شعر التروبادور الأوروبي وخصائصه

د. إيهاب محمد زاهر ‏

مدرِّس في قسم التاريخ/ الجامعة الأردنيّة

 

 

في القرون الوسطى، وتحديدًا في الفترة من أواخر القرن الحادي عشر حتى أواخر ‏القرن الثالث عشر، انتشر شعر التروبادور، وكان يُطلق على الشاعر أو الموسيقي ‏الذي ينشد أشعارًا مغنّاة من تأليفه أمام الملوك والسلاطين في أوروبا. وشعراء ‏التروبادور كانوا فنانين عشاق، تغنّوا بالحب والمروءة، يعترفون من خلال أشعارهم ‏بالهيام، ويرسلون عبارات الشوق والإجلال إلى أحبّتهم.‏

 

يُعتبر شعر التروبادور واحدًا من أهم المواضيع التي يبحثها دارسو تاريخ الأدب في ‏العصر الحديث، فهو المصدر الأساسي لمعرفة الشعر الأوربي القديم، لذلك نجد ‏المهتمين بدراسات الشعر الغنائي الأوروبي يسلّطون الضوء على معنى كلمة ‏التروبادور وأصلها. ‏

كلمة التروبادور مأخوذة من كلمة ‏‎ Trober‏ الفرنسية القديمة بمعنى ‏‎"‎وجد وابتكر"، ‏فالتروبادور ‏‎ Troubadour‏ عندهم اسم فاعل يطلق على ‏‎" ‎الشخص المبدع ‏والمبتكر". وتطوّرت كلمة‎ ‎التروبادور عند الفرنسيين، فصارت في اللغة الفرنسية ‏الحديثة ‏Troubador ‎‏ بإرجاعها إلى مصدر‎ Trouver ‎بمعنى وجد.‏

أمّا أصحاب النظرية اللاتينية، فقد اعتبروا أنَّ كلمة تروبار‎ Tropare ‎تحريفٌ لكلمة ‏توربار ‏Turbare‏ التي تدلّ في اللغة اللاتينية على الاهتزاز والاضطراب.‏

ويرى أصحاب نظريّة الأصل العربي، أنَّ كلمة التروبادور، أصلها عربي فهي: ‏مشتقة من الفعل طرب، بمعنى: تغنّى، وكانت من عادة الإفرنج تقديم الصفة على ‏الموصوف، (طرب دور) وسهل تحريفها إلى (تروبادور) أو قد تكون (تروبار) من ‏فعل طرب في العربية، بمعنى عزف الموسيقى، فأضيف حرفا "آر" تماشيًا مع قواعد ‏لغتهم، وقالوا: طروبا أو طروبار.‏

والأصل العربي لكلمة تروبادور له ما يثبته، فهناك شبه بين طرب وطروبار من ‏جهة، وبين تروبادور ودور طرب من جهة أخرى، ذلك من حيث المعنى والنطق، ‏وهذا ما يجعلنا نسلِّم أنَّ كلمة تروبادور أصلها عربي.‏‎ ‎ويضاف إلى هذا أنَّ كلمة ‏التروبادور، لها المفهوم نفسه عند الأوروبيين، والعرب، من حيث أنها تعني وجد ‏الشيء، كما تعني أيضًا أحبَّ حبًا شديدًا‎.‎‏ ‏

وشعراء التروبادور كانوا فنانين عشاق، تغنّوا بالحب والمروءة، يعترفون من خلال ‏أشعارهم بالهيام، ويرسلون عبارات الشوق والإجلال إلى أحبّتهم. ‏

وعُرف شعراء التروبادور في العصور الوسطى في أواخر القرن الحادي عشر، وهم: ‏شعراء متجوّلون يدورون في البلاد، ينتقلون من قصر إلى قصر، ومن بلاط إلى بلاط ‏في جنوب فرنسا، ينشدون أغاني الحب على وقع الآلات الموسيقية، ويتميّز هذا الحب ‏الذي ينشدونه بعذريّته، يصف الشاعر في شعره نشأة الحب من أوّل نظرة، ويحاول ‏استرضاء الحبيب، ويصف حلاوة الوصل ولذته، وخضوعه لها. ووجد فيه الباحثون ‏الأوروبيون غرابة، لأنَّ المذهب الذي اتّبعه شعراء التروبادور في القرن الثاني عشر، ‏يختلف اختلافًا جوهريًا عمّا عُرف من نماذج الحب في التراث الغربي، من حيث ‏تمجيد هؤلاء الشعراء للمرأة، وتقديسها، وهي في نظر‎ ‎المجتمع الأوروبي -قبل شعراء ‏التروبادور- منزلتها أدنى من الرجل، وينقصها العقل‎.‎

‎ ‎ولو أمعنّا النّظر إلى حال المرأة في العالم الغربي في ذلك الوقت،‎ ‎نجد أنها كانت ‏منبوذة ضائعة الحقوق لا اعتبار لها، وهي وسيلة للّذة الحسيّة على حدّ تعبير "ديمو ‏ستيس" الخطيب والسياسي عن المرأة: ‏‎"‎لدينا محظيّات لغرض اللذة وبغايا‎ ‎لحاجات ‏أجسادنا اليوميّة، وزوجات لإدارة بيوتنا، وليحملن لنا أطفالًا شرعيين".‏

ولم يكن للمرأة الحق في التعليم بحسب ما قاله القديس بولس، بل عليها أن تطيع وأن ‏تخدم وتسكن. هذه صورة المرأة في العصور الوسطى التي جعلت بعض الباحثين ‏يستغربون من ظهور شعراء التروبادور، الذين كانوا يمجِّدون المرأة، ويرفعون من ‏منزلتها، ويصفونها بأجمل الصفات. ‏

ونتساءل هنا: كيف حصل هذا التحوُّل؟ كيف ارتقت الأخلاق لدرجة أن أعطت للمرأة ‏هذه المكانة السامية؟ هل تأثر هؤلاء الشعراء بالعرب الذين جاوروهم في الأندلس؟ كل ‏هذه التساؤلات سنحاول تقديم إجابة عنها في ما يلي.‏

ظهر شعراء التروبادور في إقليم بروفنس جنوب فرنسا، في فترة زمنية بين 1101- ‏‏1292م، ويمتد هذا الإقليم من نهر الرون شمالًا إلى جبال البروفس، وجبال الألب ‏شرقًا، إلى المحيط الأطلسي غربًا، وقد كان هذا الإقليم في ذلك العصر مقسّمًا إلى ‏دويلات صغيرة، والتي لم تكن تربطها وحدة سياسية، إلا أنه كانت لهم الحضارة ‏والثقافة واللغة نفسها.‏

وبحسب إحصاءات الباحثين المتخصصين في شعر التروبادور، فإنَّ عدد شعراء ‏التروبادور قد تجاوز خمسمئة شاعر، وكان من بينهم الملوك والأمراء والنبلاء، ويعدُّ ‏عهد الملك "غليوم" التاسع (1071-1127م) أول هؤلاء الشعراء، الذي طعّم شعره ‏بألفاظ عربيّة، عجز عن تفسيرها الكثير من المؤرخين‎.‎‏ ‏

وقد كان من بين شعراء التروبادور نساء شاعرات، عبّرن في شعرهن عن حبهن ‏وعشقهن، بمقاطع غزليّة على أنغام موسيقية، أعجب بها كل مَن سمعها، ومن ‏أشهرهن "كونتيس بياتريس دودي"،‎ ‎وعلى الرّغم من هذا الكم الهائل من شعراء ‏التروبادور، إلا أنَّ ما وصل إلينا من شعرهم قليل جدًا، ذلك لأنه ضاع، ولربما حدث ‏له ما حدث للموشّحات عند ظهورها، حين عزف المؤرّخون الأوائل عن تدوينه، لأنهم ‏عدّوه خارج ديوانهم.‏

ونجد أول مؤرخ فرنسي كانت له الجرأة في إيراد أشعار "غليوم" التاسع وهو ‏التولوزي "دي هو تزير" الذي أورد سنة 1657م في كتابه تاريخ أكيتانيا‎ Histoire ‎aguitoine‏ ‏d'‎‏ قصيدتين للشاعر "غليوم" التاسع، غير أنه اعتذر عند ذكره ‏للقصيدتين، لأنه أورد بها سخافات المراهقة، وخرافات الشيخوخة، فالمؤرخون ‏الفرنسيون القدامى، عكفوا عن تدوين شعر التروبادور، لأنهم ترفعوا عنه، وهذا ما ‏أدّى إلى ضياع الكثير منه‎. ‎

ولم يسلم من الضياع إلا ديوان آخر كبار شعراء التروبادور، وهو "جيروت وريكي"، ‏الذي بقيت قصائده محفوظة بعددها البالغ تسع وثمانين أغنية، مع خمس عشرة من ‏الرسائل الشعرية‎. Epitre Umees ‎

تميَّز شعر التروبادور بمجموعة من الخصائص منها اللغة؛ حيث نظم أوائل شعراء ‏التروبادور أشعارهم بلغة "أوك‎"‎‏ على الرغم من أنهم لم يكونوا ينتمون إلى لغة بلاد ‏أوك بفرنسا، ذلك لأنَّ لغة الشعر و"الأدبكانت أوك" ليست في جنوب فرنسا فحسب، ‏بل في شمال إسبانيا أيضًا، ولغة أوك لم تكن وسيلة للتعبير عن الأدب فقط، وإنما ‏كانت لغة دولة، وتميزت بها عن غيرها من الدول.‏

ومن المميزات الأخرى لهذا الشعر التغني أو الغناء‎:‎‏ فشعراء التروبادور، ينظمون ‏أشعارهم على وقع نغمات موسيقية، أي يتغنّون بأشعارهم، ومن مقوّمات شعر ‏التروبادور الأساسية‎:‎‏ النغمة الموسيقية، والشكل العروضي، والمضمون الغرامي. ‏

كما تميّز شعر التروبادور بالقوالب العروضية‎:‎‏ إذ أحصى بعض الدارسين أنواع ‏المقاطع‎ ‎كالأشطار‎ syllabes ‎والقوافي‎ Rimes ‎المختلفة التي استخدمها شعراء ‏التروبادور في مقطوعات القصائد، فوجدوا (817) نوعًا من المقاطع و(411) نوعًا ‏من أشطار الأغصان و(1100) نوعًا من القوافي.‏

إنَّ شعر التروبادور في أغلبه يفيض بعواطف النبل، وأخلاق الفروسية المهذبة ‏واحترام المرأة، وخضوعه لها، ويعتبرها رمزًا للعفة والطهارة، ممّا لا نظير له في ‏الشعر الأوربي قبل ظهور التروبادور، وهو ما يجعلنا نتساءل عن أصول هذا الشعر ‏‏(التروبادور‏‎(‎‏.‏

 

 

المصادر والمراجع:‏

‏1-‏ Levi, petit dictionnaire provençal français, Heidelberg ‎‎,1966, p 373‎

‏2-‏ أحمد أمين، ظهر الإسلام، النهضة المصرية، القاهرة، ج3، ص236.‏

‏3-‏ عبدالاله ميسوم، تأثير الموشحات في شعر التروبادور، ص151.‏

‏4-‏ عبدالواحد لؤلؤة، الصوت والصدى، المؤسسة العربية للنشر، بيروت، ط1، ‏‏2005، ص2.‏

‏5-‏ ماكس بشار، التمهيد للفن الموسيقي، القاهرة، 1973، ص134.‏