الشخصيّات الروائيّة ‏ وتوظيفها في الأجناس الأدبيّة العربيّة ‏

د.أحمد زهير الرحاحلة

باحث وأكاديمي أردني

 

ليس سهلًا على المبدع أن يقوم باستدعاء أيّ شخصيّة روائيّة من إطارها السردي المنجز، ثم ‏يجعلها دعامة لعمله الخاص، فهو لا يستطيع إعادة بناء شخصيّة قام غيره ببنائها وخلقها، لكنه ‏يحاول إحياءها في بيئة جديدة، وفي ذلك مغامرة حقيقيّة قد يدفع المبدع ثمنها إنْ لم يتقن الرَّبط ‏بين عمله وأعمال غيره. إنَّ هذا التوظيف أو الاستدعاء، وحتى يكون ثيمة أدبيّة وتجربة جماليّة ‏وتقنية أسلوبيّة، يتطلَّب مساحة معرفيّة شاسعة، واطِّلاعًا متميّزًا، لا يقف عند حدود قراءة ‏الرِّوايات.‏

ليس المقصود من العنوان ما يمكن أن يحيل إلى التناص وإجراءاته السائدة والمألوفة لدى ‏الدارسين، فهذا مفهوم أشبعته الدراسات والبحوث طرقًا، وإن كان الأمر لا يخلو من تقاطع مع ‏فلسفة التناص بوصفه تقنية إبداعية راجت في الأدب الحداثي رواجًا منقطع النظير، وإنَّما ‏المقصود هو لجوء المبدع إلى استدعاء شخصيات وأبطال من روايات عالمية أو محلية ذات ‏حضور وتميُّز، على نحو مخطَّط له بصورة تامة، وتحويل هذا الاستدعاء إلى ثيمة أدبية، أو ‏محور ارتكاز أساسي للنهوض بالعمل، أو استخدامه بصورة تقنية أو أسلوب ينفتح على باب ‏التجريب الذي ندعم حق المبدع في خوض غماره.‏

وليس سهلًا على المبدع أن يقوم باستدعاء أي شخصية روائية من إطارها السردي المنجز، ثم ‏جعلها دعامة لعمله الخاص، فالأمر محكوم بالدوال المسبقة التي تحملها تلك الشخصيات، والدوال ‏المستحدثة التي يروم المبدع شحنها من جديد فيها، مع وعي تام بأنه لا يستطيع إعادة بناء ‏شخصية قام غيره ببنائها وخلقها، لكنه يحاول إحياءها في بيئة جديدة؛ استشعارًا منه أنَّ هذه ‏الشخصيات التي ظهرت في أعمال أخرى ما زالت قادرة على العطاء بصورة متجدِّدة، أو أنَّ ‏هذه الشخصيات تحمل ديمومة وصلاحية للظهور في امتداد زماني ومكاني جديد، أو أنَّ هذه ‏الشخصيات تحمل خبايا ودلالات تحتاج إلى إبراز للقارئ حتى وإن جاءت متناقضة مع ظهورها ‏الأوَّل، وهذه هي المغامرة الحقيقية التي قد يدفع المبدع ثمنها إن لم يتقن الرَّبط بين عمله وأعمال ‏غيره.‏

وما بين جعلها ثيمة أو تقنية، تبقى مسألة معاينة مستويات النجاح المتحققة أمرًا يحتاج إلى ‏دراسات منفردة تختص بكل عمل على حدة، على نحو يؤسس لإمكانية تقييم التجربة من جوانبها ‏كافة، ويبقى حدّ هذا العمل مركّزًا في استعراض مضمون العنوان وبيانه في نماذج مختارة من ‏الأجناس الأدبية المختلفة لتقريبها على النحو الأمثل:‏

في الشِّعر

في سياق التمثيل على حضور هذه التقنية أو الثيمة في الأدب العربي، وأبعادها الجمالية، نشير ‏شعريًّا إلى تجربة الشاعر حميد سعيد في ديوانه "أولئك أصحابي"، إذْ إنَّ الشاعر استدعى ما ‏يقارب خمس عشرة شخصية من روايات مشهورة، وقام بإعادة إنتاج هذه الشخصيات في قصائد ‏الديوان على نحو يحقق نوعًا من التوازي بين أصوات الشخصيات المستدعاة وصوته الشعري ‏الخاص، دون أن يتَّخذ منها قناعًا أو مرآة للتعبير عنها أو التعبير بها عن تجربته بالطرائق ‏التقليدية المألوفة، ولعلَّ عنوان الديوان يكشف عن وعي الشاعر بالخطوة التي أقدم عليها، فنظر ‏إلى تلك الشخصيات على أنها تمثل أصدقاء له، يكملها وتكمله، ويحملها وتحمله.‏

تحضر في ديوان "أولئك أصحابي" شخصيات متنوعة الأطياف، ومتعددة المرجعيات، ومختلفة ‏في الدلالات، مما يجعل من الصعب النظر إلى كل تلك الشخصيات على أنها تمثل صوت ‏الشاعر أو القناع الذي يختبئ خلفه، ومن هذه الشخصيات: "الكابتن إيهاب" بطل رواية "موبي ‏ديك"، و"سانتياغو" بطل رواية "العجوز والبحر"، و"آنا كارنينا" لـ"تولستوي"، و"عوليس" ‏لـ"جيمس جويس"، و"مدام بوفاري" لـ"غوستاف فلوبير"، و"الدكتور جيفاغو" لـ"بوريس ‏باسترناك"، و"أحمد عبدالجواد" بطل ثلاثية نجيب محفوظ،...إلخ، بل إنَّ بعض القصائد لا يبرز ‏فيها شخصية محدَّدة وإنَّما تتماهى مع رواية بعينها، مثل: رواية "الأخوة كارامازوف" ‏لـ"دوستويفسكي"، ورواية "لم تشرق الشمس" لـ"إرنيست همنغواي"، ورواية "صمت البحر" ‏لـ"جان بروليه" الشهير بلقب "فيركور"...إلخ، وإلى جانب ذلك فإننا نجد بعض القصائد قد حملت ‏عنوانًا مطابقًا أو مقاربًا لعنوان رواية من الروايات، مثل: قصيدة "صمت البحر... ثانية"، ‏وقصيدة "جحيم آنا كرنينا وفردوسها"،...إلخ.‏

يمثل الديوان حوارية ثقافية بين الشاعر ومجموعة الشخصيات السردية المُستدعاة، فلا يمكن ‏لواحدة من هذه الشخصيات أن تستأثر بالحوار، أو تقصي غيرها، فتصبح الشخصيات كلها، ‏والروايات كلها مجتمعة هي العمل/ الديوان الشعري. إنه ثيمة أدبية وتجربة جمالية، وتقنية ‏أسلوبية لافتة، تتطلب مساحة معرفية شاسعة، واطلاعًا متميزًا، لا يقف عند حدود قراءة ‏الروايات، وإنما ينفذ إلى أعماق كل شخصية من شخصياتها، ثم اختيار المكان الملائم لها في ‏العمل الجديد.‏

 

في الرِّواية

تُعدُّ الرواية الفضاء الأمثل والأرحب لهذه التقنية، وهذا يبدو منطقيًّا للاتفاق في الجنس الأدبي، ‏وقد خاض هذا التجريب عدد كبير جدًا من الأدباء، سنكتفي بالإشارة إلى بعضهم، كما نجد عند ‏الروائي علم الدين عبداللطيف في رواية "قمر بحر" حيث عمد إلى استدعاء شخصيات روايات ‏أخرى، وأعاد كتابة مصيرها على النحو الذي يريده، ولعلَّ هذا الملمح بدأ في الرواية من خلال ‏استدعاء الروائي لشخصيات من رواياته وأعماله السابقة، كما فعل حنا مينا في ثنائية "القمر في ‏المحاق" و"النجوم تحاكم القمر"، ونلمح تشابهًا في الشخصيات عند واسيني الأعرج بين رواية ‏‏"أنثى السراب" ورواية "سيدة المقام" وغيرها، وفعل ذلك أيضًا إبراهيم عبدالمجيد في روايته ‏‏"السايكلوب" التي استدعى لبنائها شخصية "البهي" من روايته "لا أحد ينام في الإسكندرية"، ‏ولجأت كاتيا الطويل إلى تقنية مقاربة في رواية "الجنة أجمل من بعيد" وفيها تتحدّث عن مؤلف ‏مهزوم بين صفحات بيضاء فارغة، يحاول أن يبني حياة، وأن يبدع عملًا خاصًا به، فيستدعي ‏بعض الشخصيات من روايات عالمية ليطلب منها الرأي والنصيحة ويحاورها لينتهي به الأمر ‏إلى التمرُّد على الكاتبة وعلى مصيره.‏

وعلى نحو مغاير يقتنص جلال برجس في "دفاتر الوراق" التقنية ذاتها، ويخلق حالة من التماهي ‏بين بطل روايته ومجموعة من شخصيات روايات أخرى، أبرزها: شخصية "سعيد مهران" من ‏رواية "اللص والكلاب"، وشخصية "مصطفى سعيد" بطل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"، ‏وشخصية " كوازيمودو" بطل رواية "أحدب نوتردام"،...إلخ، غير أنَّ جماليات هذه التقنية عند ‏جلال برجس تأخذ القارئ إلى عوالم متداخلة بين الواقع والخيال، والماضي والحاضر، على نحو ‏يجعل هذه الشخصيات عنصر تشويق واستكمال لبناء الشخصية الرئيسة في الرواية، ويقارب هذا ‏التكنيك عند جلال برجس ما فعلته قبله سحر الموجي في رواية "مسك التل" لكن على نحو ‏مختصر ومركز على ثيمة وجودية، عبر شخصية "أمينة" بطلة ثلاثية نجيب محفوظ، وشخصية ‏‏"كاثرين إرنشو" بطلة رواية "مرتفعات ويذرنغ" لـ"إميلى برونتي"، ويشاركهما في التقنية إبراهيم ‏فرغلي في روايته "أبناء الجبلاوي".‏

تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ بعض الأعمال المذكورة كما في عمل كاتيا الطويل قد تصلح نموذجًا ‏دالًا على ما يُعرف برواية اللارواية، أو الميتاسرد، ومع ذلك فإنَّ الغالبية العظمى من الأدباء ‏يتجاوز وظيفة النقد والنقد الذاتي للإبداع الأدبي الذي يميز الميتاسرديات عن غيرها.‏

 

في المسرح

المسرح أيضًا كان له نصيبه من أعمال تخوض التجريب على هذا الأساس، ومن أبرز الأعمال ‏التي قامت حبكتها المسرحية على استدعاء شخصيات من الأعمال الروائية مسرحية "شقة عم ‏نجيب" التي اعتمد فيها الكاتب المسرحي سامح مهران على عدد من أعمال الروائي العالمي ‏نجيب محفوظ، من خلال الزوجين "عباس" و"سعدية" الباحثين عن شقة للسكن، ويقودهما البحث ‏إلى شقة غير مسكونة في أحد الأحياء القاهرية الراقية، ويخبرهما صاحب الشقة أنها مسكونة ‏بالأشباح، ويتم الاتفاق معه على طرد الأشباح التي تسكنها للحصول عليها، ثم يتبيَّن عبر فصول ‏المسرحية أنَّ هذه الأشباح التي تسكن الشقة ما هي إلا بعض أشهر شخصيّات روايات نجيب ‏محفوظ.‏

تظهر في المسرحية حوارات للزوجين مع شخصية "أحمد عبدالجواد" وزوجته "أمينة" وشخصية ‏‏"زبيدة" وكلها من الثلاثية، وتظهر أيضًا شخصية "محجوب عبدالدايم" و"علي طه" من رواية ‏‏"القاهرة الجديدة"، و"ريري" من رواية "السمان والخريف"...إلخ، والمسرحية من إخراج جلال ‏عثمان. ‏

‏***‏

والحق أنه لا جديد في ابتكار هذه التقنية مما يمكن أن يحسب للأدب العربي، فالفكرة -على الرغم ‏من اختلاف التفاصيل التي تتعلق بها ومستويات النجاح التي تحققها- تبقى نتاجًا للأدب الغربي، ‏بل إنها كانت مادة لعدد لا يحصى من الأعمال السينمائية الغربية، التي مثلت جانبًا من الواقعية ‏السحرية الجديدة الممتزجة بالفانتازيا والخيال العلمي إلى حدّ ما، ويمكن الذهاب إلى أنَّ الجذور ‏الأولى لهذه الثيمة أو التقنية ترجع إلى العهد الإغريقي من خلال مسرحية ملهاة "الضفادع" التي ‏أبدعها "أرستوفانيس" وعالج من خلالها فكرة مَن يستحق العودة من العالم الآخر "أسخيلوس" أم ‏‏"يوربيديس" بعد أن أقفرت الساحة التراجيدية الأثينية من التراجيديين الكبار "أسخيلوس"، ‏و"سوفوكليس" و"يوربيديس"، أمّا في العصر الحديث، فنماذجها في الأدب الغربي أكثر من أن ‏تُعدّ أو تُحصى، ونكتفي بذكر نموذج منها يتمثل في رواية "الكتب التي التهمت والدي" للكاتب ‏البرتغالي المبدع "أفونسو كروش". ‏

تدور أحداث رواية "الكتب التي التهمت والدي" حول فتى يبحث عن والده الذي كان يعمل موظفًا ‏بسيطًا في مصلحة الضرائب، ودفعه عمله الروتيني إلى أخذ مجموعة من الكتب والروايات إلى ‏مكان العمل، وبدأ يقرأ فيها، وفي لحظة انغماس تام في القراءة يختفي الأب بين صفحات الكتب، ‏ويبدأ الابن رحلة البحث عن أبيه الذي ضاع في الكتب، عبر قراءة ملاحظات والده التي كتبها ‏في الكتب والروايات وتتبّعها، والارتحال في حالات ذهنية متخيَّلة داخل الكتب، ويلتقي الفتى مع ‏أبطال الروايات التي قرأها والده، ويحاورها، ويزور الأماكن التي جرت فيها أحداث كثير من ‏الروايات الشهيرة مثل: رواية "الجريمة والعقاب" لـ"دوستويفسكي"، ورواية "دكتور جيكل ‏ومستر هايد" لـ"روبرت ستفنسون"، و"فهرنهايت 451" لـ"راي برادبري"، وغيرها من ‏الروايات العالمية، وهي رحلة ماتعة في عوالم متخيلة وسط شخصيات مختلفة من روائع الأدب ‏العالمي‎.‎

ومع ذلك فإنَّ الأدباء العرب الذين ورد ذكر بعضهم قد نجحوا -في الغالب- نجاحًا متميزًا في ‏تقديم أعمال أدبية شائقة، تستفز المتلقي، وتبعث فيه الرغبة للكشف عن الصورة الأخرى لما هو ‏مألوف لديه، وعند هذا الحد يبدو من الصعب أن نحدد موقف المتلقي أو القارئ من الأعمال ‏القائمة على مثل هذه التقنية، لكن رواجها، وتعدُّد الأعمال التي تعتمدها يدلل على نحو من ‏الأنحاء على قبولها ونجاحها في كسر طوق الجمود الذي أصاب كثيرًا من نماذج الأجناس ‏الأدبية.‏

ولا يخلو الأمر من بعض الأصوات التي ترى أنَّ أمثال هذه الأعمال لا تخاطب إلا قارئًا مثقفًا، ‏وصاحب حصيلة روائية واسعة، وحصيلة نقدية وافرة، حتى يتسنى له التفاعل والتواصل معها، ‏والأصل أن تراعي الأعمال الأدبية الشرائح المختلفة للقراء، ومع وجاهة هذا الرأي إلا أن الأمر ‏لا يمنع من كتابة أعمال أدبية قائمة على هذه التقنية، فطالما كان في الأنواع الأدبية تعدُّد وتنوُّع ‏يسمح بتنوُّع القرّاء وتعدُّدهم، ويبقى علينا في الختام توصية الباحثين أو الدارسين لإخضاع ‏الأعمال الأدبية القائمة على هذا الأساس إلى الدراسة والبحث المعمق فيها، لتقييمها وتقويمها إنْ ‏أمكن.‏