الرَّمز والميثولوجيا ‏ في الموروث التشكيلي في الأردن

د. عبدالله عبيدات

أستاذ الفنون الجميلة- جامعة اليرموك

 

 

 

ارتَبَطَ التَّعبير عن الهواجس الإنسانيّة في الفكر الأسطوري بالفعاليّات الفنيّة التي كانت جزءًا من ‏الفكر العقدي، لذا كانت اللغة الفنيّة ترتكز على تكثيف المعاني في وصف العالم الذي تفسّره ‏الأسطورة، وكانت لغة الرُّموز في الفن هي الأكثر استيعابًا لطموحات العقل الجمعي، لذا ‏تمخَّضت الرُّموز في التشكيل الفني البدائي من صميم نظم العلاقات بين الإنسان والطبيعة وبين ‏الإنسان والآخر وبين الإنسان والقوى الغيبيّة، وجعلت المزايا التجريديّة للرَّمز في الفن البدائي ‏أكثر تعبيرًا وفعاليّة‎.‎

 

الميثولوجيا في الفنون الأردنيّة القديمة

إنَّ النتاجات الفنيَّة التي جسَّدها الإنسان القديم في شرق المتوسط، ومنها المجتمعات التي أنتجت ‏المظاهر الفنيّة التشكيليّة في الأردن ودول الإقليم قديمًا، قد عملت مع الأسطورة في تمثيل قوانين ‏الطبيعة ومصير الإنسان، وفقًا لمعتقدات غيبيّة، حيث يؤكد "كاسيرر" أنَّ دورات الفصول (وفقًا ‏لتصوُّرات المجتمعات القديمة) -بالإضافة لخضوعها لقوى الطبيعة- تخضع للدَّور الإنساني، ‏فالعلاقة مع الطبيعة حتميّة، وتعتبر حياة الطبيعة وموتها جزءًا لا يتجزأ من الدراما الكبيرة ‏الخاصة بموت الإنسان وبعثه، وتتشابه في هذا الصَّدد طقوس الزَّرع التي نصادفها في كل ‏الأديان على وجه التقريب مع طقوس الزَّرع التي نصادفها مع طقوس المولد. فالطبيعة ذاتها في ‏حاجة إلى استمرار تجديد حياتها، وعليها أن تموت حتى تستطيع أن تحيا. وتؤيِّد شعائر أتيس ‏وأدونيس وأُوزريس هذا الاعتقاد الأساسي الذي لا يتزعزع"(كاسيرر، 1975)، لذا فإنَّ ‏الممارسات المستخدمة في الأعمال الفنية وفن العمارة وتقديس الأسلاف وطريقة دفن الموتى ‏على مرّ التاريخ في الأردن آمنت بأنَّ الرُّموز المصاغة من خلال الفن هي مؤشّرات تؤكد حالة ‏الاستقرار الفكري والديني والاجتماعي لمراحل طويلة‎.‎

تفاعَلَ النتاج الفني مع تحوُّلات الطبيعة وحالة التديُّن للإنسان القديم ومعتقدات الأسطورة حيث ‏جسَّد بعل وأنكي وعشتار ودموزي، ووظَّف الفنان الرَّمز في حالاته الإيمائيّة أو المجرَّدة مع ‏خواص المعتقدات والتصوُّرات والوظائف حول مهامهم كما في منحوتة "بعل" شكل(1)، ‏فديموزي وفقًا لعقائد الكنعانيين أوكلت إليه مهمة مسؤولية الراعي والخصب في الطبيعة ‏والحيوانات، وهو الذي يموت سنويًّا في أواخر الربيع وعلى حواف الأقنية والأنهار وما يلبث أن ‏يولد من جديد، أمّا عشتار آلهة الخصب عند الكنعانيين فيرمز لها بالنجمة الثمانيّة والسداسية ‏أحيانًا، واشترك كل من ديموزي وعشتار في الوظائف ذاتها وهي الخصب، وعشتار هي ذاتها ‏وعرفت لدى العرب لاحقًا بالعزى والزهرة ويشار هنا للنبات والمعتقدات(الحوراني، 1978، ‏‏219). تجدر الإشارة إلى أنَّ مسمى الزراعات البعليّة ما زال حاضرًا في التعبير الشعبي إشارةً ‏لاعتمادها على مياه الأمطار. وتفسَّر نجمة تليلات الغسول شمال البحر الميت كأحد مظاهر ‏الممارسات الفنية المقترنة بالتديُّن والاعتقاد بتصوُّرات الغسوليين على ضفاف نهر الأردن قديمًا ‏حول عشتار ومصيرها، وتعتبر النجمة الثمانية الكنعانية أحد النماذج المشابهة لنجمة عين غزال، ‏ويؤكد العيسة بأنَّ تلك النجمة كانت رمزيًّا تشير بألوانها الحمراء للحياة بينما السوداء فتشير ‏للموت(العيسة،2017). شكل(3، 4). ‏

 ‏ ‏

شكل (1) بعل الأوغاريتي، رأس شمرا، سوريا.‏

 

 

 

 

‏ شكل (2) الإلهة الأم، عين غزال، الأردن.‏

تفاعل الفن في الأردن قديمًا مع مبدأ وحدة الوجود الذي اعتقد به الإنسان القديم كأحد الدوافع ‏التفسيرية للوجود، فعشتار التي رمزت للخصوبة وللأرض صاغها النحّات ككتلة ذات مراكز ‏حيويّة، حيث كانت على شكل كتلة اندغم خلالها شكل الطبيعة مع شكل المرأة اعتقادًا بوحدة ‏الوجود بين مفهومي الألوهة والعالم المادي، وظهرت عشتار في عين غزال وتليلات الغسول. ‏ووثّق الفن التمايز في تجسيد الآلهة بين الأقاليم والحقب الزمنية والتطوُّر السيروري للمعتقد ‏ولقدرات الفن على التطوُّر وتكوين الرمز والاستحداث، وحول ذلك يوضِّح السواح أنَّ الأسطورة ‏أكَّدت على المحاور الحيوية ذات التأثير المتعلقة بالآلهة وقدراتهم والتركيز على دور التنوُّع ‏الجغرافي والزمني في تنوُّع ظهور نموذج عشتار في أريحا والبيضا في فلسطين والأردن وتل ‏مربط في سوريا وتشاتال هيوك في تركيا، فقد تطوَّرت رموزها وصولًا إلى الصليب المعكوف ‏والصليب العادي، ورمزت في مجملها إلى العطاء والخصب والاكتناز بمزايا الضرورة الحيوية ‏والسببيّة للوجود الإنساني(السواح، 2002).‏

‏ ‏ 

شكل(3) نجمة موقع تليلات الغسول.‏

 

 

شكل(4) نجمة عشتار الكنعانية وُجدت على مدفن كنعاني.‏

عبَرَ الرَّمزُ في الفنِّ الأنظمةَ الفكريّةَ التي مارسها المجتمع في الأردن قديمًا كما لدى الساميّين؛ ‏كالشعائر والممارسات والعبادات ومواقيت الزراعة والحصاد والانتصارات والأعياد والاحتفالات ‏والصيد، والفعاليات البشرية الحيوية كافة، والتراكمات التجريبية، وتطلَّب ذلك بنية نظاميّة ‏صارمة في الأعمال الفنيّة الجداريّة تتضمَّن رصد أنظمة الطبيعة وتحوُّلاتها والموت والحياة، ‏ويؤكد "توركيلد جاكوبسن"‏‎ (Thorkild Jacobsen) ‎من خلال استعراضه للحياة الدينية أنَّ ‏سكان بلاد وادي الرافدين وأوغاريت والأردن وفلسطين تميَّزوا قديمًا بالنظام كعقيدة اعتبرت ‏العشوائيّة والشذوذ شرًّا إلهيًّا لا يعرف الرحمة، ولذا بدت كافة النتاجات الفنيّة؛ ممثلة بالمنحوتات ‏والجداريات والرسومات على الفخار والأزياء في تلك المناطق، بدت متميِّزة بالبنية النظاميّة ‏الصارمة، ووُجد في الأردن في موقع تليلات الغسول على الجدران والفخاريات تشكيلات تميَّزت ‏بألوانها الزاهية وزخارفها الهندسيّة ونظاميّتها، ومورس الفن فوق الأسطح الجصيّة. ومن الجدير ‏ذكره تَمتُّع أهل القرى الزراعية القديمة بحسٍّ فنيٍّ رفيع خلال الحقبة النطوفيّة والقدرة على ابتكار ‏أنظمة فنيّة تجريديّة كخطوط متقاطعة تكوِّن أشكالًا معينيّة وأخرى محزَّزة تشبه أشكال الأغصان ‏المقلوبة وأخرى أفعوانيّة للحفظ والحماية على المنحوتات والرسومات وجدران البيوت(صادق، ‏‏1995) حيث "اندمج حسّ الجمال بنوازع التديُّن، فكان التديُّن جمالًا والجمال تديُّنًا، وكما رهب ‏الفراغ في الكون فملأه بتشخيصات الآلهة نَفَرَ من الفراغ في الرَّسم فملأه بالرُّموز والأشكال ذات ‏المعاني"(الحوراني، 1978).‏

تناول الفنُّ القمرَ كأحد الأنظمة الطبيعية في العقائد الرافدينية والكنعانية القديمة كقوة ذات مدلول ‏رمزي، حيث استوحت أسطورة القمر مراتب ظهور القمر في السماء، ويشير السواح للأسطورة ‏القمرية "إنانا" بأنها تهبط من السماء إلى العالم السفلي عبر البوابات السبع وهي مزدانة بكامل ‏حللها وزينتها إلى أن تصل إلى آلهة الموت أريشكيجال التي تأمر بموت إنانا. وتذكر الأسطورة ‏بأنها كانت تحمل في كفها صولجانًا لازورديًّا(السواح، 2002: 62-67). وقد اقترن شكل ‏الهلال بشكل الصليب في مواقع تاريخية منها بلاد كنعان ووادي النيل ووادي الرافدين وتشاتل ‏هيوك(السواح، 2000)، لذا فإنَّ الرموز الدينية المرتبطة بالديانتين الإسلامية والمسيحية في ‏الأردن وباقي الدول العربية وهما الهلال والصليب، والتفضيل اللوني لألوان محدَّدة كاللازوردي ‏أو اللون الأزرق واللون الأحمر ومشتقّاته، هي نوع من الارتباط بالفنون القديمة ورموزها. وما ‏زال الاعتقاد برمزيّة القداسة لتلك الأشكال والألوان حاضرًا في التفضيلات الجماليّة اجتماعيًّا‎.‎

تعامَلَ الفن رمزيًّا مع مظاهر انجلاء القمر وظهوره في الميثولوجيا، حيث قام البابليّون بتمثيل ‏أطوار القمر على شكل أهلّة متتالية في نمط دائري، كما نحت الكنعانيون سيدة القمر "عشتار" ‏على شكل ثلاثة أعمدة يعلو أوسطها دائرة وشكل هلال، كما نُحتت على شكل ثلاثة أعمدة يعلوها ‏ثلاثة أهلّة ودائرتين أسفل كل عمود(السواح، 2000). ‏

استمرَّ التشكيل من خلال التثليث، فقد ظهر لدى السبأيين وشمال الجزيرة العربية الاعتقاد بتثليث ‏الإله القمري، ولكن من حيث الوظائف لغايات المطر والإنبات وحماية القطعان، ثم تطوَّرت ‏فكرة التثليث إلى الأب والأم والابن (المعاني، 2016)، فخزائن الحبوب الطينيّة الغسوليّة ‏والنطوفيّة في الأردن قد أُضيف عليها تشكيلات نحتيّة نافرة لشكل القمر مقلوبًا للأسفل مع دائرة ‏داخله، ويفسِّرها الباحث بأنها وضعت للحماية والتزيين، كما كثُر استخدام الشكل المثلث في ‏معظم المظاهر التشكيلية كالجداريات والزخارف على جدران البيوت وعلى المطرَّزات لدى ‏سكان بلاد الشام‎.‎

ويُظهِر الفنّ بحسب (نعمة) تصوُّرات العصر الأمومي حول الخصب، حيث مُنِحت المرأة دورًا ‏مركزيًّا وألوهيًّا في الحياة وفاعليّتها في طقوس الخصب والوفرة، وتعتبر عشتار رمزًا أيقونيًّا ‏للأم المكتملة وأحد مظاهر المعتقدات للخصب وللحفاظ على النوع الإنساني، كما أقيمت الطقوس ‏المقدسة لتحقيق الغاية ذاتها(نعمة، 1994)، وتغلغلت الطقوس التمثيلية للاستجداء والتضرُّع إلى ‏الله في الذاكرة الجمعيّة للمجتمع الأردني، حيث رصد أحد المظاهر التي مارسها سكان بعض ‏المناطق في الأردن وبلاد الشام كطقوس التغييث (استجداء الله لنزول المطر)، حيث أقام ‏القرويون الأردنيون طقوس التغييث التي شارك فيها النساء والأطفال مع طقس إنشادي (يالله ‏الغيث يا ربّي تسقي زريعنا الغربي....) وتحمل النساء أغصان الزيتون، ويُرَشُّ الماء أثناء تأدية ‏الطقوس من البيوت التي يَعبُر من أمامها المؤدّون، ثم يتَّجه المؤدّون في نهاية الطقس نحو أحد ‏المزارات أو المقامات ذات القيمة المقدَّسة طلبًا لقبول الدعاء بالاستغاثة والتقرب إلى الله، وهذا ‏الطقس امتداد للطقوس البدائية في الاسترضاء، ويعتبر الحوراني بأنَّ طقوس الخصب كانت ‏فعاليّات تمثيليّة بغية تحقيقها في الطبيعة مثل رشّ الماء والذهاب للمعبد‎.‎

 

التَّشكيل الشَّعبي الأردني

يمثِّل التَّشكيل في الأردن مادة غنيّة تستوعب إرثًا ماديًّا وروحيًّا متراكمًا من المعتقدات ‏والتصوُّرات الجماليّة والتجارب التقنيّة، فالمرجعيّات التاريخية لم تتوقف عن التأثير على التشكيل ‏الشعبي، وعلى الرغم من تطوُّر المعتقدات، كان للتأثير التاريخي مدىً واضحًا على قوالبه ‏وعناصره؛ حيث ما زال الحرفيّون يمارسونها حتى اليوم. واجتهد التشكيليّون الشعبيّون في ‏صياغة أفكار أسلافهم ومعتقداتهم في خلق الكون والنوازع الغيبيّة ومعايير التذوُّق والجمال ‏وأشكال الطقوس الدينية والحِرَف والتضمينات التشكيلية على شكل رموز، حيث مثّلت تاريخ ‏المعتقدات والطقوس. استوجب الرَّمز ودلالاته حالة فنيّة متقدِّمة من تجريد الأفكار حول الواقع ‏وإحالتها إلى لغة دلاليّة، حيث كان التجريد بنية رياضيّة هندسيّة قوامها الشكل الهندسي والعلاقات ‏المتناسقة والروابط الخطيّة والإيقاعات والتكرار والمتتاليات والمصفوفات والتَّكاملات، ممّا ‏أعطاها انسجامًا ديناميكيًّا ودلالات متعددة. وتجسَّدت تلك الأشكال على معظم ما يستخدمه ‏الإنسان الأردني في حياته اليومية، كما تميّزت في تمثُّلاتها "تكرارًا وتشابهًا ما بين الوحدات ‏الزخرفية المستخدمة في الفن الشعبي"(طبازة، 2012). واندغم تأثير ذلك مع تأثيرات تعاليم ‏الفلسفة الإسلامية السّمحة في الفن‎.‎

ازدهر التشكيل الشعبي في الأردن نتيجة للضرورات الماديّة وتوفُّر الحرفيين والحاجات الجماليّة ‏والروحيّة، وتناغم مع سياق الحياة ومتغيّراتها، وساهم توفُّر المواد الخام الطبيعية وصناعة ‏الأقمشة والأصباغ منذ القدم كمدخلات لإنتاج الفن، وكانت معظم الصناعات الحرفية المتعلقة ‏بالنتاجات الشعبية التشكيلية منذ نهايات القرن الماضي تظهر في القرى والأرياف الأردنية؛ كفن ‏التطريز والفخار وفن القَشّ والرسم على جدران المنزل أو الأدوات المستخدمة في بيوت ‏القرويين؛ لذلك اتَّخذت تلك النّتاجات ملامح بيئاتها، وعكست الذوق الجمعي للأردنيين‎. ‎

ورث التشكيلي الشعبي الأردني التفاعل مع موجودات البيئة من الكائنات الحية -حيث أخذت ‏مكانة خاصة في الوعي الاجتماعي- كأشكال الحيوانات مثل الثور والماعز والجِمال والخيل ‏والسّباع والأفعى، وتمثّلت تلك الأشكال بصيغ رمزيّة وتصوُّرات الوعي الاجتماعي عن أهميّتها ‏في الحماية والتحصين من القوى الشريرة والحسد وللاستشفاء من الأمراض. حيث ظهرت قرون ‏الحيوانات بصورة أكثر تجريدًا على البُسُط وجرار خزن الطعام، وظهرت الأشكال الأفعوانيّة ‏على المطرَّزات اعتقادًا بخلود الأفعى. كما ظهرت أشكال الأسود والجِمال والسِّباع على ‏المهابيش‎.‎

 

تشكيلات القَشّ

مورست حرفة القَشّ والتَّشكيل عليها من قِبَل النساء، وتواجدت في الأماكن التي توافر فيها وجود ‏المواد الخام ومن أهمّها زراعة القمح والشعير، وتوافُر الألوان اللازمة لاعطائها سمات جماليّة ‏وتشكيليّة، وجاء ذلك مع الحاجة لاستخدام منتجات حرفة القشّ في تخزين المواد الغذائيّة وسواها. ‏تميّزت الأطباق القشيّة بأنَّ طريقة تشكيلها تبدأ من مركز البناء ثم التوسُّع بقطرها بشكل لولبيّ، ‏وهو ما أعطاها انطباع الانبعاث من المركز إلى الخارج، أمّا التشكيلات فقد ظهرت على عدَّة ‏أشكال؛ فمنها النجميّة السداسيّة أو الثمانيّة أو أكثر، ومنها ما يظهر تضمينه لشكل المثلث بعدَّة ‏هيئات، فإمّا يكون كل مثلث كوحدة مستقلة أو كمصفوفات أفقيّة دائريّة أو عموديّة تشكل فيما ‏بينها تكوينًا نجميًّا ثمانيًّا أو سداسيًّا، ويفسر الباحث ذلك بارتباط واضح مع مدلولات كوكب ‏الزهرة والإله الشمس وعشتار لدى الغسوليين في موقع عين غزال كما في الشكل(3)، وعادةً ما ‏توضع تلك الأطباق في أماكن مرتفعة على الجدران لدى القرويين في الأردن حتى يومنا هذا، ‏ويقارب الباحثون هذا الاستخدام مع تصوُّرات المجتمعات القديمة في بلاد كنعان ووادي الرافدين ‏حول التقديس، حيث اعتقدوا بأنَّ الآلهة تقطن في الأماكن المرتفعة. شكل(5) وشكل(6).‏

‏ ‏ 

شكل(5) طبق قش، قرية خرجا، شمال الأردن، من مقتنيات السيد فراس عبيدات- قرية حرثا، ‏شمال الأردن منتصف الثمانينات.‏

 

 

شكل(6) طبق قش وبلاستيك، أواخر التسعينات، مقتنيات بيت التراث الريفي- السيد محمد ‏الزعبي.‏

 

التَّطريز

عُرفت صناعة الملابس لدى الكنعانيين في بلاد الشام منذ القدم، وكان غنى الطبيعة بمواد مثل ‏الأصواف أو النباتات كالقطن يلبّي حاجات المجتمع في صناعة الملابس من أجل الحماية من ‏التقلُّبات الجويّة، أمّا الزَّخارف على الملابس فقد ظهرت منذ القدم، كما ظهر أوَّل نول في التاريخ ‏‏-بحسب كفافي- في موقع أبوحامد في الأردن(كفافي، 1991)، لذا تطوَّر استخدام القماش كأحد ‏أشكال الحماية الماديّة. أمّا فنّ التَّطريز فقد تطوَّر بشكل واضح على ملابس النساء، فالمثلث هو ‏استمرار لرمزيّته كدلالة للحماية استخدمها الغسوليون والنطوفيون والكنعانون على أرض ‏الأردن، وكثالوث للحماية؛ استمرارًا لمعتقدات العرب السبأيين في جنوب الجزيرة العربية. ‏ورصد الباحث شكلًا مثلثًا مدرَّج الأضلاع على المطرَّزات، ويفسِّره بكونه شبيهًا بعناصر ‏العمارة العربيّة لدى الأنباط والثموديين، فهو ذو رمزيّة مستخدمة للحماية وتتوّج فنونهم ‏المعماريّة. ما تزال الوحدة المثلثة تستخدم حتى يومنا هذا. والشكل الأفعواني والمثلث (الحجب) ‏في الذاكرة الشعبية الروحية في جانبي نهر الأردن هي تعويذة للحماية والحفظ من الشر والفال ‏السيئ(قشقوش، 2017: 27-44). شكل(7،8). كما ظهرت بعض الوحدات المثلثة كرمز ‏تجريدي مرتبط بالخصوبة لدى المرأة والعضو الأنثوي من حيث وظيفته شبيهة بالنماذج النطوفيّة ‏والغسوليّة. شكل‎ ‎‏(9).‏

‏ ‏ 

شكل (7) وحدة زخرفيّة لمثلث مدرَّج الأضلاع تعود إلى مطلع الثمانينات، قرية عزريت، شمال ‏الأردن، من مقتنيات السيدة شهيرة الخطيب.‏

 

 

شكل(8) مطرزات أفعوانية تعود لمطلع الثمانينات، شمال ووسط الأردن، مقتنيات متحف البيت ‏الريفي، السيد محمد الزعبي.‏

 

 

‎ ‎شكل(9) وحدة مثلث رأسه للأسفل ينصّفه خط أسود، وهي جزء من وحدات متكررة على شكل ‏إفريز، قرية عزريت، شمال الأردن، مقتنيات السيدة شهيرة الخطيب.‏

تغلغلت التصوُّرات الفنيّة القديمة في التشكيلات الفنيّة كنوع من الارتباط بمظاهر التديُّن والاعتقاد ‏في كافة مظاهر الحياة، وتقترن رمزيّة المرأة برمزيّة الأرض، كما اعتقد قدماء الكنعانيين في ‏مواقع عدَّة بالإلهة الأم. وتزدان الأثواب بتكويناتها من تشكيلات هندسيّة ونباتيّة كعلاقة رمزيّة ‏لارتباط المرأة بالأرض، فبوجود بعل تَخصب الأرض وتغتني بالنَّماء والوفرة، ومن الملفت أنَّ ‏الكثير من الأثواب النسائيّة في الأردن كانت عليها تشكيلات من الأسفل على شكل مثلث مقلوب ‏وينتهي بخط على رأس المثلث، وهو أحد رموز الخصب التي اقترنت بالإلهة الأم منذ ‏القدم(عبيدات، 1997)، شكل(10)، ويقارب الباحث بين إشارة "إكس" (×) وبين تعويذة ‏استخدمت بكثرة لدى النطوفيين والغسوليين في شمال الأردن تعود إلى الأعوام 3600 -4000 ‏قبل الميلاد، على الآنية الفخارية اعتقادًا من القدماء بمنع القوى الشريرة من الاقتراب على تلك ‏الآنية. شكل(11).‏

‏ ‏ 

شكل(10) مطرزات، وحدة التربيعة يحتوي على خطين متقاطعين يكونان إشارة إكس (×) قرية ‏عزريت، شمال الأردن، مقتنيات السيدة شهيرة الخطيب.‏

 

 

شكل(11) جرة فخارية لخزن الحبوب، ظهر عليها تخطيط يحتوي خطين متقاطعين، موقع أبو ‏حامد، الأردن 3600- 4000 قبل الميلاد.‏

إنَّ شكل المثلث المستخدم بكثرة في الفنون الشعبية، بالإضافة لرمزيّته في الحماية، فيرتبط ‏بتصوُّرات القدماء حول الإلهة الأم، وتحديدًا في منطقة الخصب (العنصر الأنثوي) ومنطقة ‏البطن. وبحسب (فنصة) فقد نقلت النقوش السومرية والأكادية والبابليين وعرب الجزيرة ‏والكنعانيين ما يصف جسد الآلهة الأم "أنانا وعشتار" من جوانب الخصب الذي يتشكَّل على هيئة ‏مثلثين متقابلين، أعلاهما شمل منطقة البطن والسفليّ شمل الأرداف والعضو الأنثوي، وشكَّل ‏تقابُل المثلثين تكوينًا معينيًّا، كما اهتمَّ نحاتو شرق المتوسط وبلاد الشام على ضفاف نهر الأردن ‏بتزيين تماثيل جسد المرأة وما يرتبط بحمايتها بخطوط عرضيّة وإشارت تلك الأشكال لفصل ‏الربيع لسببيّة الإنبات بسبب المطر والأرض(فنصة، 2020). من جانب آخر ارتبط إغناء ‏المطرَّزات بالزَّخارف كوصف لقدرة المرأة على الخصب والإنجاب وكتعويذة لدرء الشرور ‏ومنها العقم. وقد دلَّت الوشوم والأشكال التي رُسمت على المنحوتات في دول شرق المتوسط ‏على أغراض طبيّة ورموز سحريّة للحماية وزيادة الإنجاب ‏‎.(Joffe and Hallote, ‎‎2011)‎

استُخدِمَت الزخارف الأفعوانية في تطريز الأثواب، ويرمز الشكل الأفعواني لدى قدماء الكنعانيين ‏للخصوبة والخلود(قشقوش، 2017). أمّا اللون الأسود، وهو اللون السائد لقماش المطرَّزات في ‏الأردن، فقد وُظِّف لغايتين؛ الأولى جماليّة لتظهر تشكيلات الزخارف الملوَّنة بعدَّة ألوان، وغاية ‏رمزيّة تذكِّر بموت الطبيعة وفقًا للأساطير الكنعانية التي اعتقدت بموت الإله بعل والإلهة إنانا ‏واعادة انبعاثهما من جديد، أمّا اللون الأحمر الذي ظهر بكثرة على المطرَّزات كتمثيل ارتباط ‏فاعليّته الفسيولوجية والسيكولوجية في الخصب مع مكانة المرأة‎.‎

 

صناعة الفخّار

عُرفت صناعة الفخّار في منطقة بلاد الشام منذ القدم بسبب استخدامها في تلبية حاجات الإنسان، ‏حيث ارتبطت في خزن الحبوب والزيت ومختلف الأغراض، وأظهرت الرُّسوم على الفخّار -‏فضلًا عن غاياتها الجماليّة- الأغراض المرتبطة بالمعتقدات، حيث ظهرت الأشكال الهندسية ‏كالمعينات والمثلثات والخطوط المتقاطعة كرموز ارتبطت بالخصب ودرء الشرّ لحماية ما ‏بداخلها، وتظهر جماليّة الرَّمز من خلال ربط تلك الأشكال بتعبيراتها، حيث اقتران شكل المرأة ‏بتكوين الآنية الفخارية كبيرة الحجم، وخصوصًا محيطها كرمز للخصب المقترن بشكل المرأة. ‏وجاء في بعض تلك الآنية استخدامها للأشكال اللوبية ذات النقطة المركزيّة، وهو تمثيلٌ للاعتقاد ‏بالخلود، فالشكل اللوبي يعطي انطباعًا بالاستمراريّة‎.‎

بعد قراءة جمالية للنماذج التشكيلية الشعبية على الأزياء والمطرَّزات والفخاريّات وأطباق القشّ، ‏نخلص إلى أنَّ هناك تضمينًا لصيغ تشكيليّة هندسيّة ورمزيّة واضحة، خصوصًا أنَّ الأشكال ‏المنتشرة على التصاميم هي أشكال هندسية على الرغم من تنوُّعها إلّا أنها تبنَّت بعض الأشكال ‏كالمثلث والمعين والشكل الأفعواني والدائري والزخارف النباتية والخطوط المتقاطعة، وهو ما ‏يؤكد أنَّ تلك الأشكال هي رموز لأفكار تعامَلَ معها ومن خلالها الإنسان في بلاد الشام، وشكّلت ‏امتدادًا للإرث التاريخي. على صعيد آخر ما زال الموروث الميثولوجي والجمالي حاضرًا في ‏الذاكرة الجمعية للفنان التشكيلي المعاصر في الأردن، حيث ظهرت ثيمات فنيّة لها عمقها ‏التاريخي الفلسفي والدلالي وتمثَّلت أشكالًا ورموزًا عبَّرت عن الحياة والكون والوجود والأمل ‏والتديُّن والحماية والهواجس، ويشير "داميين" ‏‎ (Damien)‎‏ إلى أنه على الرغم من ندرة الدلائل ‏اللغوية غير أنَّ الغسوليين في الأردن مارسوا لغة بدائيّة وهي عبارة عن الأشكال المنحوتة ‏والمرسومة على الأسطح، شكَّلت فيما بعد اللغات الكنعانية والأوغاريتية والسريانية ‏والأرامية‎.(Damien , 2018) ‎

 

المصادر والمراجع:‏

‏-‏ أحمد، محمد فتوح، (1984)، الرمز والرمزية في الشعر العربي المعاصر، دار المعارف، مصر، ‏ط3.‏

‏-‏ إمام، عبدالفتاح، (1998)، معجم ديانات وأساطير العالم، الكتاب الثالث، مكتبة مدبولي.‏

‏-‏ جانسون.هورستولديمار ودورا جين، (1995)، تاريخ الفن العالم القديم ج1، ترجمة عصام التل، ‏مراجعة رنده قاقيش، شركة الكرمل للأعلان.‏

‏-‏ حتي فيليب، (1975)، تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين، ترجمة جورج حداد ، ج1 ، دار الثقافة، ‏بيروت.‏

‏-‏ الحمزة، خالد، (1997)، التراث الشعبي التشكيلي في الأردن، منشورات جامعة اليرموك، إربد.‏

‏-‏ ‏ الحوراني، يوسف، (1978)، البنية الذهنية في الشرق المتوسطي الآسيوي القديم، دار النهار ‏للنشر، بيروت.‏

‏-‏ السواح، فراس، (2002). مغامرة العقل الأولى دراسة في الأسطورة، سوريا، أرض الرافدين، ‏ط13، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، دمشق.‏

‏-‏ السواح، فراس، (2000)،  لغز عشتار، ط6، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، دمشق.‏

‏-‏ شيفلر، اسرائيل، ( 2016)، عوالم الصدق نحو فلسفة للمعرفة، ترجمة فاطمة إسماعيل، مراجعة ‏مصطفى لبيب، ط2، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.‏

‏-‏ الشقران، قاسم وعامر، محمد متولي، وعبابنة، وعد، (2020) الوحدات الزخرفية لبعض الأزياء ‏التراثية الشعبية الأردنية، دراسة فنية تحليلية، المجلة الأردنیة للفنون، المجلد13، ع1، نیسان، ‏‏119- 141، جامعة اليرموك.‏

‏-‏ صادق، محمود، (1995)، الفن التشكيلي في الأردن، منشورات لجنة البحث في تاريخ الأردن، ‏سلسلة الكتاب الأم في تاريخ الأردن، مؤسسة آل البيت، الأردن.‏

‏-‏ طبازة، خليل، (2013)، الظروف البيئية وتأثيرها على الفنون الحرفية التقليدية الشعبية في الأردن، ‏المجلة الأردنية للفنون، مجلد 6، ع3، 361-378، جامعة اليرموك.‏

‏-‏ طمان، سهام محمد علي، (1999)، مفهوم "الرمز" فى الفن الشعبي المصري وأثره فى ‏التصوير المعاصر، كلية التربية الفنية.‏

‏-‏ عبيدات، عبدالله، (1997)، تأثيرات البيئة في الرسم الأردني المعاصر، كلية الفنون الجميلة، ‏جامعة بغداد، رسالة ماجستير غير منشورة.‏

‏-‏ عصفور، محمد أبوالمحاسن، (1987)، معالم حضارات الشرق الأدنى القديم، دار النهضة العربية ‏للطباعة والنشر، ط1.‏

‏-‏ عطية،  محمد محسن، (2002)، نقد‎ ‎الفنون‎ :‎من الكلاسيكية إلى عصر ما بعد الحداثة، منشأة ‏المعرفة الاسكندرية.‏‎ ‎

‏-‏ فنصة، سعد، (2020)، قراءة جديدة في رموز الآلهة الأم، التمثل الجنسي في الأدب والشعر ‏والنحث في الحضارة الرافدينية.‏

‏-‏ https://ebd3.net/110186‎‏/‏

‏-‏ قانصو، أكرم، (1995)، التصوير الشعبي العربي، سلسلة كتب عالم المعرفة، المجلس الوطني ‏للثقافة والفنون والآداب، الكويت.‏

‏-‏ قشقوش، إيمان، (2017)، تجلي المدينة في الثياب الشعبية الفلسطينية، مجلة المجمع، ‏‎12 ‎، ‏‎44-27‎‏.‏

‏-‏ كاسيرر، (1975)، الدولة والأسطورة، نص مطبوع أرنست كاسيرر، ترجمة أحمد حمدي محمود ‏مراجعة أحمد خاكي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.‏

‏-‏ كفافي، زيدان عبدالكافي، (2017)، عين غزال قرية أردنية عمرها عشرة آلاف عام، دراسات في ‏آثار الوطن العربي، 12- 453.‏

‏-‏ كفافي، زيدان، (1990). الأردن في العصور الحجرية، منشورات لجنة تاريخ الأردن، سلسلة ‏الكتاب الأم في تاريخ الأردن، مؤسسة آل البيت، الأردن.‏

‏-‏ المعاني،سلطان، (2016)، الهوية الحضارية في النقوش العربية القديمة، منشورات وزارة الثقافة، ‏الأردن.‏

‏-‏ محاسنة، إبتسام (2015). "المدرقة"..الثوب الأردني يحكي قصة الارتباط الوثيق بالأرض، مجلة ‏العربي الجديد، 1 تشرين الثاني/ نوفمبر.‏

‏-‏ المزين، عبدالرحمن، (1981)، موسوعة التراث الفلسطيني- الأزياء الشعبية الفلسطينية، ‏منشورات فلسطين.‏

‏-‏ نعمه، حسن، (1994)، ميثولوجيا وأساطير العالم القديم، موسوعة الأديان السماوية والوضعية، ‏دار الفكر اللبناني، بيروت.‏

‏-‏ Alexander H.JoffeJp.Dessel and Rchel.Hallote,( 2001)The Gilat ‎woman, Female Iconography, Chalcolithic cult and the end of ‎southern Levanine Prehistory

‏-‏ file:///C:/Users/abd%20allh/Downloads/The_Gilat_Woman_Female_Iconography_Chalcolithic_Cu.pdf

‏-‏ Damien, Arthope, 2018, The Ghassulian Star,” a mysterious ‎‎6,000-year-old mural from Jordan; a Proto-Star of ‎Ishtar, Star of Inanna or Star of Venus?‎

https://damienmarieathope.com/2018/08/the-ghassulian-star-a-mysterious-‎‎6000-year-old-mural-from-jordan-a-proto-star-of-ishtar-star-of-inanna-‎or-star-of-venus/?v=32aec8db952d