ضبابُ أبي ‏(في مديحِ الخفاء)‏

شعر: إيمان عبد الهادي

شاعرة أردنية

 

‏ 

إنّي (هنالِكَ) بانتظارِكْ 

فانفُضْ وجودَكَ عن غبارِكْ 

‏. 

وأضئ سماءَ الرّحلةِ الكبرى إلى تِلكَ المدارِكْ 

‏. 

الموتُ ميعادُ اليُنوعَةِ... كيفَ أحزنُ لاخضرارِكْ!  

‏. 

الآنَ عُدتَ فتىً وسيمًا مُلغِزًا... والمَيمناتُ على يسارِكْ 

تتشاكسُ الأحوالُ فيكَ، وتستقرُّ على غِمارِكْ 

‏. 

علَّمتني الأسماءَ كيما أصطلي عرفانهنَّ بمجدِ نارِكْ 

مثل (ديوجين) ضوّأتُ فانوسَ الهواجِسِ كي أطِلَّ على نَهارِكْ 

‏. 

أورثتني شَجَرَ الكثافةِ وارتدَدتَ إلى بِذارِكْ 

وحزَمتَ أمتِعةَ الزَّمانِ... ففرَّ عُمرُكَ من قِطارِكْ 

فتّتّني بالشّعرِ، وهْو الصّورةُ الأولى لذوبِكَ وانصهارِكْ 

هو طعمُكَ الحِرِّيفُ في نصِّ البداهةِ حينَ تُغدِقُ من بَهارِكْ 

‏. 

اللؤلؤ المنضودُ... راءٍ تحتَ سقفٍ في مَحَارِكْ 

يتأوّلُ المرقومَ خلفَ الضَّفَّةِ الزّرقاءِ: لم أذهَب لأرجِعَ من نُضارِكْ! 

رتَّبتُ لي عملًا على ظهرِ السّفينةِ 

كي أُخوِّضَ في بِحارِكْ 

‏"لأشاهِدَ الطّوفانَ من كثبٍ" 

وأُعصَمَ في إزارِكْ 

‏. 

أمسِكْ يديَّ، كما فعلتَ ونحنُ نقطَعُ شارِعَ الأنفاسِ حتّى صَدرِ دارِكْ... 

أرفو رئاتِ الشّعرِ بالرَّبوِ، السّعالِ، وبالزّلازِلِ في شهيقِكَ نحوَ أقصى الرّعبِ، بالرّيحِ ‏المقيمةِ في وَقارِكْ 

لو كانَ أفلَتَ من نوافِذِكَ الخلودُ... 

فكيفَ يُفلِتُ من جِدارِكْ؟ 

‏.‏

والموتُ عَدوٌ في الجمالِ... وقد تجنَّحَ من دِثارِكْ  

يا مُهرُ، يا فينيقُ، يا صَوَّانُ، يا عكّازةً ذهبيّةً للشُّهْبِ حينَ تخِبُّ متعبةً، ويا سيفَ الكلامِ، ‏وفضَّةَ الفجرِ المُبارَكِ والمُبارِكْ 

يا أيّها الجوّاب في الأسرارِ، والمرتاحُ في حجرِ الفلاسفةِ الذينَ مَضَوا إلى خيميائِهِم، ‏وقَضَوا... 

فيا "ليتَ الفتى حَجرٌ"... ليُقدَحَ من شَرارِكْ 

‏. 

لي منكَ -باسمِ الضّوءِ- آلاءٌ تسبِّحُ في مدارِكْ 

مُذْ عِشتُ في جلبابِكَ النّبويِّ عمرًا، وانتميتُ إلى مَزارِكْ 

طوَّفتُ فيكَ وما بلغتُ، الآنَ أسقطُ في دوارِكْ 

‏. 

منذُ الكتابةِ ما كتبتُ سوى لأحظى بانبهارِكْ 

والشّعرُ تكثيفٌ ولكنّي عجزتُ عن اختصارِكْ 

الياسمينةُ فيكَ أم شَوكُ المسافِرِ في قِفارِكْ؟ 

النّخلةُ الولهى على الشّبّاكِ!... أم إخباتُ غارِكْ؟ 

وحدائقُ الأسرارِ أم غاباتُكَ المتكشّفاتُ على ثمارِكْ 

‏. 

أخبرتني: الأيامُ دائرةٌ، وعند تمامِها سأراكِ، سوفَ تعودُ ذرّاتُ الكتابِ لحبرِها، والأمنياتُ ‏لصبرِها 

وكأنَّ سكّينًا... هنا... في صدرِها:‏‎ ‎‏ 

ويعودُ والِدُكِ المُؤجّلُ والِدًا 

‏- خذني إليكَ لألتقي ذاتي البعيدةَ في مراياها، أزاوِجُها، أُؤلِّفُ بينها وكأنّني ليلٌ تساوى في ‏العماءِ، وفي العماء؛ لأنَّ موتَكَ سوفَ يكسرُ في النّهارِ أشعّةَ التّأويلِ 

خُذني... سوفَ أدخلُ صورتي، وأدشّنُ الإنسانَ، حتّى لو تشظّى من سقوطِكَ فيه ميتًا، لا ‏زجاجَ أمامَ نافذةِ الأبوّةِ، لا مرايا، فالأبوةُ لا ترى شيئًا سوى أبنائِها... والآنَ خذني!... 

‏- أنجبي طفلًا، وأسميهِ الجمالَ، وأنتِ أجملُ منهُ، غطّي ليلهُ بالأحجياتِ، وكشّفيهِ على ‏النّجومِ، وأكمليني فيهِ، كي أمتدَّ فضّيًا على فجرِ اختيارِكْ  

‏. 

‏- في الغيبِ سبعُ سنابِلٍ... ضاعفنَ من وجعِ انتشارِكْ 

أبديّةٌ في قمحِكَ العالي وأرغفةٌ خُبِزنَ على جِمارِكْ 

‏. 

‏- الآنَ تبدو داخلي وكأنّني أمٌّ! 

وتبدو خارجي وأنا أُعِدُّكَ للذّهابِ... أو الإيابِ... إلى فرارِكْ 

الموتُ تجربةٌ لِغيبٍ مُدهِشٍ 

يتحول الآباء من شكلٍ الى شكلٍ، ومِن شكٍّ إلى شكٍّ، وتبقى في يقينِكَ واكتثارِكْ 

حدَّقتُ في مهوى الصّعودِ 

ولا قرارَ إلى قرارِكْ! 

‏. 

لي فيكَ ما لم يمتلكهُ ابنٌ... وما لم يقتسِمهُ... ولم يُشارِكْ  

والموتُ ليسَ سوى دُخانٍ، فلأغنّي للدّخانِ وللعروجِ 

الآنَ يأخذُني أسيرةَ حَربِهِ المعنى... وأكبو -مثلَ أفراسِ الغَرابَةِ- في عِثارِكْ 

لغةً سترتَكِبُ المُكُوسَ بلا يدينِ، وسوفَ تجمعُ شملَ خطوَتِها على دَرَجِ الجمارِكْ 

الآنَ يغمُرُها ضبابُكَ، مثلَ سَطرٍ أبيضٍ: كالمحوِ... 

كم هو طازجٌ لبنُ (العناياتِ الحثيثةِ) في المشافي 

أبيضٌ كالشّيبِ: لحيتُكَ المُضاءَةُ بالدّموعِ وبالخشوعِ وبالرّجوعِ 

وأبيضٌ كالقُطنِ يُحلَجُ في رياحِ قصائدِ الحلاجِ 

أبيضُ مثلُ قبّرةٍ تحنُّ إلى رثاءِ مسافةِ الأشجارِ 

أبيضُ مثل مَن هدموا ظلالَكَ واستظلّوا في حِجارِكْ 

‏. 

نوستالجيا... سفرٌ... تمهّل يا نشيدُ: الأرضُ نازِحةٌ ستؤويها المعارِكْ  

‏. 

‏"سنطيرُ في يومٍ من الأيامِ. إنَّ النّاسَ طيرٌ لا يطيرُ"... تأنسنت في شِعرِكَ العالي الحمائمُ، ‏ثمَّ حطَّت في شِعارِكْ 

‏. 

لا تترُكِ ابنتَكَ الوحيدةَ باحِثًا عن غيرِها في الخلدِ، والملكوتِ 

تمعِنُ في السّكوتِ... 

كأنّكَ المنفى! 

لماذا تُصبحُ الأوطانُ نادِرةً وحاسِرةً كموسيقى، معقّدةً كغاباتٍ قُبيلَ الليلِ، 

بعدَ الآنَ... لن نحكي عن الكلماتِ والكلماتِ أيضًا. 

مستهلّينَ الفصاحةَ بالوجومِ، ودهشةَ الألفاظِ بالتّسبيحِ، كم لغةً سيجتازُ المغولُ لنهرِ دجلةَ، ‏ثمَّ يلقونَ الكتُبْ 

والماءُ... كم سيغيضُ في الأرضين حتّى تستجيبَ لهُ السُّحُبْ 

‏.... 

مستحيلٌ أن يرنَّ الهاتفُ المحمولُ ثمَّ تكونَ أنتَ! 

ومستحيلٌ أن تبادِلني حنانَكَ بعدَ أن أجتازَ نحوَكَ جسرَ أوجاعي الطّويلَ إلى اغترابي 

مستحيلٌ أن يؤدّي شارعُ "الجاردنز" إليكَ، فقد ذهبتَ إلى "السّحابِ" * 

الآنَ لن ينجو اليمامُ من ارتباكِكَ في الغيومِ 

ولن يقولَ ليَ الغرابُ وقد وَصلتُ إلى التّخومِ: 

سندفِنُ الموتَ، استعِدّي... 

فَلتَعِشْ في الموتِ يا أبتي 

وخُذني في جِوارِكْ... 

‏. 

‏- الآنَ كُفّي عن عبورِكَ آلةَ الزَّمنِ العقيمةَ 

‏- يا أبي خُذني إليكَ... ولا تُعِنْ موتًا عليَّ...ولا تذرني في السّؤالِ... يُخيّلُ المعنى إليّ ولا ‏أراكَ 

وكنْ هنالِكَ لي كما قد كنتَ لي في هذهِ الدّنيا، ولا تتركْ جهاتِ الضّوءِ عاريةً... وأسبِغْ ‏من سِتارِكْ 

‏. 

‏- خذني لأبدأ رِحلةَ الموتِ المقدَّسِ... لفّني كفراشةٍ - أمٍّ... تُشرنِقُ بالحريرِ صغارَها ‏الدّيدانَ، ضمّدني فإني... قد تشقّق بالرّعودِ كتابُ أيّامي، ولم أمطِر سوى دمعي عليكَ ‏وغربتي، خذني لبيتِكَ... 

‏- آسفٌ 

‏- ماذا سأصنَعُ باعتذارِكْ؟ 

‏. 

‏"سنموتُ" قالَ الخلّبيُّ بداهةً،  

هي هجرةٌ للهِ، جسرٌ أزرقٌ للماوراءِ، معارِجٌ للعَرشِ، أُنسٌ، عُزلةٌ، قمرٌ تشقّقَ عن سِوارِكْ 

أوقفتني كالنّفّريّةِ في غموضِكَ واختبارِكْ 

فرأيتُ نفسي أنقُضُ الذّكرى 

وأحرسُ بابَ غارِكْ 

لا رَيبَ في أنَّ (المدينةَ) أصبحت نهرًا... ويجري... يا أبي يجري... 

وأنَّ الموتَ يرفَعُ شاهدينِ 

وليسَ يُنصَرُ كانتِصارِكْ 

‏. 

من غيمة عطشى وقد هبطَت لِتشرَبَ من جِرارِكْ 

ريحٌ طريقُ العشبِ، فلنركض حفاةً -يا أميري- في حِصارِكْ 

ولتتّخِذ لهبوبِكَ العالي سراجًا، ليسَ يُطفَأُ، عزَّ سَرجٌ سابِحٌ، هذا زمانُ وسائطِ النّقلِ ‏الحديثةِ، والتّذاكِرِ، وجبةِ الباصِ السّريعِ، بنكهةِ المترو، وأنفاقٍ تمرُّ من النّساءِ من ‏الرّجالِ، وتثقبُ الأجسادَ مثلَ رصاصةٍ عجلى... 

ببطءٍ يا حبيبي... فالمرورُ من الحياةِ إلى حياتِكَ، يُسقطُ الكلماتِ في الهوّاتِ: ثَمَّ صدىً ‏جنونيٌّ يكثِّرُني‎ ‎‏ 

ويُنجِبُني مِرارًا في مِراركْ 

‏. 

فككّتَ لي أحزانَكَ المستشزِراتِ كعروةٍ وُثقى، وأهملتَ الغِناءَ، ولذتَ بالباقي... وعدتُ إلى ‏ديارِكْ 

وحدي... ولكن... كانَ في روعي بأنّيَ أنت، أبحثُ فيكَ عن معنىً حلوليٍّ لغيمتنا ‏الصّغيرةِ: كثّفتكَ الشّمسُ، أنتَ الشّمسُ، ثمَّ هطلتَ ماءً فوق طينٍ أخضرٍ وجبلتني، حتّى ‏استويتُ وأنتَ ترحلُ... ثَمَّ آثارٌ عليَّ من النّدوبِ وأنتَ تُقفلُ طينتي، وتزرِّرُ القمصانَ ‏للأبناءِ، أبناءِ الحياةِ، وبعدَ ذلِكَ تستجيبُ لرحلةِ الوادي المُقدّسِ، تتركُ الأسفارَ والأمصارَ ‏والخطواتِ و...النّعلينِ، ثمَّ تمورُ بالأسماءِ... والدّمعُ الجماليُّ القليلُ المرُّ... لا يلوي... ‏يفيضُ على اصطبارِكْ 

‏. 

وأخافُ أن يأتي الظّلامُ وقد حُجِبتَ إلى منارِكْ 

أنتَ الخفيُّ المطمئنُّ... رُئيتَ في وَضَحِ استتارِكْ 

‏. 

ماذا تبقّى منكَ إلّا كلّ شيءٍ! 

كلُّ شيءٍ: عطرُكَ الأبديّ، ساعتُكَ الأوميغا، نسخةُ الخطِّ المقدّس، كنزةُ الصّوفِ الخفيفةُ، ‏مشطُكَ المكسورُ، ميزانٌ يقيسُ الطّولَ، شرفتُكَ الوحيدةُ، نشرةُ الأخبارِ، أحزِمةٌ من الجِلدِ ‏المطهّمِ، رقصَةُ الأفعى على عُلبِ الدّواءِ، المستقرّ من الندى في الشّايِ، تبكي حينما ‏تشتاقُ، تشخَصُ في الجمالِ الأخرويّ، بشربةِ الحوضِ الذي لا يظمأُ الورّادُ مِنهُ، ‏وبالبياضِ يفيضُ من نَهرِ اللبنْ  

وبثوبِكَ الفضفاضِ منعتِقًا كظلٍّ ما من الأعضاءِ والفيزياءِ والسَّيرِ المُقنَّنِ والكَفَنْ 

ماذا تبقّى؟ 

‏ الزَّهرُ والآياتُ حينَ تزيحُ غرّتَكَ القليلةَ، تحملُ المنديلَ، تمسَحُ ما تفصّدَ من بخورٍ، خفُّكَ ‏الشّتويُّ، حلوى الخوخِ، قمصانُ الخروجِ، وسادةُ المتهجّدينَ، النّقشبنديُّ، ابن سينا، ظِلُّ ‏دمعتِكَ القريبةِ، عبقريّتُكَ، الرّياضيّاتُ، خبزُ التّوستِ، قبَّرةٌ على شَجَرِ المدارِسِ، جمرةُ ‏الذِّكرى، فناؤُكَ في السّجودِ، البُحتُريُّ، الحزنُ من توديعِ جدّي قبلَ عشرين احتمالًا، سورةُ ‏الإنسانِ، أحلامُ الفتى -المدعوّ جوعًا: "آخرَ العنقودِ"- بالعنبِ الذي في جنّةِ الآلاءِ، إيماءُ ‏السّنونو "إنَّ في عينيكَ بحرًا"، صوتُكَ المحنيُّ من أثرِ الخشوعِ، الابتسامةُ، قوسُ خدِّكَ، ‏ابنُ رشدٍ/ الغزاليُّ: (الحقيقةُ ما أراهُ وما يراهُ الآخرونَ معًا)، رجوعُكَ من صلاةِ الفجرِ ‏سربًا من قطاةٍ، سِرُّكَ المخبوءُ عندَ اللهِ، سَيرُكَ في الحوائِجِ، سبرُكَ المغزى، سريرُكَ لا ‏ينامُ، سرورُكَ الآنيّ، سروتُكَ الطويلةُ، سُرَّةُ الكونِ التي مَخَضَتكَ، أسوارُ الأبوّةِ والبنوَّةِ، ‏أنفُكَ الصّلبُ النبيلُ، تلألؤ الأسنانِ مِثلَ (بناتِ نعشٍ)، بؤبؤ الأطفالِ في عينيكَ، جبهتُكَ ‏العريضةُ، شعرُكَ المعقوصُ، نظرتُكَ الشّريدةُ كالمنافي، حكمةُ المتأمّلينَ البيتَ والأوطانَ، ‏رِمشٌ فوقَ خدِّ الأمنيةْ 

كشفُ المُخبَّأ في الرّؤى والأقبيةْ 

‏. 

لم يبقَ إلّا نَوْرُ طيفٍ من جهاتِ الغيبِ يشبهُ جدّتي البيضاءَ، مِسبحةٌ، رؤىً كالخيلِ تصهَلُ ‏‏(ليس يسمَعُها سواكَ، ولا يراها غير من فهِموا معادَلةَ الشّعاعِ، وعمرُكَ النّسبيُّ يرحَلُ في ‏المؤبَّدِ منهُ، ماذا سوفَ يبقى؟ 

كلُّ شيءٍ!...  

نزفُ خطوتِكَ الوئيدةِ، تحفِرُ القطَراتِ فوقَ الدّربِ: آهٍ يا غريبُ... بذارُكَ اللاتي نثرتَ ‏تمدّدت في الأرضِ إذ واروكَ، توشِكُ أن تعودَ إليّ في شكلِ اعترافٍ أخضرٍ، ويداكَ ‏تنتشرانِ... تُصبِحُ غابةً، وأنا أضيعُ كأنّني ليلى، بثوبٍ أحمرٍ، كالحبِّ، أو كالدّمِّ، أشبِهُ ‏جدّتي في قصّةِ الذّئبِ الذي يذرُ الحساءَ، ويأكلُ الإنسانَ، إنَّ الذّئبَ عارٍ في الحياةِ، وإنّهُ ‏في الموتِ مكتمِلُ الفِراءِ، وليسَ يشعُرُ بالصقيعِ وقد دنا للقبرِ مثلي... إنّني بردانَةٌ؛ 

خُذني!... 

أنافِحُ عن ذِمارِكْ 

‏. 

الآنَ من حُزنِ الذينَ مَضَوا، تعودُ إلى التّولّهِ والبشارةِ في الرّؤى... 

المخبوءُ تعرِفُهُ؛ لذلكَ قلتَ لي انتهَتِ الطّريقُ، وَصلتُ يا إيمانُ! 

‏- لم تُخلَق طريقُكَ للوصولِ، وإنّما للسّيرِ... 

‏- لم أقُلِ: "الطّريق" وإنّما قلتُ: "الخطى" ومشيتُ...! 

‏- "جِيرُكَ" كانَ ينقُصُ، كنتَ كالطّبشورِ، كالحجرِ الرسوبيِّ النّحيلِ، كصولَجانِ الكِلسِ... ‏تأكلُكَ الكتابةُ فوقَ سطرِ الأرضِ، عمّرتَ الحياةَ، نفضتَ عنكَ غثاءَها، بيّضتَ مسودَّاتِها 

وأجبتَ في يومِ القيامةِ ما تعطَّلَ من عِشارِكْ! 

‏. 

لم يبقَ إلّا كلُّ شيءٍ مِنكَ: بشْرتُكَ الخليطةُ بينَ ماءِ الوردِ والصَّلصالِ، مشيُكَ في الرّحيقِ: ‏أكنتَ بستانًا؟ شممتُكَ من بعيدٍ، من ظلامٍ ثالثٍ في الرّحمِ، يومَ أضأتَ لي أفُقَ العناصرِ، ‏واستويتَ، وقلتَ كوني: وردةً، لكنّني... 

‏. 

في الحلمِ كنتُ رأيتُ صمتَكَ، واستفقتُ على حِوارِكْ 

تأويلُ رؤيايَ ارتباكٌ بينَ خَلقِكَ واحتِضارِكْ 

‏. 

ماذا تبقّى منكَ إلّا كلّ شيءٍ: الوسامةُ، صنعةُ الكلماتِ، مائدةُ المُريدينَ، الخلاءُ/ الجُبُّ، ‏جُرحٌ مُزهِرٌ بالشّوكِ كالصّبّارِ، دربٌ صاعدٌ ملكوتَكَ السّريّ، لُقيا أصفيائِكَ في الخلودِ، ‏ثيابُكَ المُلقاةُ فوقَ الحبلِ تثقِلهُ الأناقةُ ثمَّ يحمِلُ سرّها الصّوفيَّ، خوفٌ من مخالَطَةِ الحياةِ، ‏جهازُ رَوْزِ الضّغطِ، أهدابٌ تطولُ إلى الجِهاتِ كرفَّةِ الشّهداءِ، أحوالُ البلادِ: رمادُها في ‏صدرِكَ المجبولِ من طينِ الحرائقِ، ألحصى في الكليةِ اليُسرى، التّسابيحُ الطّويلةُ مثلَ ‏حَبلٍ شاهقِ، درجٌ تراهُ ولا يُرى، أقدامُ أمِّكَ وهي تصعدُ فيكَ سدرتَها، عروجُ الرؤيَويِّ ‏من الشّريفِ إلى الشّريفِ، مُنقَّحِ الأصلابِ حتّى صاغَ مُعجِزَةَ ابتكارِكْ 

‏. 

من أينَ يُنسَجُ خيطُ فجرِكَ؟ من طِوالِكَ أم قِصارِكْ؟ 

الأمهاتُ يغرنَ منكَ؛ فما وَلدنَ على غرِارِكْ 

ما زلتَ يا قمرَ المجرَّةِ لا تراوِحُ عن مسارِكْ 

ها أنتَ مشتبكٌ –كقطبٍ- بالحياةِ، ولا دليلَ على ابتسارِكْ 

‏. 

ماذا تبقّى منكَ إلّا كلّ شيءٍ... دورةُ الماءِ: 

الشّموسُ السّاطِعاتُ/ النّهرُ يصعدُ من بخارِكْ 

ما زلتَ تجري كالجلالِ، ولا مصبَّ لجُلَّنارِكْ 

‏. 

يا أكبرَ الآباءِ في أسطورةِ الفينيقِ 

عُدْ شَجرًا وأجنحةً وأعشاشًا وفيضَ كواكبٍ... نهرًا... فَرَاشًا... زرقةً... 

صحراءَ عُد 

لو شئتَ 

لكنْ عُدْ 

كفاتِحةِ الحياةِ 

إلى صِغارِكْ 

‏- - - - - - - - -  

‏(*) مقبرةُ سحاب، التي دُفنَ فيها والدي.