"الحكمة"‏ المجلة الأدبيّة الأردنيّة الأولى (1932م)‏

‏د. ماجد توهان الزبيدي

كاتب وأكاديمي أردني

 

 

قام الشيخ الجليل والعلاّمة المجاهد نديم الملّاح بتأسيس أوَّل منبر أدبي في البلاد؛ مجلة ‏‏"الحكمة" الشهريّة، في تموز عام 1932م، وهي مجلة إسلاميّة علميّة أدبيّة اجتماعيّة ‏شهريّة، كان لها دور تنويري لغوي وديني وعلمي. صدر من مجلة "الحكمة" اثنا ‏عشر عددًا، ومن أشهر الذين كتبوا فيها: سليمان النابلسي وحسني فريز وعبدالحليم ‏عباس وعلي سيدو الكردي وصالح الصمادي وسعيد الدرّة ونجيب الشريدة وغيرهم.‏

 

تميَّزَ عقد تأسيس "إمارة شرقي الأردن" الأوَّل (1921-1930م) بإرساء قواعد ‏الدولة الأساسيّة، من سياسيّة وتشريعيّة وقضائيّة، إذْ تمَّ فيه موافقة دولة الانتداب على ‏‏"الاستقلال الإداري" للحكومة ضمن الانتداب في الخامس والعشرين من آذار عام ‏‏1923م، وتأسيس المنبر الإعلامي الرسمي "الشرق العربي: الجريدة الرسمية لحكومة ‏شرقي الأردن"، الذي صدر عدده الأول بتاريخ 28 آذار من العام ذاته، لتكون ‏الصحيفة العربية المطبوعة الأولى في بلاد الإمارة، ثم بدأت حركة الطباعة في العام ‏ذاته أيضًا، من خلال المطبعة الحكومية الأولى التي أخذت تشعُّ الضوء والحروف ‏والأرقام، ثم ظهرت في العام 1926م الصحف الأهلية الخاصّة الأسبوعيّة، من خلال ‏رائدة تلك الصحف "جزيرة العرب" بتاريخ 23 حزيران، لصاحب امتيازها ومحرِّرها ‏المسؤول حسام الدين الخطيب، ثم "الشريعة" الأسبوعيّة بتاريخ 25 حزيران من العام ‏ذاته، لصاحباها كمال عباس ومحمود الكرمي، والثالثة "صدى العرب" السياسيّة ‏الأسبوعيّة بتاريخ 13 تشرين الأول عام 1927م، لصاحبها ومحرِّرها صالح ‏الصمادي. ‏

ومع أنَّ الباعث على إصدار الصحيفة الحكومية الأردنية الأولى "الشرق العربي" -التي ‏صدرت أسبوعيّة وأحيانًا نصف شهريّة- هو نشر التعاميم والبلاغات الرسمية عن ‏مؤسسات الدولة الجديدة، كصحيفة رسميّة، حالها حال الصحف الرسمية التي ‏أصدرتها الدولة العثمانية في ولاياتها العربية كـ"القدس الشريف" في فلسطين عام ‏‏1876م و"الزوراء" في العراق عام 1869م، إلّا أنها كانت تنشر المقالات السياسية ‏والأدبية والعلمية والأنباء العالمية والقصائد الشعرية في السنوات الثلاث الأولى من ‏مسيرتها، تحت إشراف المفكر والأديب القومي العربي محمد يوسف الشريقي الذي ‏آمن برسالة الهاشميين وحركتهم السياسية والتحق بهم مُبكرًا، إلى أن تنبّه المعتمد ‏البريطاني "كوكس" إلى خطر الوعي الذي تُثيره كتابات "الشرق العربي" على مشاريع ‏الانتداب في الأردن وفلسطين والوطن العربي، فأمر باقتصار نشرها على الهدف ‏الأساس من إصدارها؛ البلاغات والتعاميم الرسمية حسب، وتغيير عنوانها لـ"الشرق ‏العربي: الجريدة الرسمية لإمارة شرقي الأردن"، بدءًا من 1 حزيران عام 1926م. ‏

 

 

 

‏ تلا ذلك امتداد يد معتمد الانتداب للصحف الأهلية الأردنية، بعد أن أبلت بلاء حسنًا ‏في بيان المعارضة الشعبية الأردنية لمشاريع الانتداب البريطاني في الأردن ‏وفلسطين، ووقوفها سدًّا منيعًا أمام التغلغل اليهودي في بلاد الإمارة، فتوقَّفت الصحف ‏الأهلية جميعها في أقلّ من عام على ولادتها، الأمر الذي أدّى إلى جمود الحياة الفكرية ‏والأدبية في بلاد الإمارة، إلى أن حمل المشعل من جديد، الشيخ الجليل والعلّامة ‏المجاهد نديم محمود أحمد الملّاح، من خلال تأسيسه لأول منبر أدبي في البلاد، هو ‏مجلة "الحكمة" الشهرية في تموز عام 1932م، والتي هي مجلة إسلامية علمية أدبية ‏اجتماعية شهرية، وتوقفت في نيسان عام 1933م. ‏

وكان العلّامة والمحامي الملّاح قد حصل على إجازة بالمحاماة من نقابة المحامين في ‏طرابلس (لبنان) سنة 1925م، وقد أسّس مجلة "الحكمة" بهدف نشر العلم والثقافة بين ‏جميع أفراد الشعب الأردني، يقول في مقدمة العدد الأول: "جلوتُ فيها ظلام الجمود ‏والتقليد بنور التفكير الحر، والدليل الواضح، وجعلتُ للدين المنزلة العليا منها". ‏

صدر منها عشرة أعداد في السنة الأولى، وعددان في السنة الثانية 1933م. ومن ‏أشهر الذين كتبوا فيها: سليمان النابلسي وحسني فريز وعبدالحليم عباس وعلي سيدو ‏الكردي وصالح الصمادي وسعيد الدرّة ونجيب الشريدة وغيرهم.‏

‏ ‏

 

‏(الشيخ العلّامة نديم الملّاح)‏

 

وكان أوَّل كتاب قد طُبع في الأردن هو كتاب "حقوق المرأة المسلمة" لمؤسِّس مجلة ‏‏"الحكمة" الشيخ العلّامة الملّاح، من خلال المطبعة الوطنيّة عام 1928م، وهو الكتاب ‏الوحيد المطبوع في عقد التأسيس الأوَّل لـ"إمارة شرقي الأردن". وكان الملاح قبل ‏ذلك قد نشر كتابه "نموذج الفضائل الإسلامية" في مدينة القدس عام 1922م، حيث ‏لجأ الملاّح/ الرجل المجاهد إلى مدينة القدس بعد أن طارده الانتداب الفرنسي، وعمل ‏فيها مُدرِّسًا في كلية المعارف الوطنية خلال الفترة 1920– 1925م.‏

 

  

 

وقد صدر في عقد التأسيس الثاني للدولة الجديدة في البلاد الأردنية، إلى جانب مجلة ‏‏"الحكمة" الأدبية، عدد من الصحف والمجلات الأهلية المتقدمة عن زميلاتها في عقد ‏التأسيس الأوّل للدولة، إذ صدرت "الميثاق" الأسبوعية بتاريخ 6 أيار عام 1933م ‏لصاحبيها المعارضين الكبيرين للمعاهدة التي فرضها الانتداب البريطاني على البلاد: ‏النائب عادل العظمة، والطبيب محمد صبحي أبوغنيمة، وكانت تُعبِّرُ بدايةً عن وجهة ‏نظر "حزب الاستقلال" السوري، الذي انتقلت زعامته من دمشق إلى عمّان عقب ‏معركة "ميسلون"، ثم باتت ناطقة باسم "اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني الأردني" ‏المُعارض، وأخذت على عاتقها مقاومة مشاريع الانتداب الاستعمارية في الأردن ‏وفلسطين، وفضح سماسرة بيع الأرض وتأجيرها لليهود. ‏

ثم صدرت صحيفة "الوفاء" (جريدة أسبوعية عربية سياسية حُرّة) بتاريخ 21 نيسان ‏عام 1938م لصاحبها ومحررها صبحي زيد الكيلاني، واهتمَّت بنشر موضوعات ‏سياسية وأدبية واستمرّت عشرة أعوام، تلاها في العقد ذاته، صدور صحيفة ‏‏"الجزيرة" (جريدة يومية سياسية أدبية حُرّة مصوّرة) أصدرها صاحبها الصحفي ‏تيسير ظبيان بدمشق في 10 كانون الأول عام 1932م، ثم نقلها إلى عمّان لأسباب ‏سياسية، وبناء على رغبة الأمير عبدالله بن الحسين، أمير البلاد، وصدر عددها الأول ‏الجديد بتاريخ 17 تشرين الأول عام 1939م. ‏

 

‏(عادل العظمة)‏

ورأى شفيق عبيدات في أطروحة متخصصة عن صحافة الإمارة الأردنية، أنَّ مجلة ‏‏(الحكمة) "توالى صدورها مع نموّ اليقظة والوعي والثقافة والتعليم، على الرّغم من ‏الظروف الصعبة التي كان يمرُّ بها الأردن، ومحاولات الاستعمار الذي كان لا يريد ‏لهذه البلاد أن تتقدم وتتطور في مجال العلم والفكر وغيرها، ليظلّ السيد المُسيطر ‏والمُهيمن على هذه المنطقة... وكانت مجلة "الحكمة" الوحيدة في الأردن التي مثلّت ‏الجانب الديني الإسلامي، ولم يولد في تلك الفترة، في شرقي الأردن، أية صحافة دينية ‏غيرها". ‏

‏ ومن خلال تصفُّح الباحث لأعداد مجلة "الحكمة"، باستثناء العدد الثامن، لعدم توافره ‏في أي من المكتبات الجامعية الأردنية، فقد نشرت في أعدادها كافة، المقالات ‏والأبحاث التالية في مجال اللغة والأدب: ‏

‏-‏ زلّات أقلام (عدة حلقات متتالية). ‏

‏-‏ نقد رواية المجنون. ‏

‏-‏ في الشعر الجاهلي: في الميزان (عدة حلقات). ‏

‏-‏ عمل المؤلف المسرحي. ‏

‏-‏ قواعد جديدة في الإملاء. ‏

‏-‏ الكتابة البليغة. ‏

‏-‏ ‏"فردينتد برونتيير" وعلم النقد. ‏

‏-‏ الأمة واللغة. ‏

‏-‏ استدراكات لغوية. ‏

‏-‏ ‏"جون لوميتر" وعلم النقد. ‏

‏-‏ تشطير قصيدة "جران العود". ‏

‏-‏ بشار بن برد.‏

‏-‏ ‏"إميل فاكه" وعلم النقد. ‏

‏-‏ نقد كتاب "سيد قريش". ‏

‏-‏ العباس بن الأحنف. ‏

‏-‏ دمعة القلب على أمير الشعراء. ‏

‏-‏ ‏"إيبوليت تن" وعلماء النقد والتاريخ. ‏

ويُلاحظ الباحث من خلال تصفُّح مواد المجلة، أنَّ "الحكمة" لم تتطرَّق في أيّ من ‏أعدادها لموضوع الصراع العربي مع الحركتين الصهيونية واليهودية، والاستعمار ‏الأوروبي للوطن العربي، وقضايا النضال والكفاح لأبناء أمتنا العربية في مشرق ‏الوطن العربي ومغربه، وقضايا الصراع الاجتماعي في المجتمعات العربية، ولم ‏تهتمّ بتطوُّرات الكفاح السياسي والتنظيمي والصحفي الشعبي الباسل للعرب ‏الأردنيين ضدّ مؤامرات الاستعمار البريطاني ومشاريعه في البلاد، ولا برضوخ ‏الحكومات المتعاقبة لإرادة الإنجليز، ولا لقضايا الهبّات والمظاهرات ‏والاعتصامات الشعبية الموحّدة للعرب الأردنيين في عموم البلاد، ولا لقضايا الفقر ‏والمجاعة التي عاشها أهل البلاد إبان فترة الانتداب البريطاني، ولا لمحاولات ‏الوكالة اليهودية شراء واستئجار أراضي العرب الأردنيين. ‏

‏ لكنَّ النقد الموضوعي للدَّور السلبي والمرتجف، للمجلّة في الشأن الوطني ‏والقومي، يقابله ثناء الباحث على الدور التنويري اللغوي والديني والعلمي الذي ‏قامت به "الحكمة" -في بلاد كأنّها خرجت للتوّ من رحم التاريخ- وهو دور –على ‏ما يبدو- قد خُطِّط لوأده قبل أن يبلغ عامه الأوَّل، كما هي الحال في الصحف ‏الأهلية الأسبوعيّة في نهاية عقد التأسيس الأوَّل للدولة الجديدة، والتي تم وأدها ‏أيضًا، بل واغتيال بعض مؤسِّسيها، لأنَّها والقائمين عليها، وقفت مع قضايا شعبها ‏العربي الأردني، في نضاله العادل لتحجيم الخطر البريطاني على البلاد وأهلها، ‏ولأنها عارضت حكومات دارت في فلك دوائر المعتمدين البريطانيين، ذلك أنَّ ‏قوى الاستعمار والاحتلال، والقوى المرتبطة بها، في كل مرحلة من مراحل ‏التاريخ، تخشى كثيرًا من تنامي الوعي الثقافي والعلمي في منظومته اللغوية ‏والدينية والسياسية والتراثية، لدى الشعوب الخاضعة لقوى الانتداب والاستعمار ‏والاحتلال، وتخشى دور هذا الوعي في تشكيل الاستقلال الوطني والقومي ‏الحقيقي، وفي مقدمة ذلك، الوعي اللغوي، واعتزاز الأمة بلغتها القومية، انطلاقًا ‏من دور اللغة في تآلف الشعوب ووحدتها واستنهاض هممها وبعث أمجادها ‏وتاريخها المجيد. ‏