المسرح الأردني في مئوية الدولة الأردنية

يخبرنا التاريخ أنَّ المسرح، كنوع فني، قد نشأ بالتزامن مع الطقوس والشعائر الوثنيّة، ‏خلال الجنوح البشري نحو الاستقرار وتشكيل الحماية للجماعة.‏

وعلينا أنْ نستدركَ هنا لنوضِّح أنَّ ما نقصده ليس المسرح المُتعارف عليه الآن، وإنَّما ‏نعني بذلك "فكرة" المسرح التي أخذت تتطوَّر عبر التاريخ، وتسخِّر كل ما ينتجه ‏الإنسان من فنون أخرى لإثراء تلك الطقوس والشعائر المسرحيّة، حيث اكتشف ‏الإنسان بالتجربة وتراكم الخبرات أنَّ الطقوس المسرحيّة قادرة على استيعاب الفنون ‏الأخرى، كالصّوت "الموسيقى" واللّون "الفن التشكيلي" والغناء والرَّقص. وهو ما ميز ‏المسرح منذ نشأته حتى يومنا هذا، إلى أن أخذت نظريّات المسرح في الظهور والتأثير ‏في مسيرة المسرح العالمي.‏

لقد شكَّلت احتفالات "السنة الجديدة" لدى جماعات عدّة، مناسبات مهمّة للقيام بطقوس ‏مسرحيّة تقوم على الغناء والرقص والمُناجاة "الشعر"، وهو ما فعله أتباع الإلهين ‏تموز وعشتار البابلييْن، والآلهة إيزيس وأوزيريس المصريّيْن، وزيوس الإغريقي ‏وباخوس الروماني وبعل وعناة الكنعانيّيْن. ‏

ومع تطوُّر البشرية تطوَّر المسرح كغيره من إبداعات العقل البشري. وإذا كان ‏هوميروس كتب الإلياذة والأوديسة شعرًا، فإنَّ هاتين الملحمتين تنطويان على آلاف ‏المشاهد المسرحيّة التي جرى تجسيدها لاحقًا، ليس في المسرح حسب، وإنَّما في ‏السينما والشعر والرواية والأدب بأشكاله وأجناسه المتنوِّعة.‏

هذه الإشارة الأوليّة فقط للتَّنويه بأهميّة المسرح وموقعه بين الفنون والإبداعات ‏البشريّة كلها. فإذا كانت الديانات قد وظَّفت الطّقس المسرحي لتعزيز سطوتها ‏وهيمنتها، فإنَّ هذا يعني قدرة الطّقس نفسه على القيام بذلك من جهة، ويعني من جهة ‏أخرى مقدار الأثر الذي يمسّ المُشاهد وينحفر فيه، ما يعني قدرة الطّقس على ترسيخ ‏الأفكار والعقائد والقيم والمفاهيم.‏

وربَّما كان المسرح هو الأسرع انتشارًا عبر بقاع الأرض، وهو ما يعني أنَّ الجماعات ‏حيثما وُجدت، أخذت تتسلَّح بالمسرح لنشر ثقافتها وترسيخ قيمها وعقائدها، من دون ‏أنْ ننسى أنَّ المسرح أخذ مع الوقت يكتسب الأهميّة الكبرى في سياق "الفرجة" الممتعة ‏والمسلّية، إضافة إلى ما سبق.‏

ولم يشذّ بلد كالأردن عن هذا المسار، حيث يمكن القول إنَّ المسرح الأردني قد سبق ‏سواه من الفنون في الإعلان عن نفسه، حتى وإنْ بدا الأمر مجرَّد تجارب ارتجاليّة ‏متسرِّعة في بادئ الأمر.‏

ومن المعروف أنَّ الدراما الأردنيّة قد بدأت بالمسرح قبل الدراما التلفزيونيّة وبعض ‏التجارب السينمائيّة الخجولة؛ منوِّهين هنا إلى أنَّ التجارب المسرحيّة المتناثرة في ‏الأردن، وخصوصًا منذ نهاية الستينات، كان لها الدور الأكبر في رفد التجارب ‏التلفزيونية المتميِّزة منذ أواخر السبعينات، حيث لم يكن لدينا آنذاك جهات أكاديمية ‏تقوم على تدريب كوادر فنيّة متخصصة، سواء أكان ذلك في المسرح أم التلفزيون.‏

لقد لعبت الجامعة الأردنية دورًا بارزًا في الاهتمام بالمسرح، من خلال توافر بنية ‏تحتيّة مثل قاعات العرض، والهواة، وبعض العائدين ممَّن تلقّوا دراسات أكاديمية، ‏مثل هاني صنوبر أوّلًا، الذي تبعه آخرون مثل حاتم السيد وهشام يانس وسهيل إلياس ‏وشعبان حميد وجميل عواد على سبيل المثال لا الحصر.‏

ومع دخولنا حقبة الثمانينات ازدادت أعداد المسرحيين "أكاديمين وهواة مجرِّبين"، كما ‏أخذنا نكتسب خبرات مسرحيّة من خلال المشاركة في مهرجانات مسرحيّة عربيّة، ‏ومن خلال دعوة فرق عربيّة إلى البلاد. وقد أدّى هذا التلاقح إلى محاولات مسرحيّة ‏مُغايرة، لكنَّها ظلَّت دائمًا محاولات فرديّة الطابع، وذاتيّة الهوى والرُّؤى. ويعود السبب ‏في ذلك إلى غياب استراتيجيّة مسرحيّة مدعومة من الدولة، على الرّغم من دعم ‏وزارة الثقافة لعديد التجارب المسرحيّة الفرديّة. ومع دخولنا مرحلة الدراسة الأكاديميّة ‏للمسرح في جامعاتنا وكليّاتنا المتنوِّعة، أصبحنا نشاهد العديد من المحاولات المختلفة، ‏كالتجريب والفنتازيا.‏

لقد أدّى غياب استراتيجيّة محدَّدة، يقوم على قيادتها مسرحيون مميزون، إلى تشتُّت ‏المحاولات المسرحيّة، وإلى خلط العديد من المدارس والاتجاهات المسرحيّة. وقد ‏انتبهنا في كثير من الحالات إلى غياب المسرح الكلاسيكي الذي كان ينبغي له أن يكون ‏أساسًا نبني عليه أفكارنا ومفاهيمنا ورؤانا المسرحيّة الحديثة، وهو ما قمنا بالعمل على ‏عكسه في حالات عدّة.‏

لقد نسي كثير من المسرحيين أننا نفتقد إلى جمهور مسرحي، إذا ما استثنينا شريحة ‏من المثقفين والعاملين في مجالات الفنون والآداب الأخرى. ولا نستطيع الحديث عن ‏نهضة مسرحيّة من دون جمهور مسرحي حقيقي، يمتلك ثقافة فنيّة، وتجارب مسرحيّة ‏مهمّة، قادرة على خلق الحافز والرغبة في مشاهدة المسرح.‏

ومع ثقتنا بالجهود الأكاديميّة في جامعاتنا وكليّاتنا، إلا أنَّنا لم نلمس هذا الأثر الفعّال ‏كما ينبغي. ولكي نكون أكثر وضوحًا، فإنه -وكما نرى بتواضع- لا نستطيع بناء ‏عمران مسرحي متين وجميل، من دون استلهام التراجيديا الإغريقية "رحم المسرح ‏الكوني" والتراجيديا الشكسبيرية التي تمكّنت من تطوير التراجيديا الإغريقيّة، بحيث لم ‏يعُد القدر معلومًا مسبقًا عند شكسبير.‏

هذا الملف يُلقي بعض الأضواء على مسيرة المسرح الأردني، آملين أن تكون إضاءات ‏ساطعة لكي نصحِّح ونبني وننتقل إلى مراحل أكثر تطوُّرًا ممّا رأيناه.‏

 

يوسف ضمرة

هيئة التحرير