكثّفة، التي ارتقت بها إلى ‏ذروة سامقة من ذرى الرومانسيّة العربيّة المعاصرة. بل إنَّ بعضهم أخذته ‏نشوة الغلوّ فرأى الإيغال في المحليّة الطريق الوحيدة لبلوغ العالميّة.‏

ونعود إلى السؤال/ العنوان: هل صحيح أنَّ معظم شعرائنا وروائيّينا ‏وقاصّينا، بل سائر المبدعين "المحليّين" بعامّة (بالمعنى الجغرافي فقط) لا ‏يجدون من الدّارسين والنقّاد مَن يتوقّف باهتمامٍ كافٍ ومتوازنٍ عند ‏جهودهم، أو يعطي إبداعهم ما يستوجب من اكتراث نقدي جاد...؟

تلكم شكوى تُثار، وصوت يتردَّد -وأحيانًا عاليًا- في أيّ فعاليّة ثقافيّة، ‏تتطرَّق -أو قد لا تتطرَّق- بشكل أو بآخر، لأدبنا المحلّي، أو حركتنا ‏النقديّة، أو إلى أيّ شأن آخر من شؤون الثقافة.‏

ربَّما كان للشكوى من المحاباة أو من "الشلليّة" ما يبرِّرها في كل مجال ‏فنّي بما في ذلك الأدب، ولطالما اشتكى الكتاب المبتدئون، من أنَّ الجيل ‏الأسبق يسدّ عليهم طريق الانطلاق. ولم ينجُ من هذه التهمة كاتب بحجم ‏نجيب محفوظ، أو شاعر بمقدار شوقي، ناهيك عن الاتهامات التي ظلّت ‏تطارد -بحق وبغير حق- نجومًا من أمثال عبدالوهاب وأم كلثوم ‏وعبدالحليم ويوسف وهبي وأنور وجدي وغيرهم...‏

إنَّ شكوى الجيل الجديد، بخاصة، من الأجيال السابقة ولا سيّما من فئة ‏النقّاد، ظلّت قاسمًا مشتركًا بين البيئات الأدبيّة، وربَّما في كل زمان ‏ومكان. ولا تقتصر الشكوى على المبتدئين؛ بل إنَّ هناك من "الأدباء" مَن ‏يرون أنفسهم مهمّشين ويعزون أسباب هذا التَّهميش لمنطلقات غير ‏موضوعيّة لدى النقّاد أو حتى عند الجهات التي ترعى النشاط الأدبي.‏

على أنَّ ما يهمّنا اليوم هو درجة الاهتمام بالنتاج الإبداعي "المحلّي" ‏بوصفه حركة ناشطة تستوجب الالتفات إليه والتوقف عنده بدلًا من أن ‏يظلّ النقّاد والأكاديميون وسائر الدارسين -بحسب تلك الدعوى- ‏مُتمسمرين عند الأسماء الكبيرة محليّة كانت أو غير محليّة. ‏

إنَّ الشَّكوى، بالتَّعميم الشمولي الذي تجيء عليه في معظم المناسبات، غير ‏مبرَّرة، أو في أفضل الأحوال مُبالغ فيها، وأدلَّتنا كثيرة، حتى لا نقول ‏دامغة. لن نكتفي بالإشارة إلى الحصاد اليومي حول الندوات والأنشطة ‏الأدبيّة ممّا يُنشر ويُذاع عبر وسائل الاتصال والتواصل -وما أكثرها ‏انتشارًا وأوسعها تأثيرًا- بل سأشير إلى ثلاثة فحسب من ضروب النشاط ‏النقدي تحتلُّ مساحات واسعة في المشهد الثقافي المحلّي لتتَّضح الصورة، ‏هذا إنْ نظرنا إلى المشهد من الزاوية الصحيحة والإطلال عليه من الموقع ‏الصحيح وبالمجهود المطلوب. ‏

المساحة الأولى ما يحظى به أدبنا المحلّي من دراسات وأوراق عمل في ‏المؤتمرات والملتقيات العلمية؛ سواء على الصعيد المحلّي أو العربي، بل ‏حتى العالمي. فالمعروف أنَّ لدى الأكاديمي الأردني تطلُّعًا مطلوبًا، بل ‏مشترطًا، إلى الإنجاز وتحقيق المكانة التي ترضي ضميره العلمي ‏وطموحه المشروع. ومن واقع خبرة شخصيّة أزعم أنَّ أوَّل ما تتَّجه إليه ‏أنظار العديد من الزملاء هو الميدان الإبداعي المحلّي. ‏

وهل يتابع المتذمرون من التقصير النقدي المزعوم حول أدبنا المحلي، ما ‏تنشره المجلات الثقافية ("أفكار" مثلًا) أو العلميّة المحكمة التي تصدر عن ‏الجامعات الرسمية والخاصة، الأردنيّة وغير الأردنيّة من جهود نقديّة تكاد ‏تلاحق كل الإصدارات المحليّة التي تستحق (وبعضها قد لا يستحق) ‏التوقُّف عندها؟ ولولا الخشية من التورُّط في مصيدة الذاكرة وعدم ‏موضوعيّتها –أحيانًا- لأوردتُ العشرات وربّما المئات من الأمثلة...‏

ولماذا نذهب بعيدًا؟ تكفي نظرة عابرة لمئات من الرَّسائل والأطروحات ‏المودعة في رفوف المكتبات الجامعيّة حول الأدب المحلّي، ولملاحق ‏المصادر والمراجع فيها وفي الكتب النقديّة والأبحاث الأكاديميّة ذات ‏الصلة لنتيقَّن من أنَّ أدبنا المحلّي لم يكن يومًا موضع تقصير أو تجاهُل أو ‏حتى تباطؤ في ديناميّة المُتابعات النقديّة المحليّة.‏

للبعض أن يشتكي أو أن يتذمَّر، فهذا حق فردي وموقف شخصي لا ‏يُنُازَع، ولكنَّ التَّعميم وكَيْل التُّهم بالتقصير، وأحيانًا اتِّخاذ المواقف ‏الشخصيّة من هذا الناقد أو ذاك الأكاديمي أمور لا يمكن تسويغها.‏