الأردنيّون في الشيخ جراح... ‏ فرسان من دم وأرجوان

د. محمد عبدالكريم الزيود ‏

كاتب وقاص وأكاديمي أردني

 

الرُّوحُ الجعفريّة ما زالت تسكن الأردنيّين، وهم سلالة من شهداء الفتح الأوَّل في مؤتة، ‏ويوم هبّوا مع خالد بن الوليد لمجالدة الروم في معركة اليرموك على أطراف حوران، ثم ‏انتفضوا مع صلاح الدين الأيوبي ومشوا في جيشه نحو حطين لفتح بيت المقدس، وهم ‏أنفسهم عندما نادوا من "هيّة الكرك": "يا سامي باشا حنّا ما نطيع"... فالأردنيّون سطروا ‏ملاحمهم من طيب وقصائد عندما رفع سيفَه صايل الشهوان في وجه مدرَّعة الإنجليز في ‏بدايات تأسيس الدولة الأردنيّة، ونَثَرَ دمه بيانًا للناس أنَّنا لا نقبل الهوان ولو على رقابنا.‏

الشَّجاعة والأردنيّون صنوان لا يفترقان وحوادث التاريخ تشهد، منذ أن اعتلى كايد المفلح ‏العبيدات صهوة فرسه مع فرسان قبيلته قاطعًا سهول "سمخ"، يحمل حُبَّ فلسطين، ‏فاستقبل بصدره نيران طائرات الإنجليز ورصاص اليهود، فأكمل رسالته وهو صاعد ‏نحو السماء شهيدًا لقضيّة العرب، فإذا قادَ كايد العبيدات مجاهدي قرى إربد نحو فلسطين ‏من شمالها من طبريا، فقد تسامى معه من جنوبها المجاهد هارون الجازي وهو يقود ‏سريّة من مجاهدي الحويطات إلى القدس، وينضمُّ للقوات العسكرية في معركة باب الواد ‏ويسجِّل بطولة ملحميّة يتجاوز بها حدود القبيلة والحدود القُطريّة نحو الدم الواحد، ويُترجم ‏التزامًا وجدانيًّا وعقائديًّا مع قضيّة العرب الأولى.‏

في معارك فلسطين عام 1948 و1967 برز الجيش العربيّ الأردنيّ في الدفاع عنها، ‏وكان شاهدًا على البطولة الأردنيّة الممتدَّة عبر تاريخ طويل، وما آلاف الشهداء والذين ‏سكبوا دمهم وقدَّموا أرواحهم إلا جزءٌ مُضيء في الدِّفاع عن القدس وقرى وروابي ‏فلسطين.‏

حيّ الشيخ جرّاح هو أحد أحياء مدينة القدس، وأهالي هذا الحيّ يواجهون اليوم اعتداءً ‏صارخًا من قوات الاحتلال الإسرائيلي لترحيلهم أو هدم بيوتهم، ويخوضون معركة ‏قانونيّة وقبل ذلك معركة وجود ومصير، ربّما كثيرون لا يعرفون أنَّ الجيش العربيّ ‏خاض معركة كبيرة في الدِّفاع عن القدس، وكانت الكتيبة الخامسة من الجيش العربي ‏الأردني هي مَن حرَّرت حيّ الشيخ جرّاح عام 1948 من براثن العصابات اليهودية ‏بقيادة النقيب سليمان مسعود والملازم حمدان صبيح. أمّا كتيبة الحسين الثانية التي تلقّب ‏بـ"أم الشهداء" فهي مَن دافعت عن هذا الحيّ عام 1967 والذي يُعدُّ مدخلًا لمدينة القدس ‏من الشمال، وبجانبه تلّ المدوَّرة وسمِّي فيما بعد "تلّ الذَّخيرة" والذي استبسل به ‏الأردنيّون، حتى جعلوا الأعداءَ بعد نهاية المعركة يترجَّلون ويؤدّون التحيّة للشهداء ‏الأردنيين الشجعان.‏

تمَّ تكليف كتيبة الحسين الثانية قبيل حرب عام 1967 بقيادة الشهيد الرائد منصور ‏كريشان بالدِّفاع عن القدس من باب العامود وحتى الشيخ جرّاح، حيث استقرَّت سريّة ‏المشاة الثانية بقيادة البطل الرائد سليمان سالم السلايطة ليدافع عن منطقة الشيخ جرّاح.‏

‏تمكَّنت السريّة الثانية من صدِّ جميع الهجمات التي شنَّها العدوّ مساء يومي الخامس ‏والسادس من حزيران موقعًا بالعدوّ خسائر جسيمة، ولم يستطع العدوّ الاقتراب من ‏المواقع الدفاعيّة الأردنيّة على الرّغم من قيامه بمحاولات عديدة لاختراقها لكنه جوبه ‏بمقاومة شرسة، في صباح يوم الثامن من حزيران حشد العدوّ قوات كبيرة واستعان بلواء ‏‏"جولاني" من قوات النخبة وكذلك بلواء مشاة آلي، مسندًا بالطيران لقصف مواقع السَريّة، ‏إضافة لقيام العدوّ بإنزال كتيبة مظليّين في ملعب الشيخ جرّاح؛ وهو ملعب كرة قدم في ‏المنطقة، كما دفع العدوّ كتيبة دبّابات "شيرمان" التفَّت حول منطقة الشيخ جراح، عندها ‏أدرك سليمان السلايطة خطورة الموقف فجمع مَن تبقّى من جنود على قيد الحياة، وكان ‏معظمهم مثخنًا بالجراح، وخاطبهم وأثار حماستهم ونادى عليهم: "المنيّة ولا الدنيّة".‏

يقسم بالله المقدَّم نبيه السحيمات الذي كان قائدًا لسرية بوّابة المندلبوم في الكتيبة أنه سمع ‏قائد السريّة السلايطة يُنادي على قائد الكتيبة في جهاز اللاسلكي ويقول إنَّ العدوَّ اقتحم ‏خنادقنا ونحن نقاتله الآن بالسلاح الأبيض..!! واستشهد في تلك المعركة 97 شهيدًا وما ‏زالت منطقة الشيخ جراح تلمّ في ترابها رفات شهداء الجيش العربي الذين قاتلوا حتى آخر ‏طلقة وبعدما كبدّوا العدوّ الإسرائيلي مئات القتلى وبإعتراف وزير الدفاع الإسرئيلي ‏‏"موشيه ديان" فيما بعد.‏

جاء في الأخبار قبل أسابيع قليلة –خلال شهر آب  الماضي- أنَّ جرّافات الاحتلال ‏الإسرائيلي عثرت على رفات جندي من الجيش العربي في تلّ الذَّخيرة، أثناء مشروع خط ‏القطار في القدس، كان محمَّلًا بكل مقتنياته العسكرية؛ بندقيّته وذخيرته وحربته، يلبس ‏ساعة في يده وخاتمًا في إصبعه...‏

من جديد، وبعد أربعة وخمسين عامًا يخرج شهداء الجيش العربي من تراب فلسطين ‏ليقولوا لنا: "إننّا هنا، ومررنا من هذه التلال بالقرب من القدس.."، يخرجون من ‏حواكير الزيتون وبساتين التين والعنب ومعهم ذخيرتهم التي لم تصدأ، وحرابهم التي ظلّوا ‏نصف قرن متزنِّرين بها منذ تلاحمت الأيدي بالأيدي والصدور بالصدور في معركة ‏السلاح الأبيض...‏

هذه ساعته كما هي، توقَّفت عند الواحدة والثلث صباحًا، عندما اشتدَّت الرِّماية على مواقع ‏السَريّة الثانية في الشيخ جرّاح، كان ينادي قائد السرية الرائد سليمان السلايطة على ‏الفئات التي احتمت بالخنادق حول مخفر الشيخ جرّاح، قال لهم ما قاله له قائد كتيبة ‏الحسين الثانية الشهيد الرائد منصور كريشان ؛ "اليوم يومكم.. المنيّة ولا الدنيّة..".‏

ساعة الشهيد توقَّفت عندما توقَّف النَّبض، كانت الساعة مع الله، انفتحت السماء للأرواح ‏الصاعدة، توقَّفت الساعة عندما توقَّف القلب عن ضخِّ الدّم الذي فاض زكيًّا طاهرًا حارًّا ‏من ثقوب الجسد.. وظلَّت الأصابع على الزّناد ترمي، تباهى بالخاتم الذي أهدته إياه أم ‏صابرة أو حبيبة تنتظر عودته.. لم يتولَّ واستقبَلَ الرصاص في منتصف الجبين والصدر ‏أوسمة شجاعة حتى لقي وجه ربّه مع بقيّة زملائه...‏

أكثر من خمسين عامًا، وما زالت سَريّة الشيخ جرّاح وتلّ الذَّخيرة قصة تضحية وفداء، ‏استشهد 97 جنديًّا من السريّة.. اجتاح العدوّ المكان مع نداء الفجر، قدَّم جنود الجيش ‏العربيّ شهادةً مورَّدةً بأشرطة الدّم مغمَّسةً باللّحم المحروق والممزوج بالبارود.‏

سلام عليكَ أيها الشهيد الحيّ، وسلام على شهداء الجيش العربيّ في القدس ونابلس وتل ‏الذخيرة والشيخ جرّاح ووادي التفاح وجنين واليامون وصور باهر وقلقيلية.‏

سلامٌ عليكم يا أبطال جيشنا العربيّ الأردنيّ، وسلامٌ على دمكم الزكيّ وذكركم الندّي، ‏وسلام لجيش ما زالت مدافعه بوصلتها نحو الغرب، وقلوب أبنائه مشرَّعة لحُبِّ فلسطين ‏وما بدّلوا تبديلًا...‏