الملك عبدالله الأوَّل ابن الحسين ‏ الأديب الشاعر

د. زياد الزعبي

أستاذ النقد الأدبي في جامعة اليرموك وجامعة السلطان قابوس ‏

 

 

كان الملك عبدالله الأوّل ابن الحسين الأديب الشاعر، وباعثَ الحركة الأدبيّة والشعريّة في ‏الأردن، ومحورها، ومحرِّكها، حيث أثرى الحركة الأدبيّة والشعريّة من خلال إبداعاته ‏ومساهماته الشعريّة والنثريّة، ومن جانب آخر كان له دورٌ مهمٌّ في إذكاء عجلة الحراك ‏الأدبيّ الثقافيّ، ورعايته، من خلال جمع رموزه من حوله وتشجيعهم وتكريمهم. فكان ‏يحفظ المختار من أشعار العرب ونثرهم، وكان راوية للشِّعر من الطراز الأوَّل. وقد ترك لنا ‏الملك ديوانًا شعريًّا يقع في جزأين ما زال مخطوطًا، ولم يُنشر منه سوى مختارات.‏

 

 

منذ أوقد الشّريف الحسين بن علي مشعل الثورة العربية الكبرى معلنًا بدْء انطلاقة جديدة في ‏تاريخ الأمة العربية؛ بدْء انطلاقة تحريرها من القيود التي كبّلتها قرونًا طويلة، اندفع أبناء ‏الشريف الهاشمي حاملين مشاعل الثورة ومبادئها إلى بقاع الوطن العربي، منادين في ‏الناس: أنْ حيّ على الحرية والوحدة. منذ ذلك الوقت اقترنت الثورة بالكلمة، وكان عبدالله ‏الأوّل ابن الحسين فارس الثورة وفارس الكلمة، خاض غمارهما، ورفع لواءهما، فالتفّ ‏حوله فرسان العرب وشعراؤهم وعلماؤهم حاملين في جوانحهم حلم الثورة الكبرى ‏ومبادئها، وأملهم في أن تكون عمّان نقطة انطلاق جديدة للمستقبل العربي الذي كان يواجه، ‏وما زال، حقد الغرب وبربريّته، وقد حملت عمّان آنذاك حلمهم وأملهم -وما زالت تحمله- ‏وترفع رايته...‏

كان الملك عبدالله الأوّل الأديب الشاعر باعث الحركة الأدبية والشعرية في الأردن ‏ومحورها ومحرِّكها. فقد كان رجلًا مطلعًا على التراث العربي، عالمًا به، حافظًا له، محبًّا ‏للأدب والأدباء، وراعيًا لهم... فاجتمع إليه من شعراء العربية وأدبائها عدد من كبارهم ‏ومشاهيرهم، منهم: الشيخ فؤاد الخطيب شاعر الثورة العربية الكبرى، وخير الدين الزركلي، ‏وعبدالمحسن الكاظمي، والأمير عادل أرسلان، وإسعاف النشاشيبي، ومحمد علي ‏الحوماني، وسعيد الكرمي، وتيسير ظبيان، ومصطفى وهبي التل، وعبدالمنعم الرفاعي، ‏وحسني زيد الكيلاني... وغيرهم. وقد شكَّل هذا الجمع من الشعراء والأدباء، الذي رعاه ‏الملك عبدالله الأوَّل، نواة الحركة الأدبية والثقافية في الأردن. ومن هنا فإنَّ الحديث عن ‏الملك عبدالله الأوَّل أديبًا وشاعرًا يجب أن يتناول بالضرورة جانبين:‏

الأوَّل: مشاركة الملك فعليًّا في إثراء الحركة الأدبيّة والشعريّة من خلال إبداعاته ‏ومساهماته الشعريّة والنثريّة.‏

والثاني: دور الملك في بعث الحركة الأدبيّة الثقافيّة ورعايتها من خلال جمع رموزها من ‏حوله وتشجيعهم وتكريمهم.‏

ففي الجانب الأوَّل فإنَّ المطّلع على آثار عبدالله الأوَّل ابن الحسين يجد نفسه أمام رجل ‏يمتلك مقدرة أدبية فائقة، يُسندها امتلاكه لأدواتها، وخبرته بأصولها، وقد كانت هذه المقدرة ‏مثيرة لدهشة كثيرين ممّن اتصلوا به، وحضروا مجالسه الأدبية، وقد عبَّر الأستاذ تيسير ‏ظبيان عن هذا الأمر في كتابه "الملك عبدالله كما عرفته" بقوله: "لم تكتحل عيناي في جميع ‏سني حياتي بمشاهدة مجلس أجل ّ شأنًا، وأشدّ هيبة، وأرفع قدرًا... وأحَبّ إلى القلب من تلك ‏المجالس الخاصة التي كانت تعقد من حين لآخر في قصر "رغدان" أو "بسمان" أو ‏‏"المشتى" في الشونة، برعاية الملك عبدالله بن الحسين، لِما كان يدور فيها من مساجلات ‏ومطارحات أدبية، ومناقشات دينية وعلمية، وحوار سياسي وذاكرة قوية، وبما حباه الله به ‏من طلاقة في الحديث، ورشاقة في الأسلوب، وسرعة في البديهية... وبما كان يتمتع به من ‏اطّلاع واسع ودراسات خاصة، واستظهار لآي الذّكر الحكيم والأحاديث الشريفة، وحفظ ‏المختار من أشعار العرب ونثرهم، ووعي لأخبارهم، يضفي على تلك المجالس جوًّا من ‏الوقار والجلال... وكان الملك راوية للشِّعر من الطراز الأوَّل، ولا سيّما الشعر القديم، ‏وحين كنّا نستمع إليه نحسُّ كأنَّنا نستمع إلى روايات الأصمعي أو أبي عبيدة... وطالما وقفنا ‏مشدوهين حيال بعض القصائد والأبيات التي كنّا نسمعها لأوّل مرّة...".‏

وثقافة الملك عبدالله الأوّل التراثيّة العميقة الواسعة التي يتحدَّث عنها ظبيان تتبدّى بصورة ‏جليّة في آثاره الشعرية والنثرية، فقد ترك لنا الملك ديوانًا شعريًّا يقع في جزأين ما زال ‏مخطوطًا، ولم يُنشر منه سوى مختارات ظهرت في "الآثار الكاملة للملك عبدالله بن ‏الحسين" وبعض مقتطفات أو مقتطعات أوردها الباحثون الذي تحدَّثوا عن عبدالله الأوّل ابن ‏الحسين شاعرًا، أو أولئك الذين درسوا الحركة الأدبيّة في الأردن.‏

ولعلّ أهم ما ميَّز شعر الملك عبدالله الأوّل أنه يستند بصورة أساسية إلى التراث الشعري ‏القديم، فهو يمتح من معينه، ويترسّم خطاه من خلال معارضته للشعراء القدماء مرّة، ‏وتشطير قصائدهم أخرى، ومحاكاتهم في موضوعاتهم وصياغاتهم وصورهم ثالثة. ففي ‏أشعار الملك المخطوطة يجد القارئ معارضات وتشطيرات لقصائد شعرية قديمة مثل ‏معارضات لبعض قصائد الشريف الرضي، وجران العود، وعنترة، وبشار بن برد... ‏وغيرهم.‏

غير أنّنا نجد في الديوان إلى جانب هذا النوع من القصائد المُحاكية قصائد نظمها جلالته ‏تعبيرًا عن الأمة العربية وواقعها، وإنْ كان قد حافَظَ فيها على الأسلوب العربي التقليدي ‏الرصين. ومن هذه القصائد القصيدة المعنونة "ولو أنَّ قومي أنطقتني رماحهم" والتي قدَّم ‏لها جلالته بالقول: "حكاية الحال في الأوطان العربية ولا حاجة لشرحها"، وفيها يعبِّر عن ‏إحساسه بأنَّ اختلاف الأمة هو سبب معاناتها، وأنها بحاجة إلى أن تتوحّد تحت راية واحدة ‏وخلف قائد ثائر يسير بها في طريق الخلاص، يقول:‏

 

لقد قال قبلي شاعر العرب مرّة-         وقد رجعت عنه جموع أذلة

‏"ولو أنَّ قومي أنطقتني رماحهم-         لقلتُ ولكنّ الرّماح أجرت"‏

لئن كان أقوامًا إذا جدّ جدهم-         يرون خلاف الرأي في كلّ مرّةّ

ألا ليت شعري هل أرى القوم حزمًا-        ينادون: يا للثارات في كل تلعة

يقودهم شهمّ همام مجرب-                تليه رجال كالجبال استقلت

كغالب أو كابن لعون محمّد-              ملوك البطاح السابقين الأجلّة

‏...............................................‏

وسيروا على نهج الحسين إمامكم-              فإن أنتم سرتم فليس بميت

 

وإضافة إلى مثل هذه الأشعار التي تعبِّر عن واقع الأمة وتمزقها، نجد أشعارًا تتصل ‏بالجانب الديني الذي يرتبط عند الملك عبدالله بصورة متميزة بتجربة ذاتيّة، وقد تجلّى هذا ‏في ما يمكن أن يسمّى "الحجازيّات" والتي تقابل بصورة مقصودة واعية "حجازيّات ‏الشريف الرضي" الذي أُعجب الملك بشعره، ومن هذه القصائد قصيدة بعنوان "دار النبي ‏إلى نفسي محبّته" يقول فيها جلالة الملك:‏

 

كلّ البلاد يباب بعدكم أبدًا-          وكلّ أرض سواكم أرض مجدوب

دار النبي إلى نفسي محببة-          وفي اتصالي بها عزمي ومطلوبي

‏          هو الرسول الذي لولاه ما ذكرت-      للعرب مأثرة في يوم تضريب

هي البلاد التي أس الأساس بها-      أصل الشريعة أصل المجد والطيب

 

ربَّما تكون الظاهرة الأكثر بروزًا في نشاط الملك عبدالله الشّعري هي مجالسه الشعريّة التي ‏كانت تضمُّ لفيفًا من شعراء العربية من الأردن والبلاد العربية. وقد كان أولئك الشعراء ‏يجتمعون إلى الملك الشاعر ليستمعوا إليه، وليساجلهم، ويعارضهم، ويناقشهم في مسائل ‏الشعر والأدب واللغة.‏

وقد نقل لنا بعض الأدباء والشعراء الذين شاركوا في تلك المجالس صورًا حيّة عمّا كان ‏يدور فيها. فقد سجَّل الشيخ حمزة العربي، إمام الملك، قدرًا كبيرًا ممّا كان يدور في تلك ‏المجالس في ديوانه المخطوط "الدّر النضيد في نحور الغيد"، وفي مخطوط آخر بعنوان ‏‏"الغوريات". ونجد حديثًا عن هذه المجالس الأدبية في كتاب تيسير ظبيان "الملك عبدالله كما ‏عرفته"، كما أشار المرحوم عبدالمنعم الرفاعي إليها غير مرّة في أحاديثه وكتاباته. ‏

كان من أبرز الذين شاركوا في مجالس الملك الشعريّة الشيخ فؤاد الخطيب، ومصطفى ‏وهبي التل، وعبدالمنعم الرفاعي، والشيخ حمزة العربي، وشكري شعشاعة، وفخري ‏البارودي، وحسني زيد الكيلاني، وغيرهم. ومن أبرز المعارضات التي شهدتها تلك ‏المجالس تلك المعارضة التي أثارتها قصيدة الشيخ فؤاد الخطيب التي نشرتها صحيفة ‏‏"الجزيرة" تحت عنوان "القلم الشهيد"، ويقول فيها:‏

 

خذوا بيدي فالدهر جاشت غواربه-             وأنبأ عن آتيه بالشّر ذاهبه

‏ فقد مشت الأوجال في كل مهجة-        من القوم حتى غص بالماء شاربه

‏.........................................................‏

فقف يا فتى البطحاء في الشرق باكيًا-          على أدب قامت عليه نواديه

على بلد لانت فتاة رجاله-                    وماجت بتيّار الخطوب جوانبه

 

قرأ الملك عبدالله قصيدة الشيخ الخطيب فعارضها بقصيدة يؤيِّده فيها ويشدّ أزره، وبخاصة ‏أنَّ الخطيب كان يعرِّض برئيس الوزراء توفيق أبوالهدى، وممّا جاء في قصيدة الملك:‏

 

نحيي يراعًا من أديب مفوّه-      وفي الشعر بحر قد تسامت غواربه

وللآل فخر وأن يكون لسانهم-          فؤاد وجاء الخصم عمدًا يواثبه

يذود عن الحق المُضاع ولا يني-        له قلم كالسيف مَن ذا يضاربه

ألست الذي حيّا الشريف بمكة-          وحيّيت بيت الله كنت تخاطبه

وللعلم المرفوع جئت محيّا-             وحيّيت جيشًا كنت أنت تجاذبه

فبشراك قد لبّاك قوم عرفتهم-         وجرّبتهم والخصم جاشت كتائبه

 

وفي أبيات الملك هذه إشارة إلى قصيدة الشيخ المشهورة:‏

 

حيّ الشريف وحيّ البيت والحرما-     وانهض فمثلك يرعى العهد والذّمما

 

وكان قد نشر مثل هذه المعارضات الشعرية على صفحات الصحف داعيًا لكثير من الأدباء ‏والشعراء للمشاركة فيها، فقد كان ظهور مثل هذه القصائد يشكِّل دافعًا إلى مُحاكاتها ‏ومُعارضتها والكتابة عنها، وهذا ما يستطيع القارئ أن يلمسه بصورة واضحة حين يعود ‏لتتبُّع الصحف الصادرة آنذاك مثل صحيفة "الأردن" و"الجزيرة"... على سبيل المثال.‏

لقد عمل الملك عبدالله الأوَّل ابن الحسين على بعث الحركة الثقافيّة في الأردن وتنشيطها ‏وذلك من خلال مجموعة من الأعمال التي قام بها والتي بدأت منذ وصوله إلى معان، فقد ‏صدرت هناك أوَّل صحيفة في الأردن وهي "الحق يعلو"، وتوالت بعدها صحف عديدة في ‏الصدور في عمّان ساهمت في نشر الوعي والمعرفة، وقد شارك الملك عبدالله نفسه في ‏الكتابة في هذه الصّحف بشعره ومقالاته التوجيهيّة. ولعلَّ أهم صحيفة عملت على رفد ‏الحركة الأدبية في الأردن في الأربعينات هي "الجزيرة" التي انتقلت من دمشق إلى عمّان ‏عام 1939م بناءً على رغبة الملك عبدالله الأوَّل ودعوته لصاحب "الجزيرة" تيسير ظبيان ‏لإصدارها في عمّان. وعلى صفحات "الجزيرة" ظهرت أهم أعمال الملك عبدالله الأوَّل ‏وهي "من أنا" و"الآمالي السياسية" إضافة إلى مشاركته العلمية في رفد "الجزيرة" ببعض ‏شعره ومقالاته التي تراوحت بين التَّوجيه والنَّقد الأدبي أو تشجيع الأدباء وتكريمهم... وقد ‏ترك هذا كلّه أثرًا بارزًا على مسيرة الأدب وكثير من الأدباء في الأردن.‏

وأودُّ هنا أن أعيد نشر مقابلة صحفيّة أجرتها صحيفة "الكرمل" مع جلالة الملك عبدالله ‏الأوَّل حين زار حيفا في كانون الأول عام 1921م. وقد نُشرت هذه المقابلة في عدد ‏‏"الكرمل" الصادر في حيفا في 31 كانون الأول 1921م. في هذه المقابلة الوثيقة سيقف ‏القارئ على مواقف الملك من قضايا الأمة المصيرية، ورؤيته المتميزة لطبيعة لقاء الأقطار ‏في وحدة تجمعها، وسيرى أيضًا عمق المحبّة والثقة التي يكنّها العرب للبيت الهاشمي، كما ‏سيتبدى للقارئ كذلك عمق التجربة والخبرة والثقافة التي يصدر عنها الملك عبدالله الأوَّل ‏في طرحه لتصوُّراته وأفكاره حول القضايا المتعلقة بالأمة وتاريخها ومستقبلها.‏

 

المُقابَلَة

استأذنّا بمقابلة سموّ الأمير "الملك" عبدالله الذي ذكرنا خبر زيارته حيفا في أعداد سابقة، ‏فضرب لنا ميعادًا الساعة التاسعة من يوم الجمعة الفائت (30 كانون الأول 1921م). ‏ذهبنا لزيارته مع حضرة الأستاذ والزعيم الكبير الشيخ كامل أفندي القصاب، فوجدنا الأمير ‏جالسًا في صدر ردهة استقبال مضيفيه الفسيحة أنجال مصطفى باشا الخليل، ولم نحتج إلى ‏الانتظار ولا إلى مراسم، بل دخلنا عليه كما كان يدخل الناس على الخلفاء الراشدين ‏الديمقراطيين، فوقف وتقدَّم خطوات لاستقبالنا، وبعد التحية العربية والمصافحة أمر لنا ‏بالجلوس، فتأمّلناه برهة وكان لابسًا ثوبًا عسكريًّا.‏

وصف الأمير: هو ربعة القامة، ممتلئ الجسم، أشقر اللون، ذو لحية صغيرة، سمح الوجه ‏أنيسه، عريض الجبهة، عيناه واسعتان ترسلان نورًا يخرق صدر مخاطبة، ويأخذ بمجامع ‏القلب، وعلائم الصرامة والشجاعة تبدو في أساير وجهه.‏

حديث الأمير: فتلطَّف وأعرب عن ثقته بهذه الجريدة، وتكلّم في موقف الصّحافة ‏والصحافيين بلهجة عربية فصيحة، ولسان طلق، كأنه مخلوق للخطابة، وقال: "إنَّ الصّحف ‏إمّا أن تجلب النعمة أو النقمة على الشّعب، فمسؤولية الصحافي وواجبه عظيمان"، وبعد أن ‏بحث في ذلك بحثًا إجماليًّا قلنا ونحن نتفرّس في طلعته البهيّة، ونتلقّى درره الشخصية: إنَّ ‏آمالنا، يا سمو الأمير، منوطة بكم، وما أشبه الليلة بالبارحة، فالأمة اليوم من حيث التفرقة ‏هي كما كانت في عهد جدّكم الكريم الذي جمع كلمتها ووضع لها أسس العمل لنيل مجدها، ‏فبني خلفاؤه وأسلافكم عليه، ووصلوا إلى ما وصلوا إليه في عهد دولتي الأمويين ‏والعباسيين من السؤدد، والمجد، والعلم، والمدينة، واليوم ينتظر العالم العربي أن تنسجوا ‏على ذلك المنوال، ولتعيدوا للأمة تاريخها المجيد.‏

‏ فقال: "حقًا ما تقولون، ولكنّ الأمة في عهد النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، وعهد ‏الخلفاء الراشدين كانت أمتن ممّا هي عليه اليوم، ولم تكن دول ذلك الزمن في درجة دول ‏اليوم من الرّقي والاستعداد. لا أقول هذا لأضعف العزائم، بل بالعكس لأبيّن بأنّ الموقف ‏يتطلّب أخلاقًا ومجهودات على نسبة التفاضل بين أمس واليوم". وتكلم كثيرًا في ضرورة ‏العناية بتربية الأخلاق ومعرفة التاريخ اللذين بدونهما لا يمكن لأمة أن تنهض.‏

وأتى سموّه على لمحة من تاريخ الأمويين والعباسيين، دلّتنا على وقوفه التام على تاريخ ‏أمته المجيد. وقال: "إنَّ النهضة العربية السابقة كان للعرب النصارى اليد الطولى فيها، ‏فضلًا عن أنهم كانوا من أكبر أنصار النبي العربي، صلى الله عليه وسلم، وزد على ذلك ‏فلهم أيادي بيضاء على النهضة العربية العصرية، وخصوصًا نهضة اللغة التي هي أساس ‏النهضة الاجتماعية، ولذلك فهم عرب على رغم المكابرين، وشركاء إخوانهم المسلمين في ‏السراء والضراء والمجد والذّلة، رضوا أم أبوا". وسموه يعتقد أنَّ العرب لا يمكن أن يكون ‏لهم كيان اجتماعي ما لم يتفق مسلموهم ومسيحيوهم ويتعانوا على خدمة شؤونهم وينال كلّ ‏فريق منهم قسطه العادل من الحقوق، لأنّ الحق على قدر الواجب.‏

متى شعر بضرورة الانقلاب؟

ثم تفضَّل وقال: إنه بعد أن درس سيرة النبي الطيبة وتاريخ الخلفاء الراشدين، ودول العرب ‏المختلفة وأحوالهم في عهد الأتراك حتى قبل الحرب، يوم كانت الحكومة العثمانية تنقل ‏الأشراف إلى الأستانة وتقلدهم وظائف القيام بالدعوات الخيرية للسلاطين؛ شعر من ذلك ‏الحسين بضرورة إحداث انقلاب وتحرير العرب، وقد كانت نفسه مطمئنة إلى حال العرب ‏الروحية، في كل مدة الحرب، وما أعتقد أنهم سينقسمون على بعضهم بعد الهدنة... بل كان ‏يعتقد أنهم يبقون متضامنين إلى أن ينالوا استقلالهم ويؤمنوه، ومن بعد ذلك يتفقون فيما ‏بينهم على إنالة كل مقاطعة ما يوافق استعدادها وأحوالها الروحية من الحقوق والاستقلال ‏الداخلي.‏

الملكية والإمارة: قال الأمير إنَّ أمقَتَ شيء عنده ألقاب الملوكية والإمارة، فالأمة حصلت ‏على ملك في الحجاز، وهذا يكفي من حيث الاسم والتقليد، وهو يرغب أن يكون الأمر في ‏الأمة للزعامة، وأنْ تقلِّد أمورها إلى الزعيم الكفؤ، وإذا تعب أسندت الزعامة إلى غيره إلى ‏أن تبلغ الزّعامة غايتها الرئيسة، وتعرف معنى الجامعة، وتدرك قيمة الوحدة، ومن ثمّ ‏تبتدئ تنظر كلّ مقاطعة في حاجاتها الخصوصية مع مراعاة المصلحة العمومية. وتكلم ‏الأمير مفصّلًا في هذا الموضوع، ممّا يدلّ على خبرته الاجتماعية، واستعداده الأعظم كثيرًا ‏من المركز الذي يشغله.‏

مِن غيرنا: سمعنا أنه قال لغيرنا في حديث عن التهمة التي وُجِّهت إليه بشأن العصابة التي ‏تعرّضت للجنرال "غورو"، فقال: أنا أكبر من أن أقوم بعمل كهذا، وخصوصًا لأني عالم ‏بأنَّ فرنسا هي التي أرسلت الجنرال إلى سوريا، وليس الجنرال هو الذي جاء بفرنسا إليها، ‏فإذا قُتل الجنرال فإنَّ فرنسا ترسل بدلًا منه.‏

وقد سمعنا من كثيرين من العقلاء الذين تشرّفوا بمقابلته أنهم أعجبوا بذكائه وصراحته، ‏وسعة معارفه، وعلوّ جنابه، فالأمير بهذه الزيارة إلى فلسطين عرفنا بأنه رجل الزّعامة ‏الذي تتطلبه الأمة في البلاد العربية هذه، غير أنه يحتاج إلى أعوان مخلصين ذوي حنكة ‏يعملون للمصلحة العموميّة المجرَّدة عن كلّ غرض شخصي، وإذا أرادت الأمة أن تفلح ‏فلتلتفّ حول الأمير، ولتبعد عنها كل مُنافق ونمّام، ونفعي، فالأمم في بداية تجديدها يجب ‏أن تحافظ على مكانة الأخلاق وشرف المبادئ، وعلوّ الهمم، وسعة المدارك، وأن لا تسلّم ‏أمورها إلى طلّاب الوظائف والألقاب، ومحبّي الظهور وروّاد المنافع الخاصة...‏

هذا ما بقي عالقًا في الذّهن من حديث سمو الأمير، وهو على ما نعتقد قريب جدًا ممّا قاله.‏

‏***‏

هذا نص من عشرات النصوص التي ما زالت مفرّقة في الصحف والمجلات، والتي ينبغي ‏أن تكون في صلب اهتمامات الباحثين المهتمين بتاريخ الأردن، والمحتفلين بمئويّته الأولى. ‏