أدباء محاربون من الغرب ‏"آندري مالرو"‏

عبدالحميد محمد الراوي ‏

كاتب وباحث تربوي ‏

 

بَرْهَنَ الكاتب "آندري مالرو" على عزم لا يكلّ طيلة أيّامه كي يجعل مراحل حياته ‏المختلفة تشبه فصول قصة، وكان مستعدًّا للتضحية في سبيل الوصول إلى هدفه. ‏فكان يرمي من خلال مواقفه، ومن خلال ما كتب من قصص، إلى أن يذكِّر الناس ‏‏"بالنُّبل الذي يحملونه في داخلهم" بحسب تعبيره. ولعلَّ في هذه السيرة المقتضبة عن ‏حياته ما يشي للقارئ بأنَّ "مالرو" كان بحقّ شخصية مثيرة للجدل.‏

 

أصيب الفرنسيون بالدهشة لمّا أعلن "آندري مالرو" في شهر كانون الأول/ ديسمبر ‏‏1971 -وكان عمره حينئذ سبعين سنة- عن عزمه السفر إلى باكستان الشرقية ‏للانضمام إلى صفوف المقاتلين من أجل انفصال بنغلاديش، وكان النحول والضعف ‏يبدوان في ذلك الوقت على جسمه، مما جعل الكثيرين يشكّون في جدوى الخدمات ‏التي يمكنه أن يقدِّمها إلى العسكريين.‏

فهل كان "مالرو" بصفته واحدًا من ألمع كُتّاب هذا العصر، ووزيرًا مرتين للجنرال ‏‏"ديجول"، وصديقًا حميمًا لبعض عظماء العالم -ماو تسي تونغ، تروتسكي، ديجول، ‏هيرو هيتو، هيلي سلاسي، نهرو، كندي، وغيرهم- هل كان يفكر في أنه، بوضعه ‏لاسمه في الميزان سيعجِّل بإنهاء المعارك؟ أم هل كان يريد مجرَّد التذكير بأنه شارك ‏في أكبر معارك ذلك القرن؟ وأيًا كان الجواب، فإنَّ حرب بنغلاديش انتهت قبل أن ‏ينتهي "مالرو" من ترتيب شؤونه ويغادر باريس. ‏

ولا شكَّ أنَّ في هذا السفر المُعلن، الذي لم يتمّ، شيئًا مثيرًا للعواطف لدى أولئك الذين ‏عرفوا هذا الكاتب، الذي برهن عن عزم لا يكلّ طيلة أيامه على جعل مراحل حياته ‏المختلفة تشبه فصول قصة، والذي كان مستعدًا للتضحية -إذا دعت الحاجة- في سبيل ‏الوصول إلى هدفه. فكان يرمي من خلال المَثَل الذي ضربه، ومن خلال ما كتب من ‏قصص، إلى أن يذكِّر الناس "بالنبل الذي يحملونه في داخلهم" بحسب تعبيره. أمّا ‏حياته التي طبعها مزاجه العصبيّ، فإنها أثّرت إلى حد كبير على قصصه، فتميّزت ‏هذه بدورها بأسلوب عصبي وكان هدفه فيها "توسيع أكبر خبرة ممكنة إلى وجدان (أو ‏إدراك للذات، أو ضمير)" بحسب قوله.‏

كانت حياة "آندري مالرو" قصة حقيقيّة(1)، فقد وُلد في مدينة باريس سنة 1901م ‏ومات بالمدينة نفسها عن عمر يناهز 75عامًا في يوم 13-11-1976م، ولم يعرف ‏سوى قليلين من مشاهير الكتاب الغربيين ما عرفه "مالرو" من شهرة ومجد. وبعد ‏عشر سنوات من موته، ما زال تراثه يذكِّرنا بأنَّ تاريخ الرجال يحتاج إلى أن يحتوي ‏على نسبة من روح المغامرة والشجاعة، وعلى قدر من الميل الحقيقي إلى المثاليّة. ‏

لولا "كلارا" لكنتُ أصبحتُ فأر مكتبة

كان والد "مالرو" مخترعًا، ثم رجل أعمال، ولم يلبث أن طلّق والدته الإيطالية ‏الأصل، فاضطرّت هذه الأخيرة إلى العمل كبائعة أغذية في إحدى ضواحي باريس ‏لتربية ابنها، ويقول "مالرو": ‏

‏"إنني كنتُ أبغض طفولتي التي قضيتها في دكان والدتي، لأنَّ الحياة في ذلك المكان ‏كانت رديئة"، وهذا ما قاده إلى التواجد بصورة شبه مستمرة في مكتبة البلدية، حيث ‏تمكَّن من قراءة عدد كبير من الكتب، وهو ما يزال تلميذًا في الابتدائية.‏

ولمّا بلغ الخامسة عشرة من العمر، بدأ يستكشف صناديق بائعي الكتب القديمة على ‏أرصفة نهر السين(2) ويبيع الكتب النادرة التي يحصل عليها لإحدى مكتبات الحيّ ‏اللاتيني(3) فطبعت أحداث التاريخ حياة "مالرو" تمامًا كما طبعتها الكتب، فأشار إلى ‏هذا القرن بواسطة استعارة حيث قال إنه عبارة عن "شاحنة تنتصب عليها الأسلحة ‏‏(كما يغطي الشوك بعض الأشجار)؛ ذلك لأنه شاهد في الثالثة عشرة من عمره -إبان ‏الحرب العالمية الأولى- سيارات الأجرة من الأحجام المختلفة وهي تنطلق من مدينة ‏باريس محمَّلة بالجنود المدجَّجين بالسلاح نحو جبهة المارن إلى الشرق، ولأنَّ دويّ ‏المدافع كان آنذاك يصمّ أذنيه. ‏

كان "مالرو" في السادسة عشرة من عمره لمّا استولى الشيوعيون على الحكم في ‏روسيا سنة (1917م)، وانتهت الحرب العالمية الأولى ولم يبلغ بعد سبعة عشرة سنة، ‏وكانت سنّه دون العشرين لمّا أسّس الحزب الشيوعي الفرنسي بمدينة تور -شمال ‏فرنسا- على مبادئ الشيوعية، ولما أقام موسوليني الحزب الفاشي في إيطاليا.‏

وكانت هذه الأحداث المهمة المتتالية أكثر ما يلزم لينمو تعطُّش كبير للعمل المؤثِّر لدى ‏هذا الشاب المضطرب الخيال، وهذا أيضًا ما جعله يختلف بصورة جذريّة عن أفراد ‏الجيل الذي سبقه، إذ كان هؤلاء يضعون الأدب فوق كل شيء "وبالنسبة لهم، لم يتغيَّر ‏شيء في الحياة، مع أنَّ التاريخ مرَّ في حقلنا كما تمرُّ الدبابة" بحسب تعبير "مالرو". ‏

وفي سنة (1919م) كان "مالرو" شابًا يحب التأنق، يعيش بمكافآت زهيدة يحصل ‏عليها بواسطة اكتشاف طبعات نادرة لصالح تاجر كتب، وبعد أن قرَّر عدم الترشُّح ‏لشهادة الثانوية العامة، تابع بعض الدروس لتعلم اللغتين الصينية والفارسية بمدرسة ‏اللوغ الشرقيّة الحيّة، وجمع بعض المعلومات عن تاريخ الفن في مدرسة اللوفر. ‏

بدأ ينشر مقالاته وهو في الثانية عشرة من عمره في مجلات ذائعة الشهرة، وما فتئت ‏محاولاته الأدبية الأولى هذه أن لفتت إليه انتباه كبار النقاد. وفي هذه الظروف صادف ‏شابة، شدَّته إليها بذكائها وجمالها، تدعى "كلارا جولد شميدت"(4) فقرَّر بسرعة أن ‏يتزوَّجها، وقال لها بعد ذلك بفترة: "لولاك يا كلارا كنتُ أصبحتُ فأر مكتبة"، ولمّا ‏سألته "كلارا" كيف ينوي أن يوفر لها المعيشة، أجاب قائلًا: "ممّا لا شك فيه أنك لا ‏تتصورين أنني سأعمل من أجل ذلك". ‏

افتتاحيّات ملتهبة حماسةً لصحيفة محظورة

كان "مالرو" يفكر في إنجاز مشروع خاص، حين اكتشف في تقرير أعده أحد ‏اختصاصيي الآثار أنه يوجد على القرب من أنجكور في كمبوديا معبد صغير متداعي ‏الجدران مختبئ في الأدغال بين الأشجار المتشابكة، يحتوي على رسوم بارزة في ‏غاية الجمال، فقال في نفسه إنَّ هذه العجائب الفنيّة التي طواها النسيان وشملها ‏الإهمال، لا بد أنه إذا نجح في اكتشافها وانتشالها، سيجد من بين عشاق الفن مَن ‏يشتريها منه. فسافر مع زوجته "كلارا" إلى الهند الصينية، بعد أن جمع ما سيحتاجان ‏إليه من مناشير وأدوات أخرى، وملابس صيفية وغيرها، إلا أنَّ المغامرة سرعان ما ‏فشلت فاعتُقل "مالرو" وأُحضر إلى المحكمة، فقال دفاعًا عن نفسه: "إنَّ المعبد الذي ‏كان ينوي تجريده من محتوياته الفنيّة النادرة الجميلة لم يكن قد تمَّ بعد اعتباره أثرًا ‏تاريخيًّا بصفة رسميّة، وإنَّ الحجارة في هذه الحالة تعتبر ملكًا لمن يكتشفها"، وهذه ‏الحجة باطلة بالطبع وغير مقنعة، فاستطاعت "كلارا" أن ترجع إلى فرنسا، وفي ‏باريس استنجدت بعدد من الكُتّاب الذين تضامنوا مع "مالرو" وتظاهروا من أجل ‏إطلاق سراحه، وحوِّل الحكم بعد الاستئناف إلى سنة واحدة مع تأجيل التنفيذ ثم ألغي. ‏

وعلى الرغم من هذا الفشل والإذلال الذي تعرَّض له، فإنَّ "مالرو" قرَّر العودة إلى ‏الهند الصينية مرة أخرى، وكان إبان محاكمته قد تمكَّن من اكتشاف الظروف السيّئة ‏التي كان يعيش فيها الفيتناميون والكمبوديون تحت السيطرة الاستعمارية الفرنسية: ‏حيث كان السبعة عشر مليونًا، الذين شكّلوا سكان الهند الصينية آنذاك يُستغلون ‏استغلالًا بشعًا كيدٍ عاملةٍ رخيصة في مزارع أشجار المطّاط والأرز، بينما كان قليلون ‏منهم -في أحسن الأحوال- يُستغلون كموظفين صغار في مكاتب الحكومة الاستعمارية، ‏دون أيّ أمل في الارتقاء في سلّم الإدارة، فأسَّس "مالرو" مع "كلارا" ومحام فرنسي ‏من سايجون، يدعى "بول مونين" صحيفة أطلقوا عليها اسم "الهند الصينية" للدفاع عن ‏حقوق السكان المحليين. ‏

وهنا نرى "مالرو"، المحتج الحاد، يعبِّر بغضب عن آرائه المُعادية للاستعمار في ‏افتتاحيات هذه الصحيفة الأسبوعية الصغيرة، بعزم لا يكلّ؛ فلم تثنِه تهديدات ذوي ‏النفوذ ولا تحذيرات الوالي، ولا افتراءات الصحف المحليّة المرتبطة بالفئات ذات ‏المصالح. ولمّا لم تجد السلطات الاستعمارية وسيلة قانونية لمنع صحيفة "الهند ‏الصينية" من الظهور، قرَّرت تشديد الضغط على أصحاب المطابع لمنع إصدارها، إلا ‏أنَّ "مالرو" وزوجته صمدا في وجه كل هذه الضغوط، فاشتريا حروفًا مطبعيّة من ‏هونغ كونغ، وصارا ينجزان طباعة الصحيفة في القبو الذي كانا يسكنان فيه، إلا أنهما ‏ما لبثا أن أدركا أنهما لا يستطيعان الاستمرار طويلًا على هذه الحال غير الطبيعيّة، ‏وبعد سنة من ممارسة عملهما الشاق، أرغما على الرجوع مهزومين إلى فرنسا. ‏

وعلى متن الباخرة التي نقلته إلى فرنسا كَتَبَ "مالرو" قصته الشهيرة (إغراء الغرب). ‏لقد شكلت تجربته الأسيوية حافزًا قويًا لبروز موهبته، فاستلهم من مغامراته في الهند ‏الصينية أربعة كتب، بين (1986- 1933) نال بواسطة أحدها  "الدرب الملكي" ‏LA VOIE ROYALE‏ جائزة الحلفاء المشتركة، وبواسطة آخر "الوضع البشري" ‏LA CONDITION HUMAINE‏ جائزة "جونكور" بإجماع أعضاء لجنة ‏التحكيم، وفي غضون بضعة أسابيع، بلغت هذه القصة الأخيرة طبعتها الخامسة ‏والعشرين. ‏

إسبانيا مسرح على مستوى طموحه

استطاع "مالرو" ببراعة فائقة، أن يحوِّل ترجمة حياته إلى أسطورة، ولم يتمكَّن من ‏القيام بمثل هذا التحويل، بالبراعة نفسها، سوى قليلين من الكتاب، وبما أنه وصف ‏الثورة الصينية في صفحات رائعة من قصته الشهيرة، "الفاتحون" ‏LES ‎CONQUERANTS‏ نما لدى الجمهور بأنه كان مناضلًا كبيرًا، ولم يحاول ‏‏"مالرو" نفي هذا التصوُّر على الإطلاق، بل على العكس حافظ بمهارة على استمرار ‏الغموض حول فلسفته السياسية. ‏

وفي الواقع اكتفى "مالرو" بتحويل ما شاهده من غليان شعبي في الهند الصينية إلى ‏الصين نفسها مستعينًا في هذا التغيير بمواهبه الفنية ككاتب، وهذا ما جعل ‏‏"تروتسكي"، زميل "لينين"، ومؤسس الجيش الأحمر الروسي، يرى فيه أحد ‏المسؤولين الأساسيين عن تمرُّد مدينة كانتون جنوب الصين، والحقّ أنه إذا كان ‏‏"مالرو" معارضًا شديدًا للفاشية، فإنه لم يكن شيوعيًا ماركسيًا، بل كان فكره متعلقًا ‏بالأساطير والأحلام والأوهام، أكثر ممّا كان فكرًا ماديًّا، بل يمكننا القول إنَّه كان من ‏أكثر أهل عصره معارضة للشيوعية.‏

كانت أسطورة "مالرو" ما زالت في بدايتها، فقاده تعلُّقه الشديد بالمغامرات إلى السفر ‏بصحبة مواطنه، الطيار "إدوار كونغليون مولنيه" نحو الجزيرة العربية بحثًا عن ‏عاصمة ملكة سبأ الشهيرة. ‏

ولمّا شبَّت الحرب الأهلية في إسبانيا يوم (18 يوليو سنة 1936م) صار "مالرو" ‏فجأة قائد سرب من طائرات الجمهورية يحمل اسم ‏ESPANA، فعلى الرغم من أنه ‏لم يؤدِّ الخدمة العسكرية، ومع أنه كان عصبيًا جدًا، وبعيدًا كل البعد عن المهارة ‏التقنيّة، ولا يفتر عن التدخين، إلا أنه استطاع، وهو يقود طائرة مقاتلة، أن يستغل ‏علاقاته -التي كانت مهمة جدًا- من أجل حصول مدريد على طائرات وتجنيد طيارين ‏كان لهم دور مهم في المعركة.‏

إلّا أنَّ الطائرات المُشار إليها كانت غير ملائمة، بحيث كان لا بد من إلقاء القنابل من ‏النوافذ، وبعد ستة أشهر لم يبق من السرب سوى أربع طائرات، وما وصفه "مالرو" ‏من بطولة وأخوّة لدى رفاق السلاح في قصته المشهورة "الأمل" لم يكن أمرًا خياليًا ‏على الإطلاق، بل كان صورة حيّة لما جرى بالفعل، فكان الوصف الرائع للمعارك ‏الحربية التي شنّها هؤلاء الرجال مستوحى من الواقع، ومن هنا جاءت على الأرجح ‏روعته "إننا قاتلنا من أجل قيم كنّا نعتبرها شاملة مطلقة" كما قال. ‏

‏"مالرو" يقاوم الاحتلال الألماني لبلاده

وفي شهر أيلول/ سبتمبر من عام (1939م) التحق "مالرو" بكتيبة من المدرّعات ‏بمدينة بروفين كجندي بسيط متطوِّع، وكان عمره حينئذ ثمان وثلاثين سنة، وما فتئ ‏رفاقه الجدد أن لاحظوا أنَّ سترته غير نظاميّة، ذاك أنَّ "مالرو" الذي كان يحب ‏الأناقة، كان قد كلّف مصمم الأزياء الشهير "لانفين" بإنجاز هذه السترة. ‏

وكان يتباهى بمعرفة بعض الوزراء وعدد من أعضاء المجمع الفرنسي ‏ACADEMIM‏ الشهير. وما كان هذا المظهر الأنيق وهذا التباهي بمعرفة بعض ‏أرباب السياسة والفكر ليطيبا لقائد الكتيبة الذي اشمأزَّ من "مالرو"، وأمره بالسَّير ‏مسافة ثلاثين كيلو مترًا، إلا أنَّ هذا الجهد المضني لم يثنِ من عزمه، فلم يتراجع ولم ‏يطلب الإعفاء من الخدمة، بل تحمَّل وكزَّ أسنانه. ‏

وفي الأيام الأولى من انهيار الجيش الفرنسي، ألقى الألمانيون القبض على جميع أفراد ‏الكتيبة واستولوا على معدّاتها بالكامل، على بعد عدة كيلو مترات من قاعدتها، ‏فاستطاع "مالرو" أن يهرب من سجن أعدائه، وانسحب إلى المنطقة الجنوبية، وبدأ في ‏الانتظار والمقاومة. ‏

وفي شهر آذار/ مارس (1944م) استطاع عقيد يدعى "برجي" أن يُحكم سيطرته ‏على جماعات المقاومين، الذين كانوا يلاحقون المحتلّ الألماني باستمرار في منطقة ‏دوردونيه، وبفترة وجيزة بعد انزال الحلفاء، شارك "مالرو" هو والعقيد "برجي" ‏بوحدته في عمليات حرب العصابات التي أسهمت في عرقلة تقدُّم فرقة س س ‏SS‏ ‏المنتخبة الشهيرة، داس راسش ‏DAS REICH‏ وفي شهر أيلول/ سبتمبر أمسك ‏‏"برجي" و"مالرو" بزمام قيادة لوء الزاس- لورين الذي كان عدد أفراده لا يتجاوز ‏ألفي رجل مجهزين تجهيزًا سيّئًا، والذي اشتهر بتحرير مدينة دانماري قبل أن يساهم ‏في احتواء الهجوم المضاد الذي شنَّه الألمانيون وكادوا بواسطته أن يسترجعوا مدينة ‏ستراسبورج.‏

هكذا أنهى الجندي البسيط "مالرو" الحرب بعد أن ألحق بالنازيين خسائر أكبر من تلك ‏التي ألحقها بهم جلّ الضباط المحترفين. ‏

صديق موهوب يحمل حماسةً كبيرةً للأقدار العالية

كان "مالرو" يرى أنَّ أيّ رجل "لا بد أن يكون متعلقًا بمثل أعلى" وأنه "ينبغي أن ‏نبحث في ذاتنا عن شيء آخر غير ذاتنا"، "ولا يحدّد قدره إلا بما تمكَّن من الوصول ‏إليه فعلًا، وما عدا ذلك ليس سوى أسرار تفيهة حقيرة". ويضيف "مالرو": "لا يهمّني ‏ما لا يهم إلا إيّاي" وهذا ما جعله لا يبوح إلا بالقليل من أسراره الخاصة. ‏

ومع أنه فُتن بحب العمل الموضوعي وجنَّد نفسه له، إلّا أنه كان مفكرًا يعتقد أنَّ ‏الأفكار تسمو على كل شيء، وكان بالفعل لا يشعر بالراحة الكاملة إلا في المتاحف، ‏وبين الكتب والآثار والتحف الفنية. وهكذا، لمّا عثر على ابنته "فلورنس" في نهاية ‏الحرب، بعد فراق دام خمس سنوات، وكان عمرها (12) عامًا عاجلها بهذا السؤال: ‏‏"ماذا تقرئين يا فلورنس؟". إلا أنَّ هذا المستوى من البراعة الفكريّة لم يقضِ تمامًا ‏على ما كان "مالرو" يخفيه من كرم النفس، فقد ترك زوجته "كلارا" سنة (1963م) ‏وعاش مع صحفيّة شابة تدعى "جوزيف كلوتيس" منذ سنة (1973) وأنجبت له ‏ابنين. ولأنَّ بعض فئات المجتمع كانت تُلاحَق ويتمّ نفيها في الفترة التي انفصل فيها ‏عن "كلارا"؛ فإنه لم يُطلّقها علنًا حتى لا يتركها دون حماية في تلك الظروف القاسية.‏

‏"مالرو" وزيرًا

ولمّا تعيَّن "مالرو" وزيرًا فإنَّ كثيرين من أولئك الذين أحبّوا فيه الرجل العملي، ‏والرجل الثائر، لم يرتاحوا لهذا التطوُّر الذي طرأ على حياته، وصاروا لا يعترفون به ‏تمامًا، لأنه تعدّى بدخوله في الحكومة على أحلامهم وأوهامهم وتصوُّراتهم. ‏

غدا "مالرو" وزيرًا للثقافة ابتداء من سنة (1959م) بعد أن قضى فترة وجيزة في ‏مكتب "ديجول" بصفته وزيرًا للإعلام في عام (1945- 1946)، وصار يبغض ‏سنوات شبابه التي قضاها في الفقر، ولا يكره مظاهر السلطة الخارجية، ولا رغد ‏العيش، ولا المطاعم الشهيرة ولا المواكب الرسمية، وكان كثيرون يتساءلون كيف ‏يمكنه أن يؤيِّد حكومة كانت تعمل على استمرار حرب الجزائر. ‏

وكان جوابه عن هذا التساؤل، والنقد الذي ينطوي عليه كالآتي: (أين يوجد أفضل ‏مدخل لإنهاء هذه الحرب؛ في مقهى "لفلور"(5) أم داخل الحكومة؟). إنَّ دخول ‏‏"مالرو" في الحكومة أعانه في الواقع على العمل السرّي لتخليص عدد من المناضلين ‏الجزائريين من أسوأ السجون الفرنسيّة. ‏

وفي سنة (1961م) عندما قام القادة العسكريون الفرنسيون المتواجدون في الجزائر ‏يتمرُّد ضدّ حكومتهم نكتشف أنَّ "مالرو" ما زال منسجمًا مع أسطورته، حيث صرَّح ‏إبان إنعقاد مجلس الوزراء أنه سيصعد على أوَّل دبّابة لمحاربة المتمردين، وكتب ‏‏"ديجول" في "مذكرات الأمل"(6): "يجلس إلى يميني، وسيجلس دائمًا آندري مالرو، ‏فوجود هذا الصديق الموهوب المتحمس للأقدار العالية إلى جانبي يجعلني أشعر أنني ‏من هذه الجهة في مأمن من الغوغاء".‏

كان يحلم أن يكون "جول فري" الثقافة

بقى "مالرو" وزيرًا للشؤون الثقافيّة في حكم الجنرال "ديجول" لمدة عشر سنوات من ‏‏(1959) إلى (1969) الأمر الذي مكَّنه من تحقيق حلم طالما راوده، وتطبيق سياسة ‏ثقافيّة طالما فكّر فيها. ‏

هكذا أشرف على تأسيس عدد كبير من دور الشباب والثقافة في جميع أنحاء فرنسا ‏تقريبًا، وكانت فكرة إنشاء مثل هذه الدور تخامره منذ أربع عشرة سنة، وبالتحديد منذ ‏سنة (1946م)، فكان من أحلامه الكبرى أن يقدِّم للثقافة في بلاده خدمة تضاهي تلك ‏التي قدَّمها "جول فري"(7) في مجال التعليم العام. ‏

وفي سنة (1971م) نشر "مالرو" كتابه الصغير "أشجار البلوط التي تُصرع" الذي ‏وصف فيه زيارته الأخيرة للجنرال "ديجول" بكولومبي في شهر كانون الأول/ ‏ديسمبر عام (1969م) قبل موت هذا الأخير بعشرة أشهر، فوصف وقت مغادرته ‏لـِ"ديجول" بقوله: "إنَّ النجوم كانت تتلألأ في السماء"، لكنَّ هذا القول منافٍ تمامًا ‏للحقيقة، ويغلب على الظنّ أنَّ هذه العبارة هي من مادة ما يُعرف بـِ"الكذب الشعري أو ‏الفني" الذي استعمله "مالرو" كثيرًا، ولكنها –في الوقت نفسه- كانت بمثابة إشارة إلى ‏بقاء الأمل في قلبه. ومهما كان فإنَّ المؤرخين الذين ليسوا من أرباب الفن سجَّلوا هذ ‏اللقاء الأخير بين "مالرو" و"ديجول"، وأفادوا أنَّ المقابلة المُشار إليها انتهت عند ‏الساعة الثالثة بعد الظهر، وأنه في ذلك الوقت لم تكن أيّ نجمة تلمع في سماء ‏كولومبي. ‏

 

الهوامش والمراجع:‏

‏1-‏ مقال لجان لاكتور في مجلة المختار الشهرية، النسخة الفرنسية، رقم (447) نوفمبر ‏‏(1986م)، ص60-66. وانظر:‏

‏-‏ آندري مالرو، حياة هذا القرن، ظهرت هذه القصة سنة 1973م ‏

‏-‏ قصص مالرو المختلفة: أغراء الغرب 1925، الدرب الملكي، الوضع البشري، ‏الفاتحون، ظهرت هذه القصص الشهيرة بين سنة 1926- و1933م، ثم الأمل ‏‏1973، الأصوات الصامتة، والذكريات المعاكسة 1967م، أشجار البلوط التي ‏تُصرع 1971م ‏

‏2-‏ يشكل نهر السين أحد أشهر معالم مدينة باريس، إن لم يكن أشهرها على الإطلاق.‏

‏3-‏ ‏ يقع الحيّ اللاتيني في قلب المنطقة الإدارية الخامسة في باريس، وهو حيّ الثقافة ‏والطلاب والسوربون وغيرها؛ حيث توجد المقاهي والمطاعم الصغيرة والمكتبات ‏بكثرة، وجلّ روّاد هذه الأماكن من الطلاب والباحثين والفلاسفة والكتاب والفنانين، ‏بينهم نماذج من شتى أنواع العالم. ‏

‏4-‏ ‏ كلارا امرأة تزوجها مالرو في شبابه، ساعدته على القيام ببعض مغامراته. ‏

‏5-‏ مقهى معروف في الحيّ السابع في باريس، على شارع سين- جرمين، يبدو أنَّ جلَّ ‏روّاده من المثقفين والمتفلسفة المنحرفين جنسيًا.‏

‏6-‏ وهو آخر ما كتب، وجدير بالذكر أنَّ كتاب " ذكريات الأمل " بقى غير كامل بسبب ‏موت ديجول. ‏

‏7-‏ رجل دولة فرنسي (1832- 1893)م كان له الفضل في التصريح لأوَّل مرَّة بجعل ‏التعليم الابتدائي في فرنسا مجانيًّا خلال الفترة التي قضاها وزيرًا للتعليم العام، وكان ‏جول فري بجانب ذلك مستعمرًا كبيرًا، إذ ساهم مساهمة كبيرة في انتشار الاستعمار ‏الفرنسي وتوسيع نطاقه. ‏